الملك لير
كان الملك لير عجوزًا مُنهَك القوى. وكان قد سئم من إدارة شئون مملكتِه، وأراد أن يُنهيَ أيامه الباقية في الحياة في هدوء بالقرب من بناته الثلاث. وكانت اثنتان من بناته متزوجتين من دوقَي ألباني وكورنوول، وكان دوق بيرجاندي وملك فرنسا متقدمَين لخطبة كورديليا، أصغر بناته.
استدعى لير بناته الثلاث معًا، وقال لهن إنه نوى أن يُقسم مملكته بينهن. ثم أضاف: «لكن أولًا أود أن أعرف مقدار حبكن لي.»
قالت جونيريل، التي كانت في واقع الأمر امرأة شريرة جدًّا ولم تكن تحب أباها على الإطلاق، إنها تُحبه أكثر مما يُمكن للكلمات أن تصف؛ فهو بالنسبة إليها أغلى من عينيها والكون والحرية؛ أغلى من الحياة والمكانة والصحة والجمال والشرف.
وقالت ريجان: «أحبك قدر حب أختي لك وأكثر؛ فأنا لا أهتم بشيء سوى حب أبي.»
سُر لير بشدة بما قالته جونيريل وريجان من بعدها، والتفت إلى ابنته الصغرى، كورديليا، قائلًا: «والآن، يا بهجة النفس، أيتها الأخيرة من بناتنا، لا الأخيرة في محبتنا، لقد أبقيت لكِ أفضل جزء في مملكتي. فما الذي بوسعكِ أن تقوليه؟»
ردت كورديليا: «لا شيء يا مولاي.»
قال الملك: «لا شيء يأتي من لا شيء! تكلَّمي مرة أخرى.»
ردت كورديليا: «أحب جلالتك قدر ما تستوجبه بُنوَّتي لك؛ لا أكثر ولا أقل.»
وقد قالت هذا لأنها كانت تمقُت الطريقة التي عبرت بها أختاها عن حبهما لأبيهما، في الوقت الذي لم يكن فيه لديهما فعلًا أي إحساس حقيقي برباط البنوة تجاه أبيهما العجوز.
وأضافت: «إنك ولدتَني وربَّيتني وأحببتني، فأنا أجزيك على هذه الفروض ما تستوجبه مني: أطيعك وأحبك وأجلُّك إجلالًا كبيرًا.»
إن لير، الذي كانت كورديليا ابنته المفضلة، كان يأمل أن تتفوَّق على أختَيها في التعبير عن حبها له؛ لذا قال لها: «ابتعدي عني؛ فقد أقصيتكِ منذ اليوم عن قلبي ونفسي.»
حاول إيرل كِنت، الذي كان أحد رجال البلاط والقادة العسكريِّين المفضلين للير، أن يدافع عن كورديليا، لكن لير ما كان ليسمع له. وهكذا، قسَّم لير المملكة بين جونيريل وريجان، وأخبرهما أنه سيَحتفظ فقط بمائة فارس لخدمته، وسيعيش مع كل منهما شهرًا بالتناوب.
عندما علم دوق بيرجاندي أن كورديليا لن تحصل على أي نصيب في المملكة، تخلى عن عرضه بخطبتها. لكن ملك فرنسا كان أكثر حكمةً منه، وقال: «إن ابنتك التي بلا مهر هذه، أيها الملك، ستكون ملكة على نفسي، وعلى شعبي، وعلى ديار فرنسا الجميلة.»
قال الملك: «خذها، خذها؛ إذ لا نريد أن تقع عليها بعد اليوم عيننا.»
وهكذا، أصبحت كورديليا ملكة فرنسا، وصدر أمر بنفي إيرل كِنت، لتجرُّؤه بمحاولة الدفاع عنها، من المملكة. وذهب الملك ليُقيم لدى ابنته جونيريل، التي أخذت كل شيء كان لدى أبيها ليعطيه، وبدأت الآن تتذمَّر حتى من احتفاظه بالمائة فارس الذين أبقاهم لخدمته. كانت قاسية وعاقةً له، وقد كان خدمها يرفضون إطاعة أوامره أو يتظاهرُون بأنهم لم يسمعوها.
