الفصل السابع
ما إن دق جرس الباب — وكان له صوت الصلاصل اليونانية والإيجية الشعبية — حتى أحس المهاجر من فوره بالإظلام الذي عم عين الباب السحرية، وسط ظلام الطرقة المديدة الموحشة.
تسمَّر في مواجهة العين محاولًا الابتسام غير البعيد عن التوسل فترة طالت إلى حد أنه عاد يجاهد في أن يتعرف الوقت في ساعته الفسفورية، وهاله أنها تقارب الرابعة صباحًا.
أعاد طرق الجرس ووصله همس طويل مصحوب بحدة تمادت إلى حد العنف والضراوة، تبعتها صرخات الاستغاثة المكتومة التي سرعان ما خالطها صدى أشياء تتهشم وتوجعات انتهت إلى الضراعة الكاملة، والعواء المفضي في كل الحالات إلى الصمت المطبق.
فتح الباب كمثل شق ضنين عن جسد الأخت الصغرى الجهمة، بينما اندفعت الأخرى الأقل حجمًا تتوارى هنا وهناك، مطلة برأسها الصغير الدقيق المكفهر من تحت الكنب، وأغطيته، نافذة كمثل جرذ بشري إلى ما خلف ستائر الشرفة الزيتية، مطلة بعينيها الخرزيتين التركوازيتين.
أشارت له العالية بالدخول وهي تجذبه بامتهان جلي من كتفه الأيسر: ادخل.
تحاشى نظراتها وتحرشها الاصطناعي، وهي الفتاة الصغرى التي لا يخلو مظهرها وسلوكها اليومي في وضح النهار من الحياء والتناسق، أما الآن على هذا النحو الضاري.
تحاشى من فوره عينيها، وأفخاذها السمراء الوردية المتناسقة وهي تضع — بتحدٍّ تَبدَّى في عيني الأخت الكبرى الضئيلة التي كانت لحظتها منكمشة في افتعال واضح، إلى جانب انثناءة جدار بالقرب من ألسنة النيران — نيران الفحم المتوقدة داخل الموقد المرتفع النحاسي.
شغل نفسه عن عينيها وفخذيها باسترجاع بضعة مشاهد، قراءات، ذكريات لها مستودعها، منها: كيف أخذ القديس مكان الأسير في السفينة، والسيد مكان اللصين المغمغمين الفاهمين.
«خلص آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها».
ومنها: ظهر مدير البرق ماشيًا بين أحواض زهوره المستأنسة في بطء شديد، إلى حد إيقاع الضحية استكانتها.
مضى من فوره مُسلمًا على الأخت الكبرى، الأقل حجمًا، التي سرعان ما استعادت توازنها، ابتسامتها البريئة متقدمة منه في ترحيب بالغ، في ذات اللحظة التي عادت فيها العالية إلى حيث كانت تجلس على كرسي أو «بوف» واطئ إلى جانب مدفئة نحاسية هائلة الحجم تغلي بنيران الفحم وعليها آنية القهوة.
ولم ينقضِ وقت كثير حتى اندفعت كلتا الأختين تكيد للأخرى، قالت العالية في اتهام مشيرة بذراعها كلها إلى أختها الكبرى دقيقة البنية: ما كانتش عايزة تفتح لك الباب.
بينما ارتمت الأخرى أمامه على البساط الأخضر الرخيص محملقة في وجهه المخمور النائم كمن تستطلع أعماقه، وما يعتمل في أعماقه: ما تشرب من القهوة دي.
في الوقت الذي صبت له الصغرى فنجانًا ضخمًا أناضولي الطراز مشيرة في شبه أمر: خذ.
هب من فوره راكضًا منحنيًا قابضًا على يدها بالفنجان: في وقته … آه الصداع.
انقضت الكبرى مغتصبة الفنجان من يده، جارية إلى المطبخ المقابل وهي ترشفه في نهم.
بينما أشارت له العالية من مكانها: ميتة من زمان.
