الفصل الخامس عشر
ظل ممسكًا بيد الفتاة الجنوبية وهما يعبرون الشوارع المظلمة التي تطحنها الحرب، آلاف القنابل العدوانية تدك المدن والجبل، المخيمات والأحياء المكدسة بالفقراء، من لا مأوى لهم، قالت: حبالى.
نساء بملابس نومهن وشباشبهن يسحبن أطفالهن في حرص، ورجال يحملون ما أمكن إنقاذه من بيوتهم وجحورهم التي دكتها القنابل المعادية للفقراء، أينما وجدوا. قدموا من أمريكا وإسرائيل بطائراتهم الفانتوم لقتل هؤلاء الحوامل وأطفالهن في بيروت والجنوب والبقاع، زحموا شارع الحمراء وما حوله وما تفرع عنه من حارات وجادات.
افترشوا مداخل العمارات والبنايات والحدائق، وكورنيش البحر والأوتيلات، وأسطح البيوت، والمدارس والمواخير.
بينما تبدت الطائرات المغيرة كما لو كانت تتعقبهم أينما رحلوا بصبيانهم وهلعهم المتبدي لتدكهم دكًّا؛ مَن لا وطن لهم.
المدينة كانت تشتعل بالنيران والشظايا والحرائق، والأنباء تحمل قصف الصهاينة للجمال في لبنان خلدة والشويفات والدامور وعرمون وعالية.
– الفقر والجمال.
ابتسمت له وهي ترفع رأسها عاليًا وسط الظلام المطبق، إلا أنه واصل طريقه بصعوبة دون أن يتخلى عن العودة إلى منطلقه ذلك الذي قدم به من القاهرة لتغرقه أحداث بيروت على هذا النحو، قال: الأمر لا يبعد كثيرًا، ذات ما جئت به، الطفح، أجل، باكابورتات العصور القديمة التي كانت. وهنا على ذات أرض هذا المكان؛ الأسوار القديمة، ملايين الأسرى في حجلاتهم، والقتلى هم ملح الأرض التي على ترابها وصخور جبالها سقطوا.
استوقفته حين ضغطت يده الممسكة بيدها الصغيرة الهشة، المخيمات التي انتصبت في زوايا الميادين والجراجات من فورها النيران المتوهجة، الناس وهي تركض طوابير إثر طوابير، طوفان النيران المتوهجة التي تشعل السماء: ماذا حدث؟
اخترقت الطائرات الأجنبية حواجز الصوت من فوق رأسيهما، حتى إنها ارتمت بالجدار محتمية.
– ماذا حدث؟
– أشعر بدوار.
لحظتها كان دمها قد أسيل من عند مفترق شعرها العسجدي، دون أن يبدو على وجهها الطفولي الباهت أثر الألم، ظلت ترقبه وهو مقرفص بجوار جدار محاولًا التقاط قطرات الدم بمنديل ورقي، مبتسمةً: إلى هذا الحد.
قالت دون أن يلتقط الكثير مما لفظت به في عصبية: أجل، القلب تحمَّل الكثير، مثلك.
وحين أعجبه قدرتها على التحمل، طالبها من فوره التماسك لحين وصولهما إلى البيت، رغم تيقنه من صعوبة مثل هذا الأمر.
ذلك أن الشوارع كانت قد بدأت تغلي بالحركة والمسلحين ودوي القصف المتبادل ما بين الأرض والسماء الملبدة بالغيوم والنيران.
لماذا على هذا النحو يرمون بلاءهم على كاهل مدينة عتيقة مثقلة بالحرب الأهلية التي مزقتها بالمُدَى والسكاكين على هذا النحو، العدوان ضارب الحصار والأظافر، عبر كل منافذها الستة، حتى البحر.
ومن كل مكان تطل تلك النجمة النارية الطوطم: نجمة داود.
أشارت إلى حيث كان يجري الإنزال؛ لتتلقفه سناكي المقاتلين الفلسطينيين الفقراء على مشارف بيروت.
