دين بني إسرائيل
لم تكن الديانة اليهودية في كل زمن مطابِقةً لما نسميه اليوم باليهودية.
وكان لا بد من انقضاء قرون طويلة قبل أن تصبِحَ مناحي الساميين التوحيدية الموحدة في كونية بابل، والمحررة بالتدريج من الإشراك الآسيوي؛ الدينَ الذي زاوله اليهود منذ يسوع المسيح والذي يُردُّ إلى زمن العودة من إسارة بابل تقريبًا.
ولا شبه بين إله اليهود الراهن، الذي يُوَحَّدُ بأبي المخلِّص إله النصارى، وإله سيناء يَهْوَه الذي يراد اشتقاقه منه، وهو أكثر مشابَهةً من ذلك بإله الرعاة الغامض الكبير إلُوهِيمَ، الذي لا تجد له شخصية يَهْوَه الضيقة الشديدة.
وإلوهيم هو الاسم الذي نراه قد أُطلِق بالحقيقة على الألوهية في أقدم أسفار اليهود.
ولا يمكن أن يقال إن إلوهيم هو إله واحد؛ لجَمْعيَّة اسمه، ولأن جميع الكلمات التي ترجع إليه قد وردت بصيغة الجمع.
فبنو إسرائيل كانوا يعبدون إذن إلوهيماتٍ في أثناء حياتهم البدوية التي قضتها أجيالهم الأولى.
ولذلك لا ينبغي أن يُطْلَبَ من هذا الشعب البسيط تعريفٌ وثيق لموضوع عبادته، ولمبادئ الروح الساميَّة ما لآفاق الصحراء من الوجه الفخم النمطي المبهم، والروح السامية لا تحدد شيئًا، والروح السامية لا تحتوي شيئًا على أوجه واضحة مقررة كثيرة كالتي أسفر عنها الخيال الآري بسهولة، واليوم لا تجد لدى البدوي الحاضر سوى دين مبهم يكترث له، وذلك على الرغم من إسلامه الظاهر.
وما كان من فقدان الأوثان بين الساميين ومن احتياجهم إلى البساطة، فقد كان يُعدهم إلى التوحيد فانتهوا إليه بسرعة.
على أن من الإفراط في التوكيد أن يُخلَط توحيد حياتهم الابتدائية المبهم بما أعلنوه بعد زمن من الإيمان بإله واحد.
والحق أن إلوهيم الأجيال القديمة السَّديميَّ العاطل من الجنس والاسم، والواحد والمتعدد في آنٍ واحد، يقرب من إله الأديان الكبرى الحديثة العام أكثر من قُربه من يَهْوَه الجائر الذي يقطر من دم الشعوب المذبوحة، ومن لحم القرابين، والحامي الوثيق لشعبٍ صغير هزيل، والأخ لمُولَك وبَعْل.
ومن الصعب، مع ذلك، أن يُسْهَبَ في بيان دين اليهود الابتدائي؛ وذلك لأننا لا نستطيع أن نحكم في أمره إلا من خلال حال شعوب الجنوب السامية، أي شعوب ذلك العرق التي لم تُعَانِ نفوذَ الأجنبي.
ومهما نَعُدْ بعيدًا إلى تاريخ سامييِّ الشمال — العمونيين والإسماعيليين واليهود — لم نستطع أن نعرف من ديانتهم غير ما كان عقب إقامتهم بما بين النهرين، تلك الإقامة التي طُبِعت بطابع الفكر الكلداني الثابت.
وعمَّ الإشراك آسيا منذ أقدم أزمنة التاريخ اليهودي، حتى في آل إبراهيم، وثلاثةٌ من الموجودات الإلهية هي التي أوحت إلى هذا الأب الراعي بهَدْم سَدُوم، وراحيلُ أخذت معها الأصنام لابَان حين تركت بيت أبيها.
