الفصل الرابع عشر
بدا كمثل جد عظمي مفرط الطول يلاعب حفيدته.
لاعبها طويلًا برغم الكمامتين، حاكيًا لها واحدة مضحكة: ابن ملك تحت الأرض بيحب بنت ملك الأرض.
تحركت الفتاة الصغيرة بإيقاع ابنة ملك الأرض، مما أعاد الابتسامة إلى شفتيه، حين واصل متقوسًا على نفسه حاكيًا بصوته الذبيح في أذن فتاته: لقي البنت ماشية في يوم في جنينة أبيها، قرب منها، البنت سحرت نفسها فرخة تكاكي، تصرخ وتقول: يا أولادي. «توقف.»
وابن الملك سحر نفسه ديك وجرى وراها في الجنينة، فالبنت انقلبت رمانة، الديك مضى يلقط حبها الأحمر ما عدا حبة رمان انقلبت حية، طاردت الديك لحد ما مصته … قتلته.
مضيا يضحكان طويلًا ويعبثان عبر حديقة مدخل عنبرهما.
وحكى لها مُومئًا مُعبِّرًا بجسده الشاهق وأطرافه كمثل ممثل صولو: أسد شاخ وضعف وتمارض ورقد في المغارة، وكل ما يزوره حيوان يفترسه، لكن لما جاء الثعلب يزوره ويسلم عليه قال الأسد العجوز: اتفضل، ادخل يا أبا الحصين.
الثعلب قال له: أدخل! … بعد كل الضيوف اللي دخلت ومآنسينك بعد!
وأعجبته حكايات الضيوف الثقلاء، فروى لها واحدة جديدة كانت تعقبها بضحكاتها الصافية: مرض غزال وجاء أصحابه من الوحوش يزورونه، يأكلون عشبه وحشيشه، ولما صحا لم يجد شيئًا، فقال: آدي الضيوف وبلاويها.
وبادرته بدورها بحكاية جنوبية: اصطاد كلب أرنبًا ومضى يعضه بقوة ويعود يلحس دمه في حنان، فقال له الأرنب: تعضني كأنك عدوي، وتُقبِّلني كأنك حبيبي!
وبدلًا من أن يضحك المهاجر كالعادة عقب كل مأثورة وحكاية فشر، ابتسم، إلا أن ابتسامته توارت حين سمعها تهمس في أذنه: «حبيبي» إلى حد أن عاوده الاكتئاب.
استدار مسرعًا كشاب منفصلًا عنها.
وحين تمالك نفسه مستديرًا باتجاهها، هاله أنها منكسة كمن ارتكبت ذنبًا: بل راحت تعبث بعينيها فيما يصل أعلى ركبتها من زهور برية، من تلك التي لا وطن لها، وفي معظم الأحيان تتخذ من الأرض المهجورة الصلدة منبتًا لها؛ لتزهو ببراعمها حمراء قانية تتخللها النقاط السوداء الفاحمة.
قطفت ثلاث زهرات برية رشقتها في صدره.
حتى إذا ما دلفا جنبًا إلى جنب إلى داخل العنبر، بدا وكأنما هما يخطوان على إيقاعات مارش محبب.
تطلعت إليهما معظم عيون المرضى والجرحى، لكن أين هم؟ لقد قاموا جميعهم هاجرين سرايرهم، يتزاورون ويتحلقون في ممشى الطرقات الرئيسية التي تفصل ما بين الأسِرَّة، يتبادلون اللفائف والبيرة والسفن أب.
وتعرف هو من فوره رغم الكمامات على أكثر من باحثٍ زميل، وفتيات العلاقات العامة الثلاث، وشبيهةٍ لعالية، بل والعالية وأختها حين قدمتا لزيارة النزيلة المشابهة.
انحنى ليسمع تعليق فتاة الجنوب التي كانت ساعتها تضغط يده: غريبة دول زينا.
قال في حشرجةٍ لم تتفهمها الفتاة: سلام.
ومن فوره استدار محرضًا: الخروج من هنا، الآن.
وعلا تساؤل النزلاء: إحنا هنا ليه؟
إلى أن جاء العدوان الصهيوني بالجواب، لم يبعد عنه، جاء هكذا مستشريًا من الباب للطاق، وإن لم يخل الأمر طبعًا من مسبباتٍ أو تلفيقاتٍ بثها راديو العدو، عن أمن الجليل وسلامته.
أي جليل، الجليل الفلسطيني، ضد من … سكانه المطرودين؟ إذن فلنعاود طردهم.
وكلما تواترت الأخبار بالاجتياح هاج المرضى داخل العنبر، وعنابر أخرى لا يحدها بصر كانت قد بصرت فتاة الجنوب بهذا المهاجر الذي واصل تحريضه بالخروج.
إلى أن اندفعوا جميعهم خارجين تحت القصف بملابس المستشفى عبر شوارع بيروت المظلمة.