المقاتل الشيوعي والفلسطيني في الدامور، وصيدا البطلة منذ الأزل، وقلعة الشقيف، وخلده.
الأشبال على المحاور يتصدون للفاشست المعضوضين على طول تاريخهم.
مضت دائخة وهي تتطلع إليهم؛ شبان في ذات سنها ولكنتها الجنوبية، التي جاهد المهاجر طويلًا في استيضاحها منها، حين اندفعت قائلة — كمن تعارك ذاتها بذاتها — منفعلة: أجل، على هذا النحو منذ أن ولدت في إحدى قرى صور نفس الشيء، القصف الإسرائيلي بسبب وبدونه، وحتى عندما أمضيت طفولتي الأولى بالقنيطرة بسوريا، نفس العدوان، وحرق الدور، ورحيق حياة القرى، وها أنا في بيروت المحاصرة بالعدوان، إلى أين؟
مال عليها بجذعه الطويل مطمئنًّا، وهو يدغدغ آخر أطراف أصابعها بأطراف أصابعه هو، وداخله خوف خفي من افتقادها، تُراه فارق السن، أم الموروثات، أم التبصر: لعل ما يجمعنا هو افتقاده.
تساءلت: شو.
قال: كان يشدها شدًّا إلى حد التوقف عن السير، وجوه أطفال المجرين المعدمين على صدور أمهاتهم، حيث افترشن الطوارات ومداخل البنايات والسينمات التي ما زالت تعلوها أوضاع «رومي شنيدر» تزحف على بطنها عاريةً، بيدها سكين مشهر: على بطنها تزحف، وترابًا تأكل وتقتات.
وحين صعدا سلالم البناية ذات الطرز البيزنطي حيث يقيم، أضاءا شمعة لاستكشاف الطريق.
على جانبي السلالم وطرقات البناية ذاتها، تتراص وفود المهجرين ومن دُكَّت منازلهم الآمنة تحت قنابل الصهاينة، أعداء كل الفقراء وجمال عرمون وعالية والشويفات وخلده.
وحين أشعلا الشموع عبر المكان، وصبت هي الشاي، واصلت حديثها المحتدم العصبي: والديها المهاجرين، والبيت الذي كلما ذقنا الأمرين في بنائه أعادوا هدمه بالقنابل وراجمات الصواريخ الضالة، مدرستها على طريق مطار بيروت التي احترقت مرتين، وأتوبيس المدرسة الذي دُمر بأطفاله ونجتْ هي والسائق صدفة.
قال: أجل، صدفة.
أعاد القول لنفسه وهما يعبران ميدانًا يغص بالجنود، والمارة عن آخرهم يعلو الاكفهرار الأميل إلى الحزن العميق جباههم المحتدمة العالية: صدفة! إنها الشيء الوحيد الغائب عما يحدث على أرض هذا الوطن الصغير المعذب لبنان، أين هي فيما يحدث؟ إن الأمر أميل إلى المعادلات الرياضية الجافة إلى حد الأرقام وثقلها ليس غير، ومنذ الأزل. صحيح أن الأمر لا يعنيني بدرجةٍ كافية، سوى من حيث الحكايات، كيف أني مجرد جامع لها من أفواه عجائز القرى المعدمة، المتلاشية قسرًا وبالضرورة، مثلما يحدث الآن على أبواب وهامات المدن والدول القديمة: صور، صيدا، بيروت أمام العدوان الصهيوني، فما بالنا بالقرى والنجوع؟!
وعلى هذا، فالأمر متتابع الحلقات منذ الأزل، هكذا تقول وتصر على القول حكايات القرى وتخاريفها الليلية.
ذلك الاجتياح العدواني الضاري الذي يتصدره الطوطم السلف: النجمة المسدسة.
أشارت إليها من فورها بيدها القصيرة، حمراء متوهجة في الأفق البعيد تبدت من بين شقوق العمارات وفراغاتها، كمن تسقط من السماء.