ومما يُبْصَر من قصة إسحاق كذلك، وجودُ القرابين البشرية منذ ذلك الزمن، ودوام هذه القرابين لدى بني إسرائيل زمنًا طويلًا.
وأسفرت إقامة العبريين بمصر عن قليل أثر في ديانتهم، ومن غير الحق أن أريدت رؤية ذكرى أبِيس في العجل الذهبي على ما يحتمل.
وكان ذلك العجل، الذي هو رمز الرجولة، منتشرًا في جميع آسيا، وكان ذلك العجل من أصلٍ كلداني، وكان بنو إسرائيل يعبدون العجول المعدنية بعد خروجهم من مصر بطويل زمن؛ لارتوائهم من مبادئ ما بين النهرين الدينية، وكان هذا هو الوجه المفضَّل الذي يرمزون به إلى يَهْوَه.
ومن مصر لم يقتبس بنو إسرائيل سوى جزئيات ظاهرية، أي صدرة الأحبار وتابوت العهد أو الناووس السهل النقل المشتمل على يَهْوَه في شكل حجرين.
ومما يُذكَر أن فرعون مصر، وهو المساوي للآلهة، هو الذي كان يحق له وحده أن يفتح الناووس وأن يرى الشِّعار المرهوب الحافل بالأسرار.
وفي اليهودية كان يحق للحَبْر الأعظم وحده أن يدخل مرةً واحدةً في العام الواحد قُدْسَ الأقداس، حيث تابوت العهد.
والويل كل الويل لمَن يجرؤ على مسِّ ذلك الصُّوَان المقدس؛ فقد أصيب الفلسطينيون الذين كانوا قد أخذوه معهم بين غنائمهم بشرورٍ مرهوبةٍ لم ينجوا منها إلا بعد أن أعادوه، واعتقد أحد ضباط داود سقوط ذلك التابوت، فأراد دعمه فمات من فوره.
لا يعودون يقولون تابوت عهد الرب ولا يخطر لهم ببال، ولا يذكرونه ولا يفتقدونه ولا يُصنع من بَعْدُ.
وفي وادي الفرات نشأت ديانة بني إسرائيل، أو على الأصح مختلف العبادات التي مارسها بنو إسرائيل، وذلك بين إقامتهم بفلسطين وعودتهم من إسارة بابل.
حتى إن أسماء آلهتهم تدل على أصلها الأكادي في الغالب.
فكلمة إلوهيم هي جمعٌ لكلمة إِيلَ التي تجيء في كَلْدَة بمعنى الإله الأعلى، وكلمة بابل فيما بين النهرين تجيء بمعنى باب إيل، كما أن بيتَ إيلَ تجيء في اليهودية بمعنى منزل إيل.
والمكان الذي قاتل يعقوبُ الربَّ فيه سُمِّي فَنُوئيل، وتسمَّى هذا الراعي فيما بعدُ باسم إسرائيل — الذي هو أقرب من إيل.
وليست الإلهة الكبرى الشهوانية عَشِيرا أو عَشْتَرُوت التي كان العبريون يعبدونها في الأماكن العليا بين الغِيَاض، والتي كانوا يأتون بالدعارات المقدسة تكريمًا لها، إلا زهراء «فِينُوس» بابل عَشْتار.
وليس بَعْلٌ الذي جعله بنو إسرائيل منافسًا ليَهْوَه، والذي اختلط به نهاية الأمر، بَعْلَ كَلْدَة، وإنما انحدر منه على وجه غير مباشر، أي بعد أن جاوَزَ فنيقية؛ حيث استعاره العبريون.
وإذا عَدْوَت دائرة الأسماء التي هي أمرٌ ظاهريٌّ إلى الغاية، وجدت أساس الدين يدل على أية دائرةٍ من الأساطير صدرت عنها معتقدات اليهود.
فمَن ينظر إلى نظام الكون البابلي القديم، الذي وُجِد في الكتابات المسمارية، والذي هو أقدم من تاريخ التوراة بعدة قرون، يُبصِر مشابهته للكونية التي وردت في سِفْر التكوين، والتي ليست غير نسخة بسيطة عنه.
