الفصل السادس عشر
بدا المهاجر وفتاة الجنوب تحت ضماداتها الصمت كما لو كانا ينصتان عن آخرهما إلى دوي الطائرات الأمريكية المعربدة دون رادع، حياء في سماء بيروت المقاتلة.
– مرضى … صهاينة.
جاءت الممرضة بوجهها المستكين المتجهم الذي ذكَّرَه بوجه العالية، وراحت من فورها ترفع أربطة الفتاة من حول صدرها الكبير المُغطَّى بالدماء، مضت تُدلِّكها محاولةً تخليص لفات القماش الطبي المتجلطة بالدم الأحمر النازف المتجمد فيما حول تكورات نهديها النافرين: آي.
هاله جمال صدرها حين هبَّ برأسه عن وسادته، ومضى يرقبهما في فضول لا يخلو من شَرَهٍ: فاشست.
وحين أحست الممرضة المتجهمة طويلة الوجه بما يعتمل في أعماقه؛ طمأنته: إصابة سطحية.
ذكَّره الدم المتجلط فيما حول صدر الفتاة الرحب، بذلك الشعار الدموي السالف لأرجوان فينيقيا الذي تغنت به الإلياذة الهومرية.
عاود الاسترخاء بملامسة رأسه لوسادته، متحسسًا ما تحتها بيده اليسرى: الموسى.
من جديد تلاقت عيونهما الغائرة في ثقب الضمادات البيضاء: بسيطة.
هزت له رأسها مبتسمة لحظة انسحاب الممرضة المتجهمة التي سحبت شنطتها خارجة، مغلقة الباب عليهما في عنف صاخب.
من جديد عاودهما الصمت الذي لم يكن يقطعه سوى دوي القنابل التي تطحن أحياء الفقراء والمهجرين في صبرا وبرج البراجنة وشاتيلا وما حول الجامعة العربية، ويُسمع صداها المدوي عبر الليل والإظلام في شوارع الحمراء: آي.
كان قد أغفى قليلًا، إلا أنه سرعان ما وضع منظاره على عينيه مستديرًا برأسه صوب الفتاة: ماذا؟
أشارت بيدها إلى صدرها: دم.
هب من فوره حافيًا إلى أن قارب فراشها منحنيًا، بينما اندفعت هي متألمة وعلى جبهتها تقاطعت خيوط العرق النازف.
حاول تهدئتها مطالبًا إياها بالاستسلام للاسترخاء للنوم، إلا أنها بدت أكثر عصبية.
– نار.
أشارت إلى حيث الأربطة، وحاول هو ملامسة صدرها، حيث امتلأت خياشيمه بروائحهما الجنسية التي يعرفها، يخالطها روائح اليود وصبغاته.
– نار.
لم يعرف كيف يتصرف بإزاء الفتاة التي تبدت آلامها في انفعالات وجهها وذراعيها وهي تنشج ألمًا: نار.
هو يعرف عن الفتاة مدى تحملها … جلدها، ابتسامتها الضنينة الشاحبة المبددة لكل ألمٍ وتهافت: ماذا جرى؟
أتكون الممرضة تلك المتجهمة، غامضة النظرات، قد تعمدت أو هي أخطأت؟ دفن عينيه أكثر فيما بين تكورات نهدي الفتاة الجنوبية التي من فورها أحاطته بذراعيها، مشدِّدة حصارها حول عنقه ومطلع رأسه جاذبة، كمن تنشد ومضة حماية.
حاول هو مراتٍ أن يخفي عينيه مغمضًا عن صدرها المتفجر بالدم، الذي مضت قطراته تأخد لها مجرى، لتعاود الضمادات القطنية رشفها وامتصاصها.
ولما لم يجد له منفذًا والفتاة متألمة تغرز أظافرها — المقصوصة — في عنقه وقفاه دون وعي، مدَّ يده في حذرٍ وراح يمررها محاولًا الإمساك بطرف الضمادات التي كانت قد تلاصقت حلقاتها من حول الصدر الطافح بفعل الدم النازف المتجلط.
– أوه … أوه.
وجد منفذه حين قارب أكثر صدر الفتاة مستعينًا بطرف لسانه ويديه الاثنتين في حذر، كمن يذيب بلعابه دم صديقته الحنونة، التي مضت من فورها تواصل شهقاتها وتعلقها أكثر بعنقه: بشويش.