وحين احتواها الفراش، بدا الأمر أكثر صعوبةً، ذلك أنها راحت تشكو وتشكو رافعة ذراعها عاليًا.
أما يده هو ساعتها، فكانت دائمة العبث في الموسى المستقر تحت مخدته دون معنى، قال مبعدًا وجهه عنها: كان من الواجب أن أكون أكثر دقة، إحكامًا، أن أبعده حتى لا يؤذيها الأمر.
راح يتأمل وجهها الشاحب وعينيها الخرزيتين وهي تتخفف من أثقالها المطاردة عبر المدن المحاصرة، حيث لا مهرب سوى الاختباء: إلى أين؟
قالت: هنا.
قام بجذعه الأعلى عن فراشه، ومضى يتأمل وجهها العصبي الحاد طويلًا، زامًّا فمه في حنق من سُدت عليه جميع المنافذ.
عاودته نقطة بدئه حين حزم حقيبته ذات نهارٍ بعد أن ضمنها كتبه وحكاياته، حاسمًا الأمر مقررًا استيطان هذه المدينة المهترئة بالحرب الأهلية والتصفيات، معاودًا البحث في مخلفاتها، ويمكن القول: نفاياتها بحثًا عن منفذ أو مكمن داءٍ عضالٍ يفت في جسدها المريض القابل على الدوام للتلوث.
هذا على الرغم من تيقن المهاجر بأن الأمر فيها سيكون أحسن حالًا وأقل حصارًا من مثيلاتها العربيات في الحجاز ونجد وصنعاء وقرطاج وعمان والقاهرة.
ذلك أن داءات مثل هذه المدن وأمراضها المستعصية لها أيضًا مستوياتها الأقرب إلى الخطر واستفحاله.
ها هو أخيرًا على أرض ما كان يظنه فردوسًا هيلينيًّا فينيقيًّا لمجتمع ثقافي مستنير، يؤوي الغريب قبل القريب ويحميه.
هنا في هذا الوطن الجبلي الوعر، المزين بخيرات الأرض وعطائها الموسمي المزدهر.
أجل على أرض اللورد النبيل الذي كان جميلًا فعشقته النساء، أدونيس «أدون».
وعاودته حكاياته — كاره — تلك الممددة أكوامها على طاولة الطعام لم يلمسها منذ نزوحه مهاجرًا، وما حدث على تلال عمان — حين عاودته النوبة التي عادةً ما يفجرها الحصار، ويمكن القول لا متناهية الحصارات التي اعترضته، بدءًا بالرقباء وأجهزة القمع في القاهرة، وبالغيبيين والسماويين والجهلاء، لحين مجيء الأكاديميين: الرئيس ونائبته البدينة التي تقتات بالتهام التساؤل، لماذا ضحكت فتاة الجنوب في سذاجة طفلة؟
– تذكرت النايبة.
عاوده تزمته، ويمكن القول ذلك التعبير المتندم المتبدي على الدوام في عينيه تحت منظاره، فمه، أنفه المستطيل، هزَّات رأسه: ماذا جرى؟
الدوي يكاد أن يقلب تلك البناية الخرسانية العملاقة كمثل حصن تنقصه أحصنته وخيوله الغازية.
– ما زالوا يدكون مخيمات الفقراء.
غمغمت: عالية … عرمون.
تذكرَت ما تبقَّى من أصدقائها الأحياء منذ نزحت مهاجرةً مع أسرتها من إحدى قرى صور، مطاردين بالقذف الإسرائيلي وسقوط البنايات القديمة التي أحبتها على رءوس من فيها من أمهات وبنات في سنها وأطفال.
تذكرت صديقتها الدرزية المتشاحنة دومًا مع كل من يحاوطها، وأختيها وخالتها السريانية: راحوا.
توالى القذف إلى حد تطاير شظايا زجاج الشقة مخترقًا جسدها نصف العاري تحت ملاءة السرير التي غطتها على الفور بقع الدم.
آه.
وفي هذه المرة لم يسأل أحد في جرحهما الدامي.