على أن الرأي البابلي القائل بخلق الدنيا في ستة أيام، أي في أدوار متعاقبة، مما كان كثيرًا على الدور الذي بَدَا فيه، فليس تَبَيُّنُ ذلك بالذي يصدر عن شعبٍ سامي ذي أفكار مبهمة.
وما تراه أيضًا في أقاصيص سِفْر التكوين من نوع المنطق، ومن براعة التأليف وقوة الخيال، فما يجاوز قابليات بني إسرائيل بمراحلَ لا يُحصيها عد.
وترى الكنيسة معجزةً في تفتُّح تلك الكونية العظيمة في صميم عصابة من البدويين الجاهليين الأجلاف، فتستنتج من ذلك صدورها عن وحي إلهي بحكم الطبيعة.
ويتضح سر المعجزة ويزول افتراض الوحي عندما ترى فاتحة التوراة في كتابات حكماء كَلْدَة، التي هي أقدم من سِفْر الخروج بزمن طويل.
ومن الإصابة قول مسيو رينان: «لم يخترع الراعي البدوي تلك الأقاصيص الرائعة، بل أوجب نجاحها، ولم تكن الكونية الكلدانية لتعمَّ العالم بشكلها الزائد الوارد في النصوص الآسيوية، فكان لا بد من القريحة السامية لتبسيط تلك الكونية في الوقت الذي أرادت النفس البشرية فيه مبادئ واضحة حول ما لا يُعرَف بوضوح، فغدت الغرائب التي كانت تظل مختنقة في حشويات الشرق من الأمور البديهية، وتمت هذه المعجزة بفضل خيال بني إسرائيل الجلي القانع، وما كان غريبًا في تاريخ كلدة بَدَا في أقاصيص التوراة من الصحة والسهولة ما رأت فيه سذاجتنا الغربية تاريخًا، معتقدةً أنها إذا ما انتحلت هذه الأقاصيص قطعت صلتها بالأساطير الأولى.»
ولا تُبصر الأساطير الكلدانية في سِفْر التكوين وحده، بل تجد آثارًا لها في أسفارٍ أقل قدمًا منها على وجه أقل وضوحًا، ومن ذلك قصة شِمْشُون التي وردت في سِفْر القضاة.
يُمثِّل شمشون الهِرْكُول الإسرائيلي بقدرته الغريبة وأعماله التي كان ينجزها بوسائلَ بسيطةٍ جدًّا، والواقع أن هركول من أصل بابلي، ويتجلَّى مثاله في نِينِيبَ المعروف، ذلك الإنسان الآشوري الأكادي العجيب الذي كان يقتل الأسد بيد واحدة! ولم يكن اسمه شِمْشُون مع ذلك، بل كان شمشون الذي معناه: «الشمس» أي نصف الإله الذي كان يوجد كثيرًا على ضفاف الفرات.
وليس لدينا من الوقت ما نعرض فيه هنا ما أسفر عنه تفسير التوراة الحديث حول تلك المسائل، وإنما نقتصر على ذكر أمرٍ اقتبسه اليهود من عبادات كلدة.
إن من الأقاصيص التي انتحلها بنو إسرائيل طوعًا هي قصة تَمُّوزَ الإلهي ابن عَشْتَار، الذي ذهبت الآلهة لتبحث عنه حتى سَوَاء الجحيم.
وكان يمثِّل موت تمُّوز الذي غدا أَدُونيس الإغريق نهاية الخريف، وكان ذلك الإله الجميل يموت في كل سنة ليُبعَث بعد كل شتاء، فإذا دلَّ حرُّ الصيف على فقده بُكِي باحتفال، فكانت النساء تقوم بالشعائر المأتمية نادباتٍ طالعه.
ومما رواه حزقيال أنه كان في زمنه نساءٌ تبكي تمُّوز في معبد الرب.