وصبت له فنجانًا فأخذه متراجعًا، مرتشفًا، وهو موقن مما به.
مضت الماجدة ترقص وتحادث نفسها طويلًا وهي متقوقعة في شباك المطبخ.
أما هو، فمضى يتخفف من ملابسه استعدادًا للتمدد والإغفاء، دافعًا عن مخيلته أشياء أحاطته متلاطمة ينقصها التتابع، إن لم يفسدها، ذلك أن حركاتها جاءت مستعرضة، إن لم تكن أيضًا مكركبة لسراديب بكاملها تطلق عنانها.
حاول إعادة التيقظ مسلطًا عينيه على عيني العالية في جلستها لجذب انتباهها دون جدوى.
حاول بضع مرات الكلام، تحريك أصابعه في حذر من أمام عينيها الكبيرتين المسلطتين دون أدنى رمش منها.
عاد متمددًا متمرغًا على الفراش، وأراحه جدًّا أنه ها هو أخيرًا وحيد، قوي في كل حالاته، بلا عين آخر، رقيب.
راحت الماجدة تغني لنفسها في شرفة المطبخ، تحبو على أربع في بطء ومعاناة.
تذكر عالم المصور الروسي الأبيض المرتد، كاندنسكي، لمدن زرقاء طائرة، وقذائف، وسقوط متهافت للطبيعة ومرئياتها، تداخلات الأحمر مع زرقة السماء بلا غيوم كثيرة، قباب وكاتدرائيات وأقبية.
وتذكر أزقة المدن العتيقة بالأسطورة والمعمار، تلك الشقوق وسراديب البيوت وباحاتها، أبوابها التي عادة ما تعلوها أيقونات الحيوانات والطيور المحفورة على الأخشاب المقدسة، المشئومة — اللاعربية — من تماسيح وبوم أم آويات وحدآت؛ لطرد الأرواح الشريرة التي عادة ما تتلبس الغرباء من أمثاله، الداخلين.
ربط بينها وبين أدعية داخلي المنازل: يا ساتر، يا أهل البيت، يا من هنا.
الناس في تدافعها أفواج إثر أفواج في سوق الحميدية، ومن حول المسجد الأموي يخلعون الأحذية … المداسات.
والماجدة تزحف ببطء طويل سلحفائي إلى حد التوقف في حيزها الضيق على أربع كمثل رضيع داخل رحم.
وتذكره من فوره، ذلك الرحم الخالق، الذي توقف أمامه كثيرًا في الأنتيكخانة، ومتحف الإنسان حين طالعه فور دخوله مُهَمْهمًا أو هو مترنمًا على عادة الداخلين الغرباء: المعبود الأول.
الماجدة داخل الرحم.
قال: تسقط من الشباك.
أما الأخت طويلة عظم الوجه، فقط غطست طويلًا في سباتها. سمراء أوصلت نيران المدفئة النحاسية بسقاطاتها جسدها أفخاذها إلى درجة من الاحمرار ضارب القتامة، مضت تمدد أطرافها مسترخية أكثر على كرسيها الواطئ إلى حد ملامسة بلاط الشقة.
تفرس في وجهها طويلًا، حين انفرجت شفتاها المزمومتين الصارمتين عن كلمات أحجية لها طابع النصوص المحفوظة.
مد رقبته الطويلة النحيلة وهو يزحف طويلًا إلى أن قارب حافة الفراش، وعيناه إن لم يكن انتباهه بكامله معلق بالصوت الكلمات، تيقظ حين قارب السقوط من الفراش، ولفحه أكثر وهج نيران فحم العنب المعبق المشعل.
ولما لم يسمع المهاجر شيئًا بأكثر من الطلقات المتقطعة لحين الدوي المتقطع من العالية المبنجة، فقد زارته من جديد حكاية مدير البريد بشعره الذي خالط بياضه سواده، داخل مثلث نيران الميليشيات الفاشية، ثم وهم يضحكون.