الفصل الثامن
ما إن هب المهاجر العجوز من إغفاءته القصيرة تحت لسعات ضوء النهار المتسلل عبر ستائر الشرفة، وتحسس منظاره متطلعًا، ورأى الوضع على حاله، حتى تسلل إلى حيث معطفه وحقيبته، فحملها مواصلًا فراره.
قال: العالية تسقط في النار.
تلقفته الشوارع المجنونة بالجري ونيران المحاور، الجموع المتدفقة حول أفران الخبز والبوتيكات، والمرأة الضخمة الجثة على رأس ميليشياتها، تعتلي البنايات مطالبة بتضييق الخناق للتنفس.
اتخذ من فوره تاكسيًّا إلى أقرب شقة مفروشة، أشار عليه السائق بها.
بناية بيزنطية الطراز والمعمار غاب عنها طلاؤها، تقبع بأسوارها المتعالية كمثل حصن خربه أعداؤه يتصدر إحدى جادات بيروت وحواريها.
غمغم من فوره حين تمدد على فراشه الجديد بملابسه: تسقط في النار.
مضى يتقلب في فراشه، محاذرًا ألا تعاوده الحالة، حاول إدخال البهجة إلى نفسه مغمغمًا: «عش في خط» الموت كمدًا على كل فراش، كنبة، صوفة، سجادة، أدبخانة … أدب خانة، ما الفرق؟
تذكر مخلوقاته الحبيسة التي كانت داخل حقيبته الكبرى: من شطار، ولصوص مهرة، وأفاقين، وسائلين لهم هيئة آلهة قمم أشجار الأرز والبكاء المتسامقة.
«عندما تسمع صوت أقدام في رءوس أشجار البكاء».
ربط بين أشجار البكاء المتسامقة العلو، وبين مقولة رابين الشهيرة خلال عدوان ٦٧ لطياري جيش الدفاع الإسرائيلي: تذكروا أن إسرائيل كانت على طول تاريخها تنفذ من السماء.
غمغم: لعله يهوه الطائر المحارب.
وتذكر حكاية ذلك الرجل الأبله الذي أمسك بعندليب بشري ينطق بالحكمة، فسخر الطائر الأخرس، محلقًا في انتصار من على رأسه ريشة.
قردة بالنهار يأخذن في التحول والتبدي إلى فتيات فاتنات مع غياب الشمس ودخوله الليل الفطيس، يعجِنَّ العجين، ويخبزْنَ ويُطعمنَ حيوانات البيت الأليفة أو الجبانة.
ملوك تُهتك عروشهم، حُلَلهم الملكية جلودهم في مواجهة رعاياهم خصيانهم، ويتسمون في اليمن الغابر بمزيقيا.
بهائم ترعى في الجدب وتراب الأرض بدلًا من المراعي المزهرة المحيطة الفارغة، حتى لا تسمن وتشبع فتشطح ناطحة أصحابها؛ حكامها السلطويين الخونة.
هداهد وطواويس متلصصة كمثل شرطة القمع والمباحث، الناس داخل الأقبية المفضية إلى مدن البيع والشراء بالصلاة على النبي، بل وبلا صلاة واستنجاء، تأخذ حاجتها … ما يكفيها وتمضي، والويل للخونة اللصوص الجشعين، العثمانيين، الصول الخائف المرتعد منه في محنة سعاره على مشارف عمان وتلالها يحتمي بالجدران، بطوب الآجر الأحمر، يداه على وجهه كمن يخفي عينيه، يحتمي بالرمال والتراب لتؤويه، يخاف الطرد المحقق في كل الأحوال، العصور.
حاول إدخال البهجة إلى نفسه قائلًا: خايف مني.
اعتدل جالسًا على حافة السرير، ومضى يتخفف من خفيه معانيًا في تذكر ما حدث: تلك القهوة اللعينة.
انثنى يدلك معدته متلويًا حين طالعته صورته في المرآة على هيئة شخصيات فان جوخ، جاحظة العينين، الشمامين، بجلودها السوداء المشققة تحت معارك الألوان الهستيرية أو الانتقامية، تتحسر مسندة على الجدران الصماء التي لا ترد تحية، صدًى لصوت، دوي انفجار، ماذا حدث؟
ساءه وضعه إلى حد أنه تسند واقفًا، منكفئًا مقررًا إخراج مواد حقيبته، كراساته، الناس وزواحف الأرض الزانية والفتانة وناكرة الجمائل، أين هي حكايات الموتى؟ آثار أقدامهم؟ حكمة السلف من صالح لطالح؟ ما يحدث على المحاور، وعبر الساحات المحترقة بالقار والنفط، المانيكانات الشمعية المُسيَّجة بالمرايا في الأسواق التجارية، كنب الأرصفة، الباروكات، وسينمات السيكس آبيل، وجيمس بوند، والأميركان جوجولو.
وجه العالية سليبة الإرادة بجدائلها وردفيها على وهج ألسنة الموقد النحاسي، تسقط على وجهها سائحة كشمع قاتم.
لو أن شخوصه تحركت من حوله، أخذته معها من حيث جاءت، لو أنه سمع صراخ الأخت الكبرى الضامرة إلى حد طفلة داخل رحم محذرة: ما تشرب من القهوة دي.
تذكر أنها عادت فخطفت فنجانه وارتشفته بكامله، لعلها لا تزال داخل قفصها بشباك المطبخ على ذات النحو.