وَلْنبحث الآن في صفات أهم آلهة بني إسرائيل وأخلاقها، وذلك من غير دخول في التفاصيل.
كان للآلهة، يَهْوَه وبعل وعَشِيرَا، طبائع وصفات خاصة بالسيارات والجو والشمس، كما كان لجميع آلهة كَلْدَة.
وانتقل إلى جميع الساميين الذين سكنوا ما بين النهرين ما كان يساور قدماء سكانه من التأثير العميق الثابت الصادر عن منظر السماء الساطع الصافي، وعن عوارض العواصف المفاجئة المرهوبة.
وظلت عبادة الشمس والقمر والنجوم قائمةً طويل زمنٍ لدى جميع أمم سورية، ولدى بني إسرائيل على الخصوص.
وفي زمن حِزْقِيَال، حوالي أواخر أيام مملكة يهوذا، كان يمكن أن يُرى — حتى في هيكل أورشليم — يهود كانوا يسجدون أمام الشمس مُوَلِّين وجوههم شَطْرَ الشرق.
وكانت عبادة الشمس تختلط آنئذٍ بعبادة الحيوانات؛ وذلك لما كان من تصوير القوم على جُدُر معبد يَهْوَه صور الزحافات والبهائم والأشياء الكريهة، وجميع آلهة آل إسرائيل الفاضحة كما روي النبي ذلك.
ومع ذلك أسفر الإصلاح اليهودي العظيم الذي قام به الملك يُوشِيا قبل ذلك بقليل سنواتٍ عن تطهير الهيكل من الأصنام التي كان حافًّا بها.
أن يُخْرِجوا من هيكل الرب جميع الأدوات المصنوعة للبعل والعَشْتاروت ولجميع جنود السماء فأحرقها.
وأزال الخيل التي أقامها ملوك يهوذا للشمس من عند مدخل بيت الرب، وأحرق مراكب الشمس.
ولكن شعب إسرائيل كان قد بلغ من الغرق في الإشراك ما كان يتعذَّر معه على عزيمة ملكٍ أو خُطب نبيٍّ تخليصه منه.
وكان إلهُ النار مُولَكُ الهائل الذي هو من الأصنام المفضلة، يُمَثَّلُ بتماثيلَ نحاسيةٍ، فيُوضَع صغار الأولاد على ذُرعانها المحماة.
وكان التقيُّ يُوشِيَّا يحارب تلك الخرافات الظالمة: «فنجَّس تُوفَتَ التي في وادي بني هِنُّوم؛ لكي لا يُجيز أحدٌ ابنه أو ابنته في النار لمولك.»
وكان مولك إله النار الضارة، وكان يمثِّل الصاعقة التي تحرق الحصاد وحرارة الشمس الضارية التي تجعل السهول جديبةً، وكان مولك إلهًا مرهوبًا فيجب تسكينه.
وكان بَعْل على عكس مُولَك، يمثِّل الشمس النافعة، فيُنضِج أثمار الأرض ويُحَمِّر القطف العطري بين خضرة الغصون، وكان الفنيقيون على الخصوص يعبدون بَعْلًا، فأدخلته إيزابَل الصِّيدُونية على الخصوص إلى العبريين.
وظهر في عهد زوج الأميرة أحْآب جفافٌ عظيم، فتصارع نبي يَهْوَه إيليَّا والكهنة ليعرفوا أي آلهته ينُزل المطر ويمنُّ على الحقول بالخُضَر، وظهر أن دعاء إيليَّا أعظم أثرًا من دعاء منافسيه، فأساء هذا الأمر الملكة إيزابَل كثيرًا.
وكان لعَشِيرَا، وهي عَشْتارْتا الفنيقيين وعَشْتار بابل، أو ميليتا بابل، عظيم حظوة لدى شعب إسرائيل الشَّبِق؛ وذلك لما كان لها من شعائرَ شهوانيةٍ.
