الفصل السابع عشر
تحت القصف المتوالي عبر كل المحاور، واصَلَ المهاجر بحثه عن صديقته الجنوبية.
بدأ أولًا بزيارة أصدقائهما والجيران، ومسكنها بالمزرعة الذي اقتحمه مهجرون جدد دون طائل.
وفي كل مرة كان يعاود بحثه في الحمراء، وحيث كان يقيم، فيما مشيا فيه معًا من شوارع وأزقة، حتى البناية التي كان يقيم فيها، كانت البناية القديمة العملاقة تموج بسكان وغرباء مثله، ما بين مقاتلين ومومسات مصريات وشراكسة، وامرأة بلجيكية في منتصف العمر محاطة بكلابها، وأُسَر بكاملها تعتلي صور الإمام الصدر وجنبلاط مساكنهم، وموارنة.
وزاد ذلك الاختلاط وفاض حين قدمت جموع المهجرين الذين دكت الطائرات أو البارجات بيوتهم ومخيماتهم، وبخاصة تلك الدبابة التي تفنن الإسرائيليون في تجميع سرقتها من أسلحة فتك ودمار غريبة أخرى من هنا وهناك «الميركفا»، والتي من فورهم أعلنوا عن بيعها وتسويقها معددين قدرتها الخارقة على سفك دم الفقراء وإهداره؛ أولئك المطاردين الذين لا وطن ولا ثمن لهم، من صبرا وبرج البراجنة والكولا ومنطقة الجامعة العربية والبريد وشاتيلا.
كانوا في تجمعاتهم يواصلون زحفهم من موطن أو مسكن لآخر أكثر أمنًا، ما بين أحيائهم الشعبية والجبل وقرى الجنوب والشمال، لا شيء يشكل هيئاتهم وملامحهم سوى الفزع والفرار هربًا من الجلد، بل خروجًا منه إن أمكن.
كانت الناس تحت الحصار قد بدأت تعرف بعضها البعض، سواء وهي تتبادل النظرات المستطلعة عبر الشرفات والبلكونات ونواصي الشوارع وشواطئ البحر، والمقاهي، والمخابئ، وجراجات السيارات، وكمبونات السلالم، وأسطح البنايات، والجناين، والحدائق العامة.
كان المحاصَر منهم يتطلع إلى جاره أو جارته، وجه أسمر فينيقي أو أوروبي، وبخاصة فلسطيني، يبرز له مرةً مطلًّا غارقًا في أوهامه ومخاوفه، من فجوة شقة، أو عبر ستائر أو شباك أو كرسي هزاز.
بينما الطلقات وراجمات الصواريخ تدوي، ويبرق ضوؤها المعدني المذهب ساطعًا على السحب منطبعًا على الطبيعة ذاتها التي تغيَّرت سحنتها وفضاؤها اللاندسكيبي، فأصبحت في بعض الليالي شديدة القيظ، أميل إلى البرودة وخلخلات صقيع بيروت الشتوي.
حتى إذا ما أعقب صمت الليل الدامس الخالي من كل نور وكهرباء، الدوي، تبدت المدينة عبر صمتها وجراحها النازفة أشبه بجسدٍ عملاقٍ لمريض أو جريح مفتوح البطن، ممتثل لعملية جراحية إسرائيلية النهج.
وعَلِقت بضع سحنات بذهن المهاجر، منها ذلك الكهل الفلسطيني وابنته العايقة التي قُتل زوجها منذ اليوم السادس في الدامور، والذي استوطن إحدى شقق البناية المواجهة، ويبدو في كل غروب محملقًا كمشدوهٍ في اللاشيء، ولا شيء أو بادرة حركة تصدر عنه سوى ضرب أخماس في أسداس بأصابعه العشر، كمن افتقد كل شيء، لا بد أنه فلسطيني.
المطاردات لا تنقطع، والمدينة تبدو من كل زواياها ومنافذها كمثل سجن إن لم يكن حصنًا كبيرًا مسوَّرًا بآلات حرب الغزاة الخواجات الفاشست.