جاهد طويلًا هذه المرة في منع نفسه من أن يجهش بالبكاء، حيث هو وحده بلا عين أو رقيب، سوى المرآة المؤسفة المحدقة تترصده من جوانبه العدة، كمثل شخص يقظ لم تلحقه قهوة العالية تكبرها: اشرب.
ها هو نهبًا لأسره الاختياري يمزق جلد وجهه، بينما من المرآة تطل عليه في خرسها فتاة راشيا الفخار، الجنوب، بقميصها قاتم الزرقة، وحنانها الطافح تضع من فورها يدها على فمه كمن تمنعه من الصراخ، النحيب الليلي، الذي يلازمه منذ أن كان يحبو على أربع مثل دواب الأرض … جرذانها.
في تلك الأيام الخوالي التي سبقت دخول الكهرباء وتوابعها من بوتاجاز وراديو، وتليفون وتليفزيون، وشاحنات وسيارات الميكروباس والتيوتا، وسخانات المياه والسيفونات.
اندفع يحبو عبر الحواري الموحلة والمتنزهات الغاصة بزهور عباد الشمس ونجيل الأرض البري، خلجان الضفادع، وفراشات ديدان القز، والحدآت العملاقة المهاجمة، سارقة الأطفال الرضع، كما تروي عنها آداب الكلام، القطط وولائمها المسحورة في أعياد اللحم، والضحايا في عالم الدواب وما تحت الأرض.
حاول تذكُّر واحدة دون جدوى، تذكر بدلًا منها حكاية أنكيدو مع حيواناته البرية، تلك التي كان يعاشرها عند موارد المياه، إلى أن اقتنصته عاهرة أوروو حين كشفت له عن فرجها، مهبلها الصغير المكفهر؛ حيث كان يستبقي مع حيواناته من نمور وأيائل وحمير وحشية وحيات.
فكان أن ضاجعها سبعة أيام وست ليال، وحين عاد إلى حيواناته أدارت له ظهرها، وفرت هاربة منه، يا للإدانة!
قام من فوره متسندًا فاتحًا حقيبته الكبرى، ملقيًا بكومات كراساته ونوته وأوراقه الصفراء، وهو يجرها جرًّا إلى حيث الطاولة الكبيرة التي أُعدت للأكل والولائم، فأحالها إلى مكتب تعلوه أكوام الكتابات الخطية والمراجع الرثة، تحسس رأسه بين كفيه، مُبعدًا شبح ذلك الكابوس الليلي.
ابدأ بالتصنيف، هه، ها هي حكايات الجان المردة النداهات أم الشعور، أشباح ما تحت الأرض، أين؟ ومن عليها في كل شق ومكان، وأينما وُجد حيز، تلك التي ما إن يواجهها الإنسي: اتشطر على من قتلك.
حتى تتوارى من فورها، إن لم تحترق بنيران أحقادها حيث هي.
ها هي حكايات الأشجار وأخشابها المقدسة من زان وجميز وعوسج، حين أرادت الأشجار يومًا أن تولي عليها ملكًا هو العوسج، الذي هدد من فوره بأن تخرج نيرانه لتحرق أرز لبنان. هه.
قال وهو ينحني هنا وهناك بشكل آلي، مُغيرًا من أوضاع أكوامه، كمن يفنط أوراق كتشينة: الحيوانات والطيور وزواحف الأرض المشئومة والنجسة لها خانتها في هذا الدرج، من كلاب وأتان وغربان وبوم وضباع وحيات زانية.
– ثم يجيء الدور على حمامة الأيك والحمى، واليمامة ومدنها على طول جزيرة العرب العارية، والعنكبوت الذي له سورته (وليس صورته) كحيوان أو حشرة منقذة أن ضللت مغتالي الغار، غار حراء، وفوتت عليهم فرصة الاغتيال الجماعي.
– دمه على الجميع.
قال: يبدو أن القتل البشع الممزق، كان من الميسر حدوثه في مكة وإتمامه بنجاح، لولا العنكبوت التلقائي المبادر.
قال: ويبدو أن الهدف لم يكن القتل لذاته بقدر ما هو تغيير مسار الأسطورة البدوية، لولا ذلك العنكبوت الدينامي المناور لتغير كل شيء، كل شيء.
تذكَّر كومة لعب الأطفال، فعزلها مبعدًا: كوك كوك، إنتو نصارى والا يهود.
ترنم: أنا الغراب النوحي.
أخطب وأروح على سطوحي
وأعجبته فابيولات صديق الفلاح المصري، أيبس أو أبو قردان، ذلك الذي يُنسب له أنه عيط عيطة شق الحيطة.
قتل ولاده وقعد مسكين.
ساعتها كانت قد غزته النوبة، التي عادة ما يسبقها السعال، وجاءته منكفئًا على أكوام أوراقه، فراح يزيحها بذراعيه المشمرتين بعيدًا، وآلمه أكثر أنه عاد فهدم جهده المرهق، تصنيفه، مرة أخرى يختلط الحابل بالنابل، والغلة بالغلث، سعل قائلًا: الغلث.
جاهد طويلًا في منع النوبة، مُركِّزًا جلَّ ما تبقى من انتباهه، أين؟ على ذلك الجاثم في مرآته، حكاياته من شفوية ومدونة، ذلك الصراع الإمبراطوري المقدس، للذبيحة الرومانية يوليوس قيصر.
أراحه قدرته على الإفلات من حصار الحالة، واصل تنفسه المتعسر ملقيًا بنفسه على الفراش. نام.