وكانت هياكل ذلك الإله تقوم على تلالٍ ذات هواءٍ منعشٍ رطيبٍ فوق سهولٍ محرقةٍ ذات بعوض مُفسد لبقاع الدنيا، وكانت تحاط تلك الهياكل بغاب الزيتون حيث يُسمَع للحمائم العاشقات سجعٌ وهديل، وحيث كانت الفتيات اللائي يتألَّف من أجسامهن اللطيفة ضحايا حيةٌ مُعدَّة على الدوام لتكتوي بنيران إلهة الحب، يقضين نُهُرَهن في تطريز الخيام للغياض، ولياليهن في قضاء أوطار المؤمنين الذين يتقاطرون إلى هنالك.
وكان وتدٌ صغيرٌ مغروزٌ في الأرض، رمزًا غليظًا لعضو التذكير، يكفي لتلقين مبدأ عَشِيرا وتقديس الغابة.
وغدت تلك العَهَارات المقدسة تكتسب شكلًا كريهًا عندما صار الخصيان، لا النساء، هم الذين يبيعون أنفسهم من المؤمنين في ليل الغاب الكثيف الفاتن، وعلى ما كان من نعت الأنبياء لهؤلاء الخصيان بالكلاب، وعلى ما كان من حظر نَذْر أجور هؤلاء الفاسقين لم ينفك بنو إسرائيل عن مضاجعتهم، فمن أجل هذه المنكرات وصف الأنبياء إشعيا وإرميا، وحزقيال على الخصوص، أورشليمَ بالمدينة العاهرة التي لا تشبع من الفجور.
قال يَهْوَه لتلك المدينة الآثمة: «اتكلت على جمالك، وزنيت على اسمك، وسكبت فواحشك على كل مجتاز كان له ما تبتغين، وأخذت من ثيابك فصنعت لك مشارف ملفقة الشقق، وزنيت فيها زنى لم يكن ولن يكون.»
ويَهْوَه، ذلك الذي بَدَا كثير الغيرة للمعبودات المنافسة، كان الإله الذي يتخذه الأنبياء لدعوة بني إسرائيل إلى مبدأ التوحيد السامي.
والأنبياء كانوا يختارونه لأنه الإله القومي، ولأنه — وقد تشخص الشعب فيه — حَكَمُ بني إسرائيل في السراء وفي الضراء، فكان له من النصيب في الارتضاء به وحده أكثر مما بغيره.
وكان نشوء يَهْوَه في سيناء بسبب الهول الذي أوجبه في بني إسرائيل منظر ما يجهله وادي النيل من مناظر عواصف الجبل المرهوبة.
وكان يَهْوَه في بدء الأمر إله الجو فقط، وكانت الصاعقة والرياح والسحب تُعَدُّ جيادًا له، رُسُلًا له، دلائلَ عليه.
وقد مُثِّل يَهْوَه في تابوت العهد بحجرين سقَطَا على الصحراء تحت نظر بني إسرائيل المبهوتين.
ولا يزال يَهْوَه يتجلَّى في عمود الدخان وعمود النار اللذين كانَا دليلين لبني إسرائيل في التيه، مع صدورهما عن الريح التي تعبث بالصحراء.
وفي جميع أسفار التوراة، حتى في أحدثها، ترى العوارض الجوية ملازِمة لذلك الإله مُخبِرةً به على الدوام.
وقد أنزله إيليَّا على الهيكل في صورة حمامة، ولقيه على جبل الكرْمل في نسيم خفيف، وسَمِعَ أيوب صوته يخرج من عاصفة.
سطع دخانٌ من أنفه ومن فيه نارٌ آكلةٌ، جمر متقد، طأطأ السماوات ونزل والضباب تحت قدميه، ركب على كَرُوبٍ وطار وخُطف على أجنحة الرياح، جعل الظلمة حجابًا له مظلة حوله، ظلام المياه ودَجْن السحب، من بهاء حضرته مرت سحبه، بردٌ وجمر نارٍ، أرعد الرب من السماء وأسمع العلى صوته، بردٌ وجمرُ نارٍ.
