الفصل الثالث عشر
حين غمرتها الشمس الساطعة خارج العنبر، أخفى كل منهما عينيه بكفتي يديه، كان الوقت فيما بعد الضحى، الحر لا يطاق، وشعرَ هو بخطأ لارتدائه ملابسه بالكامل حتى الكارفاته حين تصبب عرقًا. كانت في بعض الأحيان تقوم بتجفيفه بمنديل يدها الصغيرة الرخيص، إلى أن جلسا على دكتين متقابلتين في ممشى الحديقة المحاذية للعنبر، وأجهدها المهاجر في معرفة جلية الأمر، مستشهدًا بما حدث في ذلك السيمنار المشئوم، ولم يخل الأمر من ذكر أمراض الشرق الأوسط المستعصية: اللاأمن، اللاتوازن، إسرائيل والضحية الأخيرة لبنان، وأحبولتها التي لا تبعد كثيرًا عن بحث الفنلندية الفاتنة حول الحزازير والفوازير، لحين وقوع الهجوم المفاجئ، وتهتك مبنى الأوتيل البحري والانبطاح أرضًا، ووصول سيارات النجدة والإسعاف.
وحين وصل هو في حديثه إلى حد زيارة الوزير والمسئولين أنكرت هي كلية معرفتها بهذا الأمر، وهي التي لم تصح إلا منذ حين.
حاول بصعوبة ضاعفت من نزف عرقه مدرارًا تذكيرها بالزيارة والفلاشات، ومداعبته التي عجز عن إيضاحها لحين فرحته بوصول منظاره الطبي حين ناوله له الرئيس ممتنًّا.
عاوده يأسه فلزم الصمت حين أصرت الفتاة الصغيرة على عدم تواجدها فيما حدث رغم الضجة والطنين وتعللت بالنوم، فوافقها مكرهًا، وهما يزحفان على طول مقعديهما في اتجاه معاكس للشمس الحارقة.
هنا وهناك على طول مرمى البصر تراصت العنابر المستطيلة الغارقة في الصمت، ومن حولها انتشر عمال نقل المرضى والمصابين الجرحى المقنعون يدفعون بنقالاتهم البيضاء في كل اتجاه بشكل منسق للغاية. في أقصى الأفق البعيد ينتصب مبنى إدارة المعزل، بلونه البني القاتم، وشرفاته الرحبة، ومن على رأسه ترفرف الأعلام الملونة في حركة عكسية لأسراب الطيور الضخمة العملاقة التي راحت تحلق ضاربة بأجنحتها طائرة في اتجاه دائري واحد، فيما حول القبة العملاقة التي ينتهي بها المبنى المدجج بالحراس والمقاتلين.
نبهته الفتاة الصغيرة وهي تأخذ بإصبعه بين راحتيها بألا يشير بإصبعه على هذا النحو: هس.
حاول نزع سبابته من بين يديها، موضحًا بأنه لا يعني المبنى الرئاسي لذاته بقدر ما هو يعني الجوارح، من حداءات ونسور وخفافيش، وتحليقها على هذا النحو، ولا شيء يطغى على سمع المكان بأكمله سوى أصواتها الجارحة المعدنية الصدى، تقطع أحبال صمت المبنى بأكمله.
– لا بد أن في الأمر وليمة.
أردف: بشرية.
انفصل كلية فجأة عن الفتاة، وعاودته زمة شفتيه وهو يتطلع بعينيه في توجس مستطلعًا المكان، الذي اختلط من فوره — داخل مخيلته — بأماكن لها ذات الصمت الموحش أو المتوحش ذاك، رغم إحاطتها بالكثير من المناظر البهيجة المنفتحة الخلابة، حيث لم يكن الأمر يخلو من شلالات مياه أهرامات مدرجة، بقايا أصنام هائلة الضخامة تنتصب في الأفق الأحمر القاني مع الغروب، قرى جبلية مطلة على هذا النحو، نيل وبحار وأشلاء غابات ونخيل مفرط الطول.
أما الفتاة، فغرقت بدورها في أفكارها طويلًا، تذكرت بلدة أمها عبلة التي كانت — القنيطرة — حيث تربت في حضن الجبل وجدتها.
– أين؟
البلدة ضاعت والجدة ماتت.
مضت تحكي له حكايات لا رابط بينها، عادة ما كانت تختتمها بأنها لا تعرف ولا تدري، وهي تشرح له بساعديها الدقيقتين راسمة شبه دوائر غير مكتملة في فراغ.
وتذكر هو من فوره بناءات وعوالم ومعمارية وفراغات ذلك المصور الميتافيزيقي السريالي، دي شيروكو، غمغم ملتاعًا: يا له من يوم!
من جديد عاود احتضانه للفتاة، مومئًا برأسه عاليًا إلى حيث الطيور المحلقة الضواري، بجلجلات أصواتها: إحنا هنا ليه؟
مرقت من حول مبنى الإدارة الشاهق البعيد، سيارتان سوداوان فاخرتان، تتصدرها الأعلام الرئاسية، نزل منها ركابها يضحكون متطلعين هنا وهناك باتجاه العنابر، والأسوار الشائكة المسورة للمعزل بكامله، وتناثر منهم بضع كلمات سمعتها الفتاة بدقة، حين أسرت في أذنه اليسرى مشرئبة: بيتكلموا عن وباء.
