الفصل الحادي والعشرون
تواصل القذف بعنف لدرجة أن العريض أطفأ فانوس سيارته «الخردة»، فمضت السيارة مندفعة تزحف عبر أكداس الظلام المخيم، إلى أن أشرفا على أحد جوانب حديقة الميدان التي أحرق العدوان شجرها، والتي أحالها الفلسطينيون إلى مجمع لمقابر شهدائهم، بل حتى الحديقة المقبرة لم تسلم بدورها من القصف والدمار، في محاولة الفاشست المعتدين لإعادة تدمير الموتى وحرق عظامهم داخل أكفانهم.
تسللا خارجين من السيارة، وحين حاول المهاجر غلق بابها امتدت يد العريض فمنعته وهو يجذبه من يده متسللًا عبر أوحال الشارع ومطباته، ثم استدار به جاذبًا إلى حيث فتحة خاصة بالنفايات، انفلتا منها إلى داخل المخيم الغارق لرأسه في الظلام والصمت، وروائح البارود، والتي يخالطها العطن.
وبحذاء الجدران واصلا تسللهما عبر عدة حارات متعرجة قذرة، قادتهما في نهاية المطاف إلى البيت المكون من أربعة طوابق، وما إن دلفا داخلين وأشعل العريض قدَّاحته، حتى أحاطت به ثلة من النساء والصبيان المهجرين تكوموا هنا وهناك، فزحموا المدخل والممر المؤدي إلى السلم الحجري القذر، واندفعوا سائلين عما يحدث.
الإسرائيليون يزحفون أكثر هذه الليلة، المخيم مطوق من محاوره الثلاثة، الخلاص.
تطلع الجميع إلى السماء، حيث تفجرت إضاءات القنابل الفوسفورية التي بدأت تسطع صفراء فاقعة مقتربة، فاضحة كل معالم المخيم، وهي تقترب أكثر ليتضاعف وهجها، محيلةً ليل المكان الدامس إلى نهار جلي التفاصيل؛ مما أتاح للمهاجر إعادة تأمل المكان وأناسه ونسائه اللائي رحن يغطين وجوههن بكفوفهن متواريات في استسلام، بينما أحاطت الأمهات بأطفالهن في انتظار ما يحدث ويعقب عادة مثل هذه القنابل الضوئية المشابهة لشموس بطيئة الحركة تسقط من عليائها فوق الرءوس، مضيئة محاور المكان هدف العملية، محددة أماكن الثوار والمقاتلين وأسلحتهم.
وحاول العريض — دون جدوى تُذكَر — تهدئة الجميع، بإعلان خبر الهدنة الذي سمعه في المقهى، مستشهدًا بالمهاجر وقبول المقاتلين الفلسطينيين قهرًا؛ حفاظًا على حياة النساء والأطفال … الخروج.
عمَّ صمت طويل حشد المهجرين والسكان فمعظمهم فلسطينيون.
اندفع يصعد بضيفه حيث يقيم، مستعينًا ببقايا شمعة لتجنب أجساد المهجرين الذين زحموا السلالم ومداخل الطوابق الأربعة، إلى أن وصلا المسكن المكون من غرفتين فسيحتين يغلب عليهما الإهمال وضيق ذات اليد.
انحط المهاجر من فوره على فراش غير مرتب، خالعًا عنه حذاءه وسرواله: إيه … هدنة.
وحين أغمض عينيه قليلًا مستسلمًا للقذائف المتبادلة التي كانت تمرق مدوية من فوق رأسه، تساءل: لو أنها ماتت ودفنوها لقضي الأمر.
كانت قد عودته على أن تجيئه، وبين أحضانه وذراعيه العظميتين تدفن مخاوفها وتوترها، بإزاء الاشتباكات الملتهبة دومًا على طول هذه المدينة: أين؟
مضى المضيف من فوره، يدفن ويداوي توتره … هلعه في الإكثار من جرعات الكوكايين واللفائف مغيرًا ملابسه، قافزًا ما بين زوايا الشرفة الرحبة المطلة على الميدان، وبين غرفة نومه، متحدثًا بصوت مرتفع دون أن يسمعه المهاجر، قال بأن الوضع يزداد سوءًا، وينذر بمؤامرة أكثر من الهدنة والتقاط الأنفاس.
وذكر أن هذا هو حالهم على الدوام منذ الأزل الطعنات من الظهر، وليتها طعنات! إنها مئات «الهيروشيمات» التي أصبحت مدوية تحت سمع العالم المتآمر بدوره وبصره.
