الفصل التاسع عشر
كلَّت قدما المهاجر العجوز تحت القصف المتوالي بحثًا عن فتاته الجنوبية التي افتقدها داخل الخندق، وصدرها النازف بالدم مدرارًا. زار جميع مستشفيات بيروت بدءًا من شاتيلا والبربير، وانتهاء بمستشفيات الهلال والصليب الأحمرين والجامعة الأميركية.
ظل أيامًا إثر أيام يطوف العنابر ويتداخل في الجرحى المنكوبين سائلًا.
المدينة جميعها تدميها الجروح النازفة، ممن قطعت أيديهم وسيقانهم، وخزقت عيونهم، وغابت عنهم ملامحهم، يتحركون على عجلاتهم وعكاكيزهم، وأذرع التومرجية وذويهم والسيسترات والجدران.
القصف لا يتوانى، حتى المستشفيات ولحم الجرحى النازف لم يسلم، وسيارات الإسعاف بأجراسها وإضاءاتها تمر عبر الشوارع المظلمة دون انقطاع.
كم يا ترى يصل حجم الجروح والإصابات لو أنها تراكمت في كفة ميزان — قبان — دون سبب واضح! تعالت ضحكات استلفتت أبصار الجميع وسمعهم، ماذا حدث؟ منذ مدة طويلة لم تطرق أذنه ضحكة قهقهة على هذا النحو، رغم الابتسامات الودودة التي تعلو وجوه الجميع، حتى الجرحى والمشوهين لم يغب عنهم حبورهم وهم في ضماداتهم، مُعلَّقينَ على فراشهم، مُوثَقِينَ من أرجلهم وكعوبهم كمثل ذبائح.
كانوا يتلقون الزهور وعلب الشيكولا مبتسمين وهم مُوثَقون يَئِنُّون في صمت لا يسمع … المقاتلون … تراها أين ذهبت؟
في مستشفى غزة، مضى يرقبهم داخل عنابرهم شبان وشابات طريحون، يتسامرون في وداعه تحت القصف والمطاردة.
الشهداء.
لعلهم الحقيقة الوحيدة فيما يحدث.
فالجميع كانوا قد هاجروا فرارًا، وظلت المدينة تواصل طردها السكاني في اتجاه الضمور والفناء وغياب الحركة، بالإضافة إلى الحرمان من الماء والضوء والدواء.
الليل موحش، والعمليات لا تنتهي.
ويبدو الأمر كمثل ذلك الملازم دومًا للطرد.
فلول التاكسيات والشاحنات لا يتوقف لها هدير محملة بالمهاجرين وأشلاء بيوتهم التي كانت.
وعادة ما تقع مثل هذه الرحلات من بيروت إلى الجبل أو شمالًا، مع الفجر، بسبب الفزع ولا شيء سواه، يا لها من لحظة أليمة، تلك المصاحبة للغياب، وهذه البيوت وصور الجدران وذكرياتها!
صحيح أنه لم يعانها كما يحدث للآخرين.
فهو حتى لم يأخذ حقيبة يد لمسافر أو مهاجر؟ لم يأخذ من شقته حتى ملابسه الداخلية، ترك كل شيء كما هو عقب تهدم بعض أجزاء البناية التي فيها يقيم، وعنها نزح معظم سكانها.
قال: الأمر لا يستحق.
عرج من فوره على رسام فلسطيني، لم يخرج موضوعاته أبدًا عن ذات الموقف … الخروج، أناس منكمشون عبر فراغات اللوحة ذات البعدين، يتحركون تحت أحمالهم وأزيائهم الفلسطينية وحطاتهم شبه مطاردين، وكما لو كانوا يبغون الإفلات من أسر اللوحة ذاتها ذات البعدين.
جمال وماعز ملون، وفي أقصى اللاند السكيب، تتبدى أشلاء لمدن وقرى متفجرة، نهبًا للحرائق ونيران الكبريت والكوبالت.
كان له لحية كثيفة يغلب فيها بياضها على سوادها، تلمع عيناه شرهًا لكل ما يمت إلى الحياة والأحياء، رغم رسوماته ذات الدلالة المحددة للهجرة والرحيل وخراب البيوت … الخروج من أسر الجلد.
ما إن فتح له شق باب مسكنه الحديدي متهللًا حتى اندفع من فوره داخلًا عابرًا لوحات الهجرة والترحال التي ملأت صالة البيت وفاضت إلى الحديقة.
وحين تأمل المنظر، تذكَّر من فوره حديقة الليمون قصيرة الشجر الملحقة بعنبر صحة المعتقل، فيما قبل العدوان، والذي لم يُخرجه منها متأبطًا ذراع فتاته سواه … العدوان.