ولم ينشب ذلك الإله الذي هو وليد هول البادية، أن عُدَّ بين بني إسرائيل إلهًا خاصًّا بهم، وإن شئتَ فقُلْ مَلِكًا قوميًّا لهم.
ومن العادات العامة بآسيا، حتى في مصر، حتى لدى جميع الأمم القديمة، أن كان لكل مدينة، لكل قبيلة، إلهها الخاص الحافظ، مع اعترافها بطائفةٍ من الآلهة، فكان لمؤاب الإله خَمُوسُ، ولصُور الإله مِلْكارت، وللفلسطينيين الإله داجُون، ولبني إسرائيل الإله يَهْوَه.
ولم يعبد بنو إسرائيل — حتى دور الإسارة، حتى عند أكثر أنبيائهم توحيدًا — إلهًا يمكن أن يكون رب الأمم الأخرى، ولم يكن لإصلاحات الأنبياء غير صبغة محلية في كل حين، وكل ما كان يطلبه هؤلاء الأنبياء هو أن تسود بني إسرائيل عبادة يَهْوَه على حساب المعبودات الأجنبية، ففي فلسطين لم يفكِّر أحدٌ في إله إزلي شامل قبل إِشَعْيَا وإِرْمِيَا، أي نبيَّيِ المنفى الكبيرين اللذين لم يكادَا يُبصِران تلك النتيجة المجيدة.
وعلى ما في أسفار اليهود من دفاعٍ عن أفضلية يَهْوَه، لم تُمار هذه الأسفار قطُّ في وجود آلهة أجنبية.
جاء في سِفْر التثنية: «أي شعب كبير ذي آلهة قريبة منه قُرْب يَهْوَه منَّا، حينما نبتهل إليه في كل مرة.»
وسِفْر التثنية هذا يأمر بني إسرائيل بهدم جميع مدن الشعوب المغلوبة وبيوت عبادتها وتحطيم أصنامها؛ لكيلا يُضطروا إلى خدمة آلهة البلدان الأجنبية، ومعنى هذا أن لولا هذا التخريب لاقتضى انتحال الآلهة التي تشتمل عليها تلك المحال بطبيعة الحال.
إذن، أضحى يَهْوَه إله بني إسرائيل القومي، بَيْدَ أنه كان لا مَعدل لهذا الإله — مع غيرته — عن العيش متفاهمًا هو وطائفةٌ من الآلهة والإلهات، والحيوانات المقدسة كالعجل والثعبان، حتى الزمن الذي أدَّى فيه تطوُّر بني إسرائيل الديني إلى عودة هذا الشعب إلى ميوله الأولى التي أفسدتها الإقامة بما بين النهرين، أي إلى التوحيد السامي.
وكان يَهْوَه ذلك ضاريًا على الخصوص، فالدماء إذا لم تُرَقْ، والشحم إذا لم يَقْتُر على المذبح؛ لم يرتضِ.
وكان تُقَدَّمُ إليه قرابينُ عظيمةٌ، وبلغ ما ذبحه سليمان دفعةً واحدةً من الثيران والخرفان الكثيرة ما ظهر معه المذبح النحاسي — الذي يُذبَح عليه عادةً — صغيرًا جدًّا، فجلس هذا الملك في فناء الهيكل وهو يذبح أو يأمر بالذبح بلا انقطاع مدة أسبوعٍ كامل، فبلغ ما ذبحه، بحسب رواية أخباره، اثنين وعشرين ألف ثور، ومائةً وعشرين ألف خروف؛ إرضاءً لميول إلهه الدامية!
ولم يكن يَهْوَه ليرتضي بالقرابين الحيوانية وحدها، بل كان لا بد من تقديم القرابين البشرية إليه، ودامت هذه العادة لدى بني إسرائيل طويلَ زمنٍ، فضحَّى يَفتاحُ بابنته، وكاد إبراهيم يُضحِّي بابنه، وضحَّى صموئيل بملك العمالقة أجَاج فقدَّمه قِطَعًا إلى يَهْوَه في الجلجال.