وبدا معتذرًا لضيفه المهاجر، بأنه ضاعف من أخطاره هذه الليلة، وإن كان لم يعد يجد مهربًا منقذًا من هذا البلاء الباطش على طول المدينة وعرضها، إن لم يكن لبنان بكامله، بل والشرق الأوسط.
وأكثر المهاجر من موافقته: صح صح، تمام تمام.
وكان ساعتها غائبًا بكامله عما يحدث.
يسترجع لحظة تذوق دم صدرها النازف، والهلع الآسن في عينيها المعبرتين، وذكر محمود العريض، عبر حركته الدءوبة وتوقده بالجرعات كثيرًا: الخروج.
– ونحن؟
عاد ففتح باب الشقة على مصراعيه، قبل أن تطرقه ثلاث فتيات فلسطينيات يطلبن تسوية قهوة على بوتاجازه، ومن فوره اختفى معهن داخل المطبخ الضيق.
احتدم نقاشهن الذي لم يكن يخلو من ضحكات صافية: خروج.
وتصورها لحظة طرد جماعية، وود لو أنه واصل بحثه ولم يكل.
جاءته إحدى الفتيات خلسة بهدف الاطمئنان والتسرية عنه، تزحف على أربع على بلاطات الغرفة، بيدها لفافتها المشعلة — الملفوفة — لتقدمها إليه جاثية على أربع: الأخت الصغرى.
تعارفا حين قدمت له نفسها في بدلتها الجينز الأقرب إلى زي المحاربين، أميل إلى القصر والامتلاء، واسمها شادية، مخطوبة لشاب لبناني يدعى: بسام.
وبدت قليلًا مؤرقة وهي تقاربه ضاحكة لا يروقها الموقف بكامله، خاصة على هذا المحور، وأشارت له إلى الجهة المقابلة من الشرفة دون إدراك منه لشيء سوى تفهمه لمخاوفها الدفينة على صديقها المقاتل على ذلك المحور، وحيث أشارت «بسام».
ذكرته كثيرًا بصديقته من حيث حساسيتها وفروسيتها الدافقة، حتى ومحاولتها لتقريب حذائه من تحت السرير.
هب من فوره معتدلًا مرحبًا، معاودًا الانضمام إلى الباقين الذين تعالت أصواتهم بما يتلاءم والقصف القريب الضاري، ودارت القهوة واللفائف وجرعات العرق اللبناني الساخن، فلا كهرباء ولا ثلاجات.
اختلطت أصوات الفتيات وتعبيراتهن الساخطة الماجنة الهلعة مع أصوات راديو لالتقاط الأخبار، وتعرف موقع القدم، التنفيس فيما يحدث من أخطار محيطة مطبقة.
جرت إحدى الفتيات إلى الشرفة مشيرة إلى حيث الإنزال، واشتداد حركة مقاتلي القوات المشتركة في تشبثهم بأماكنهم أعلى البنايات المواجهة يسارًا، وخلف متاريس الشوارع، لا يثنيهم عن موقعهم تقدم صفوف الدبابات المشرفة على التلال المحيطة بالمدينة المحاصرة.
وبدا القلق أكثر مرتسمًا على وجه شادية.
تواصل القتال على مرأى منهم، وتداخل الجميع بعضهم في بعض، وارتفع ذعر السكان أكثر من فقراء ومطاردي الشعبين اللبناني والفلسطيني في الأدوار السفلى، للحظة أقرب إلى الومضة، تبدى الأمر له كمثل كابوس جاثم مخيم، ولا مهرب.
ركض مرات إلى الطرقة الخارجية، وتداخل في المهجرين المتلاصقين في بعضهم البعض كجسد واحد، دم واحد يسري متدفقًا في الشرايين، حتى لم يعد يعرف اللبناني من الفلسطيني.
– أما من مفر؟
قاربته الفتاة بيدها شمعة، وحين عاد إلى داخل المسكن أسلم نفسه للعريض والفتيات متداخلًا مفترشًا بلاط الشقة وبضع مخدات قطنية، تاركًا قياده لمهرب — العريض — بالنسيان والتناسي ضاحكًا مع الباقين.
بينما الدوي والحصار يزحف أكثر مطبقًا على الجميع، حين غفا المهاجر نائمًا، وعلا غطيطه.