تظاهر إيرل كِنت، الذي حُكم عليه بالنفي، بأنه ذهب إلى بلد آخر، ولكنه بدلًا من ذلك عاد متنكِّرًا في شخصية خادم وعمل في خدمة الملك. والآن، أصبح لدى الملك صديقان؛ إيرل كِنت، الذي كان يعيش معه كخادم، والبهلول، مُضحِك الملك، الذي كان مخلصًا له. قالت جونيريل لأبيها بوضوح إن فرسانه لا يقومون بشيء سوى إثارة الشغب والصخب في بلاطها، وترجَّته بشدة أن يحتفظ في خدمته ببضعة رجال كبار السن مثله.
قال لير: «حاشيتي من صفوة الرجال. جونيريل، لن أزعجك أكثر من ذلك، فلم تزل لي ابنة أخرى.»
عندما سُرِّجت خيوله، انطلق متجهًا مع أتباعه إلى قلعة ريجان. لكن بدا أن ريجان، التي فاقت فيما مضى أختها في التعبير عن حبها للملك، قد فاقتها الآن أيضًا في سلوكها العاق تجاه والدها؛ إذ قالت إن خمسين فارسًا كثيرون جدًّا، وقالت جونيريل (التي أسرعت إلى قلعة أختها لتَمنع ريجان من إبداء أي مشاعر طيبة تجاه الملك العجوز) إن خمسة فرسان كثيرون جدًّا، حيث إن خدمها يُمكنهم رعايته.
عندما رأى لير أن ما تريدانه بالفعل هو أن تتخلَّصا منه، تركهما. وقد كانت تلك الليلة ليلة عاصفة وموحشة، وأخذ يهيم في الأرض البور وقد كاد يُجن من البؤس الذي يشعر به، ولم يكن له رفيق سوى البهلول المسكين. لكن بعد فترة قصيرة عثر عليه خادمه، إيرل كِنت الطيب، وأقنعه في النهاية بأن يحتمي بكوخ صغير مهجور. وفي الفجر، نقل إيرل كِنت ملكه إلى دوفر، وأسرع إلى بلاط ملك فرنسا ليخبر كورديليا بما حدث.
أرسل زوج كورديليا معها جيشًا واستطاعت بمساعدته الذهاب إلى دوفر. وهناك، وجدت الملك لير المسكين، وهو يهيم على وجهه في الحقول، مرتديًا تاجًا من نباتات القراص والأعشاب. أحضره أتباعها وأطعموه وألبسوه ثيابًا لائقة، وجاءت إليه كورديليا وقبلته.
قال لير لها: «أتوسل إليكِ أن ترفقي بي، انسي واصفَحي؛ إنني شيخ أحمق.»
لقد أدرك الآن أخيرًا مَن أكثر بناته حبًّا له، ومن كانت أحق بحبه.
كوَّنت جونيريل وريجان جيشًا مشتركًا لقتال جيش كورديليا، ونجَحا في مهمتهما، وألقيا بكورديليا وأبيها في السجن. وعرف زوج جونيريل، الذي كان رجلًا طيبًا، ولم يكن يعرف مدى خبث أخلاق زوجته، حقيقة القصة بالكامل، وعندما عرفت جونيريل أن زوجها أدرك طبيعتها الشريرة، قتلَت نفسها، بعد فترة قصيرة من قتل أختها ريجان بالسم، بسبب الغيرة.
لكنهما كانا قد خطَّطا لشنق كورديليا في السجن، ورغم أن دوق ألباني قد أرسل رسلًا على الفور لوقف هذا، فقد كان الأوان قد فات. جاء الملك العجوز يمشي مترنحًا إلى خيمة دوق ألباني، وهو يحمل جسد ابنته العزيزة كورديليا على ذراعيه.
وبعد قليل، والكلمات التي تُعبر عن حبه لها كانت لا تزال على شفتَيه، وقع على الأرض وهي لا تزال على ذراعيه، ومات.