تساءل من فوره: وباء والا انفجار؟
تساءلت: إسرائيل.
وحين انسحب الضيوف داخلين المبنى الرئاسي، جاهد هو في ألا تعاوده الحالة، سعل طويلًا وبصق جانبًا دون أدنى تحرج من الفتاة البسيطة الرقيقة، التي حاولت مساعدته في ارتباك مما ألم به.
ونجح أيضًا هذه المرة في أن يركز اهتمامه المركزي على الجوارح المحومة تحت وهج الشمس حول المبنى بأصواتها الجرسية المدوية.
وما إن فتح عينيه معاودًا التنفس بصعوبة، حتى أسر لنفسه وللفتاة التي لم تفهم شيئًا: يبدو أن الأمر سيطول … هاه؟
تخفف كل منهما من ملابسه، وقاما يذرعان مشيًا مساحات الظل الضنينة فيما حول أشجار حديقة الليمون وزهور الإنترهينم بأفواهها المفتوحة على هيئة حيوانات دقيقة صريحة الألوان والعطر.
توقفا في مكانهما حين وصل تحليق الطيور الضواري من فوق مبنى الإدارة، وهي تضرب بأجنحتها وأصواتها إلى حد العنف … الصراخ.
وأمكن للفتاة الصغيرة لحظتها أن تربط بلا خوف، بين برودة أطرافه حين تحسستها، وبين ما يحدث.
قال: أروح فين؟
بدا وجهه مفصحًا للفتاة إلى حد جلي، حين ركزت عينيها التركوازيتين الخرزيتين على فيزيقية جسده بكامله، وهو يزم شفته مستطلعًا ما يحدث عبر فراغات المؤسسة التي يغلب عليها اللون الأبيض، ليس من المنطلق الجمالي، بل لا بد أن الأمر هنا متصل بالدرجة الأولى، يتعذر هروب النزلاء، الأمن: أين؟
تذكر دفاع التومرجي الملثم في مواجهته: ما نحن سوى نزلاء مثلكم.
سقط بصره أرضًا باتجاه الفتاة المعلقة بأطراف أصابعه بعينيها نظرة من تنتظر استطلاع الأمر، ولما لم يجد كلامًا يقوله، استلقى على النجيل وأعناق الزهور البرية ممددًا وقاربته الفتاة جالسة.
– وبعدين؟
أصوات الجوارح تطغى على كل صوت حتى أزيز عجلات نقالات نقل المصابين الجرحى، التي تضاعف نشاطها، مئات من النقالات لكلا المرضى والتومرجية المقنعين: كل دا.
مضت الفتاة الصغيرة تعبث وهي تتشمم بأنفها الدقيق روائح اليود والصبغات التي أثقلت من «شوب» اليوم وحصار الأسوار الشائكة وعواء الجوارح أعلى القبة فوق.
فجأة توقف تومرجي العنبر مفتول الساعدين، متخليًا عن نقالته ومريضه بالقرب منهما، ساحبًا بيديه كمامتين ألقى بهما إليهما قائلًا مهددًا: البسا.
ومن فورها وضعت الفتاة قناعها على وجهها المكفهر، وساعدته في ارتداء قناعه، واندفع كل منهما يتأمل الآخر عبر قناعه فترة في توجس، انسحب على أثرها عامل المستشفى دافعًا جريحه إلى بعيد.
ولما كان صوت المهاجر قد وصل إلى درجة من الانحباس الكلي؛ لذا بدا الوضع أكثر صعوبة من حيث التعبير، كيف والأمر برمته أصبح على هذا النحو الضبابى تحت صهد يوم صيفي كهذا وفي منتصف نهاره بالضبط: جوارح جرحى.
كانت الفتاة دائمة التطلع إلى عينيه من أسفل إلى أعلى عبر زجاج منظاره الطبي، على اعتبار أنهما الشيء الوحيد المُفصِح الذي لم يصل إليه القناع؛ لذا حاول جاهدًا شرح الوضع لها، وهما في طريق عودتهما إلى العنبر، ذاكرًا بأن الوضع في مجمله غير طبيعى، خاصةً ما حدث منذ وصوله، وضراوة الأخت الصغرى الضخمة، كرد فعل طبيعي للأشياء والفراديس المفتقدة، مضافًا إليه نيران المحاور، الحصن الجماعي، ما الذي تبقى؟ فها هي حكايته، عمله وكاره لم يقاربها منذ مجيئه ولو بمجرد القراءة، تلك التي أضناه جمعها وتحويشها سنين، أين هي منه؟
ورغم الكمامة التي تُغيِّب ملامحها فيما عدا عينيها، فقد تبدت في عينيه تحت وهج الشمس، وحدة صدى أصوت الجوارح كمثل إلهة بحرية ضاحكة متفائلة.
ضحك قليلًا ربما للمرة الأولى منذ هروبه، حين عرف أن ما أبهجها هو ذلك العالم المنقضي لحكايات: موت البجعة، وكسارة جوز الهند، والسمساوية، والعندليب الحكيم الذي أمسك به ذات مرة رجل مغفل.
قالت: احك لي واحدة.
ضحك المهاجر عاليًا عبر قناعه … كمامته.