إذا ما دخلت مدينة لم يفُتْكَ أن تقتل سكَّانها بحد السيف، وأن تستأصلهم أطلة الدم، وأن تبيد كل ما يكون في تلك المدينة وأن تذبح حتى بهائمها.
فهذا هو المعبود الهائل الذي كان يسوع الحليمُ يسميه «أبي»، وأمام هذا المعبود تضُمُّ النساء النصرانيات الناعمات أيادي أطفالهن منذ عدة قرون.
ومع ذلك رأت النصرانية بالغريزة ألَّا تستعمل كلمة يَهْوَه منتحلة كلمة الرب على العموم، وهذا الاسم رائع مبهم كاسم إلوهيم الرعاة.
ومن العمل المطول الذي لا نصنعه هنا أن نتعقب خطوة خطوة التطور الطويل الذي تحول به سنةً بعد سنة وقرنًا بعد قرن، الإله الطاغية المُمثَّل بحجرين، يَهْوَه سيناء، والذي بَدَا به في بدء الأمر معبودًا ضاريًا مشبعًا من ضحايا داود وسليمان، والذي ظهر به بعدئذٍ أزلى إشعيا المُدعى بحُكم العالم، والذي تجلى به في نهاية الأمر أبًا ليسوع، فمُزِج بطبيعته هذا المصلح الحليم، كما أننا لا نبين هنا كيفية ظهور بعض العقائد النصرانية، ونشوء هذه العقائد كالبعث والحياة الآخرة التي سكتت عنها التوراة تقريبًا، وليس الموت لدى بني إسرائيل غير نومٍ عميق بلا يقظة، وفي هذه الحياة الدنيا، لا في الحياة الآخرة، ما يجب أن يتحقق وعد يَهْوَه ووعيده حول مراعاة الشريعة الشديدة.
ودام، حتى زمن الإسارة، دين اليهود القائل بتعدُّد الآلهة كما وصفناه، وذلك بعبادته الكثيرة وطقوسه المتنوعة وأساطيره المتكاثفة.
ثم كانت خطوةٌ نحو التوحيد، وكانت هذه الخطوة من المفاجأة ما يُظنُّ معه أنها وليدة طفرةٍ حقيقية، لا تطورٍ منتظم.
وثغرةٌ كتلك مما كان لا يتجلَّى في تاريخ بني إسرائيل ولا في فكرهم، بل في أسفارهم المقدسة.
إن التوراة كتابٌ أُلِّفَ في أدوار مختلفة أشد الاختلاف، وإن التوراة مملوءةٌ بالارتباطات والاختلاطات والروايات المرتبة المصنوعة بعد قصير وقت، ويعقب شعر إشعيا الروحاني السامي في تاريخه ومكانه في العهد القديم إشراكُ الأجيال القديمة وأقاصيصها الجاهلية، ومما لا ريب فيه وجود ثغرة عدة قرون في ذلك لا تسدها وثائق التوراة.
وليس علينا أن نبحث هنا كيف يمكن ذلك؛ فقد سرنا واليهود حتى الزمن الذي عادوا لا يؤلفون فيه أمةً، فلا نرسم التحولات التي عاناها فكرهم بتعاقُب الأجيال بعد ذلك، وقد بيَّنَّا بما فيه الكفاية، التطورَ الذي أضحت به المذاهب الكلدانية دين اليهودية، بعد أن انتحلها هذا الشعب الجديد، فمن مجاوزة حدود هذا الكتاب أن نُبيِّن كيف صار دينُ اليهود المشتق من المعتقدات الكلدانية، الدينَ الكبير الذي هَيْمَنَ على أمم أوروبا المتمدنة نحو ألفَيْ سنة، وذلك باقترانه بالأساطير الآرية.