جلسا من فورهما يحتسيان البيرة الساخنة متواجهين في شبه الحديقة الفقيرة العارية، ولم يخرج حديثهما بأبعد مما يحدث.
الدم والنار.
تمادى المضيف كثيرًا دفاعًا عن موضوعه الذي يشغله سنين طويلة منذ تفرغه بمرسم الأقصر منذ الستينيات قائلًا، وهو يمشط لحيته بأظافره في هدوء لا اتساق بينه وبين ما يحدث من وهج النيران والدوي، ذاكرًا بأنها القوة الدافعة للتاريخ، ومنذ الأساطير الهلينية المبكرة، يتبدى الأمر جليًّا في حالة بروميثيوس وعقابه، ذلك المقتحم مغتصب النار، التي بها يصبح بنو البشر أندادًا للآلهة، كما ذكر كبير الآلهة زيوس، إلا أن بروميثيوس — بعيد النظر — كان على وعي تام بعقابه المتمثل في نخر النسر لقلبه على جبل كيقاوس؛ لينبت له قلب جديد في صباح اليوم التالي، يعاود النسر الوحشي التهامه بلا رحمة، وبكثير من التأني.
اختتم مصور الرحيل الفلسطيني كلامه عن الدم والنار، مشيرًا لما يحدث ويبرق عبر سماء المدينة المحاصرة ومحاورها الملتهبة بكليهما مستشهدًا.
أما المهاجر فلم يجد عندئذٍ كلامًا يقوله، ولو من باب ومدخل إثراء الموضوع الماثل للنقاش والممارسة، مضيفًا بأن الأمر الجلي هو أن لكل شيء — مهما ضؤل وانكمش — تاريخَه ودورةَ تواجده، بدءًا بالجراثيم وحربها حتى الثدييات، وزواحف الأرض والسماء المنقذة، منذ يهوه المحارب حتى نسور جيش الدفاع وطائراتهم القاذفة المحاربة بلا محاربين.
قال: فما بالنا بالدم والنار؟
ابتسم الفنان قائلًا: ها أنا أتأهب لرحيلي السادس.
راح يتأمل محتويات بيته عبر باب الحديقة الواطئ.
كل هذا سيذهب ويروح مثل سابقه.
ارتفع مزاحه وقهقهاته طويلًا: نحن لسنا بعيدي النظر مثلهم، فلا يجب أبدًا أن نعد بيوتًا ومآوي وذكريات وأشياء من كتب وملابس ولوحات، بل حتى الحب.
استدار راقصًا هازلًا: ما الفائدة طالما أننا في كل مرة وطرد نتركها متخلين؟
مضى يجري عبر مسالك الحديقة الضيقة: اللي في سكتي … يحلالي.
اندفع يجري ويقذف بلوحاته وأوراقه واسكتشاته، وجرادل نفطه وألوانه، عبر صالة البيت الضيقة هازلًا: ما الفائدة؟
اقتربت أصوات الدوي والمعارك، محاصرة أكثر حتى لم يعودا يسمعان بعضهما بعضًا، ويبدو أن المصور المرح قال الكثير الذي لم يصل منه سوى متناثرات، منها: أهمية بلا حتمية أن يحيا المطارد خفيفًا كمثل طائر ذليل، إلا أنه محلق بلا ممتلكات أو إرث.
وطالب بأهمية التراضي دون ضجر بما نحن فيه.
وحتى عندما صافحه المهاجر مبتسمًا مودعًا أعاد قوله: ما الفائدة؟
كانت الشوارع الصماء غارقة في ظلامها الدامس، ولا شيء ينبئ عن حياة سوى كوميونات المسلحين عند مفارق الطرق، وكانت السيارات المحترقة مكدسة على جانبي الشوارع بكثرة واضحة.
وبدت الدور التي رحل عنها أصحابها خامدة مستسلمة للوحشة التي حطت على جدرانها وكواهلها، أما أرضيات الشوارع والميادين الفسيحة فقد فُرشت بشظايا الزجاج المتطاير من الأبواب والنوافذ والشرفات، ولم يعد يُسمع سوى القصف المتلاحق عبر البحر والمحاور.
وكثرت بشكل ملفت أفواج الكلاب والقطط الضالة التي اتخذت أصواتها من نباح ومواء حدة أحالتها إلى أكثر ضراوة.
وحين تيقن من أن العدوى أصابته تداخل أكثر إلى أقرب سور واندفع يعوي.