وحين نجح في حل ضمادات البز الأيسر، واصل من فوره لعق الدم وما خالطه من أصباغ تلك الممرضة الجهمة.
تذكر صفعها المفاجئ بعنف جلي لباب الشقة الخارجي، وتذكَّر أنها لم تبادلهما التحية ولم تنطق بشيء.
دوى القصف الشديد للعدوان والحصار، والسماء الصماء النحاسية تبرق عبر زجاج الشرفات بوهج نيران المقاومة التي غطت كل سماء بيروت.
هنا احتضن الفتاة بأقصى عنف، بينما يده اليسرى ترفع عن صدرها الثاني ضماداتها دفعةً واحدة، صرخت لها الفتاة من أعماقها، مشيرةً بأقصى توجسها إلى البنايات المقابلة عبر الجدار الزجاجي التي لحقتها نيران العدوان، فسقطت متهاويةً بأطفالها ونسائها وعجائزها يطلبن الرحمة بأيديهن المتضرعة طلبًا للنجدة، الغوث، وما من مجيب سوى اندلاع النيران المتصاعدة التي برقت ألسنتها مقتربةً أكثر، ذلك أنهما أحسا وهجها إلى حد احتراق جلديهما، حتى إن ألم الفتاة وصدرها النازف لم يعد — على عادة ما نعرفه عن الألم ودرجاته — بإسقاط أعلاه الحارق لأدناه الدامي.
– النار.
احتضنها مبتعدًا — إلى الحافة المقابلة للفراش — عن ألسنة النيران المندلعة المحاصرة، ودوت الطائرات العدوانية المغيرة، التي لم تكف، والتي تواصل حصارها من لا وطن لهم، زاحفةً على كل فراشٍ ومنفذ.
أوقعها بأقصى رفقٍ على الفراش ليفترشها «موكيت» الغرفة، بينما ألسنة النيران تواصل زحفها إلى حد الحصار داخل الغرفة.
الدوي لا يتوقف، والارتجاج يصل جدران البناء «الحصني» ذاته وحيث يقيم، إلى حد الإحساس الجاثم بجلطةٍ أو هي ومضة لتوقف … الموت.
– نهرب.
اجتذبها من يدها، وهالَه مدى استردادها لحيويتها توازنها إلى حد اختطافها لروبها المنزلي وشبشبها ولفائفها، وكيس نقودها، ومفتاح الشقة، واندفعا جاريين وهما يحتميان بالجدران هنا وهناك، إلى أن تداخلا بصعوبةٍ بأناس على شاكلتهما هربًا إلى حيث جراج البناية أو مخبئها عبر السلم الحلزوني الرصاصي الواسع، وفود إثر وفود، لا ينقطع لها هبوط وتدافع.
عرف المهاجر البعض منهم، من سكارى ومومسات مصريات وحبشيات، وفتيات بُنِّيَّة اللون قصار القامات من سنغافورة والفلبين وسريلانكا، والتقى — فيما التقى من وجوه تكدَّست في رعبٍ داخل جراج البناية — بالعالية وأختها.
– مرحب.
وقبل أن يجيب داهمه انحباس صوته كما داهم الجمع الحاشد دوي القنابل المهاجمة، واتساع رقعة النيران الزاحفة، ووهجها اللاسع، تلك التي ضاعف من وهجها، بل ولحاقها وإمساكها بأطراف الملابس التي لحقت بكُم ردائه المنزلي، وعرف من فوره أنها من نوع النابالم، حين تقدم منه سمكري لبناني مهاجمًا، فخلع كم الجلباب منتزعًا من عند الكتف، محذرًا الجميع الذين لحقتهم ذات النيران والشظايا.
– نابالم.
لم يعد يحس بوجوده ولا بالفتاة المريضة، محركًا جذعه المستطيل تبعًا لاندفاع حركة الناس وهم يتكومون في آخر الجدران، يدفعون بحائطه الخرساني إلى أن أسقطوه مواصلين فرارهم عبر منفذ الأحراش الصخرية المواجهة المطلة على البحر. هنا تراجعت الوفود الفارة بفوهات المدافع المتربصة على طول الشاطئ تصب لهبها.
– أين؟
حاول التراجع متعثرًا، باحثًا هنا وهناك عن الفتاة الجريحة الجنوبية صديقته، دون جدوى.