الفصل الرابع والعشرون
تساءل المهاجر بين وقت وآخر عن ذلك الخيط الخفي غير المرئي الذي يربطها به إلى حد أن توقف حياتها عليه، وأن تتخلى عن مصاحبتها لأهلها الذين رحلوا إلى مهجرهم بالبرازيل، منذ الساعات الأولى للعدوان، بينما تخلفت هي مصرة على عدم ترك البلد للمعتدين؛ إذ إن هذا بالتحديد هو هدفهم، كما سبق لهم فعله في فلسطين، نشر الذعر والفزع وإعادة استثمارهما في ترحيل السكان وهجرتهم إلى حيث لا رجعة: لن أرحل.
وهكذا بقيت قاصرة طاقتها على العمل بالمستشفى تكنس وتنظف وتسهر على رعاية المصابين؛ لتعود آخر اليوم لترعاه، تقرأ له وتنصت الساعات الطوال، وتصنع له قهوته السادة وطعامه، وتحمل الماء والصحف وخبز المستشفى «الجراية».
ما الذي يشدها إليه؟ إنه لا يستطيع الادعاء بأنها على دراية بدوره الفكري، فكيف يصلها منهجه في علمنة الثقافة، وعلوم الأثنوجرافي والأنثروبولوجي، وجدلية ما يحدث بعامة، ثم ما ضرورة مثل هذا الآن في «جحيم» ما يحدث، وتلحقهما نيرانه ووهجه الحارق؟ أسئلة يظل يطرحها دون إجابة، منذ ذلك السيمنار الذي انتهى بالانفجار والمصحة المعتقل معًا، لحين مجيء العدوان بدءًا من الجنوب مستشريًا عبر كل المحاور، لحين القتال والصمود، وقبول الخروج والرحيل، ووصول القوات متعددة الجنسيات.
تذكَّر وعوده المتكررة لها بالسفر والترحال لرؤية أكبر حيز ممكن من هذا العالم، وتضاعف هذا الحلم وكبر أكثر مع حلول العدوان والحرب، ما الذي يشدها إليه؟ أتراه افتقاد الأب، على عادة ما يحدث بالنسبة لمثل هذه الحالات؟ أم تراه الخطر؟ تللك الجاذبية الخفية «اللامرئية» التي جاء من وطنه هاجًّا إلى هذا البلد الصغير الغارق لقمة رأسه في بحاره الآسنة.
بل إن تساؤلاته أوصلته إلى حد محاولة الإمساك بتلك الصدفة التي دفعت بكليهما إلى المجيء أصلًا إلى هذا الحي الفقير المضطرب دومًا بمعدمي الشعبين الفلسطيني واللبناني، إن لم يكن كل الفقراء، من لا وطن لهم. ذات ليلة، سألها إن كانت تستشعر بحق مدى الأخطار المحيطة، وإن كانت تفضل الرحيل والبحث عن مسكن أو مأوى آخر أكثر أمنًا، قالت: أين؟
وأردفت بأن الخطر هنا كما هو بكل أحياء بيروت، لا فرق يُذكر بين المسكن والخندق والشارع، طالما أنهم أصبحوا يتعمدون ضرب المخابئ ذاتها، ومدافعهم تطول كل شق في بيروت الغربية الوطنية.
وتعللت بارتباطها بزميلتها الدرزية والمستشفى القريب الذي تعملان به، وإقامة جسور الاتصال والتعارف بالجرحى والمصابين حتى الأطفال، ومن غَيبت الحرب وجوههم إلى حد البشاعة.
– كيف أتخلى عنهم؟
قالت: كيف أتخلى عن صديقتك الفتاة الفلسطينية شادية، التي جاءوا بها ورفيقها اللبناني فجرًا كتلة لحم بلا وجه، سوى من بقايا نبض ضنين، وأحسست بها وهي مسجاة تحملق بي متعلقة بأحد ذراعيها بمؤخرة عنقي هذا ضاغطة، إلى أن توقف نبضها، وسرت البرودة من قبضتها خلف عنقي إلى عنقي ذاته، وبقية جسدي وأطرافي.
– وكيف؟
لا أحد يعرف، بل هو نفسه المهاجر لم يعد يدري؛ ففيما يتصل بنفسه يستوي الأمر، فهو لم يتخل للحظة عن سلاحه. صحيح أنه غير كافٍ، ولا يستوي مع أسلحة العدو من نابالم وقنابل انشطارية وأوبئة؛ ذلك أن سلاحه مجرد سكين «قرن غزال» أو موسى، إلا أنه كافٍ في كل الحالات وأضيقها لقتله أو انتحاره، بإزهاق نفسه، وقتما أراد.
وقليلًا ما حادثها في هذا، حين تحسسته تحت وسادته — الموسى — ذات ليلة، ولمسته سائلة: لماذا الاحتفاظ به هنا؟
تردد في البداية حول كيفية إخبارها، إلا أنه ألمح لها بحقيقة الأمر، كيف أن لكل إنسان مأزقه واختياره لتوقيت فك وثاقه وغيابه.
ساد الصمت بينها للحظة كان من الممكن أن تطول جدًّا، ذلك أنها قامت مبتعدة عن الفراش، واندفعت تتأمل وجهها وجسدها نصف العاري بملابسها الداخلية، ثم اتجهت إلى المرآة المواجهة لباب مدخل المسكن، وتناولت لفة زهور — الأوركيدا — التي كانت قد جاءت بها إليه، ومضت في ذات الصمت توزع الزهور وتنسقها في فازات البيت إلى أن عادت إليه، فأشعلت لفافة وانحنت على ذراعه فلثمتها قائلة: طبعًا الانتحار حل مطروح.
وجاهد هو ساعتها في تغيير الموضوع الماثل للحديث، معيدًا الموسى إلى مكانه، وهبَّ من فوره منشغلًا معها، ومساعدتها في تنظيف حوض غسيل المطبخ وإعداد القهوة.
ولعلها كانت اللحظة المحددة التي مست فيها قلبه «الشائخ» فأحبها.