الآداب العبرية
إذا كان اليهود قد عطلوا من الفن والصناعة عطلًا تامًّا، وإذا كان اليهود قد ظلوا بمعزلٍ عن كل جمال يفوق المال، فإنك تجد لهم آدابًا غنيةً منوَّعةً يجدر ذكر بعض أجزائها.
وليست تلك الظاهرة خاصة ببني إسرائيل فقط؛ فهي تُشاهَد لدى جميع الأمم السامية، ولا سيما العرب الذين كانوا قبل الإسلام ذوي شعرٍ بعيد الصيت حقًّا، على أن الشعر مع الموسيقى فنُّ جميع الأمم الفطرية، والشعر مع بُعْده من التقدم موازيًا لتقدم الحضارة تجده يضيق أهميةً وتأثيرًا كلما ارتقت الأمم؛ فقد اقتضت الحضارة قرونًا طويلةً لاختراع الآلة البخارية واكتشاف سُنَن الجاذبية، مع إمكان ظهور قصائد كالأوذيسة والإلياذة، وأغاني أُوسيان في أدوار الجاهلية.
وحالت حياة البداوة، على الدوام، بين أهل البدو دون ظهور فنونٍ شاخصة، وأدَّتْ إلى عدم اكتراثهم لتركيب الخطوط المنسجمة، وهي لم تحفز ملكاتهم إلى غير سبيل الشعر، ولا سيما الشعر الغنائي.
وأقدم أغاني العرب هي الأجمل، ولما أقام العربي بالمدن بعدئذٍ حافَظَ على عادة الذهاب إلى تحت الخيام ليقوي وحيه، والعربي في قصده إخوانه الأعراب، يكون كما لو ذهب المدرسة ليتعلم اللغة الفصحى والوزن الرنان وأخيلة البطولة.
وعند العبريين سار الشعراء أو الأنبياء على سُنَّة الشعوب السامية، حتى في زمن الرخاء، حتى في زمن الجاه، حتى في أيام العهد الملكي الأولى، كان أولئك الذين يسمعون أقوى الكلام يتمثلون هذا الكلام في العزلة، فيبدون من ذوي الهوس والجرأة والخيال.
وللساميين في البادية فتنةٌ لا تُقَاوَم، فكان يُحن إلى آفاقها الواسعة حتى في قصور الأرز والذهب التي شادها سليمان، والبادية كانت توحي إلى كبار مرتِّلي بني إسرائيل، كانت توحي إلى أيوب وإِشَعْيا وإِرْمِيا وحِزْقِيال، وأقدم المزامير أسنى من غيره بدرجات، والمزامير وُضِعت لا ريب تحت الخيمة قبل الاستقرار النهائي بفلسطين.
وعند بني إسرائيل أسفر الشعر الغنائي، الممتاز جدًّا لدى جميع الأمم السامية، عن آثار لا مثيل لها، وعلى ما تراه من تنوع فروع الأدب الأخرى عند بني إسرائيل لا تعدل هذه الفروع ذلك الشعر الغنائي أبدًا، وإذا كانت فروع الأدب تلك عزيزة علينا، فلما لم تترك الأمم المنتسبة إلى الحضارات من المدونات بمقدار ما كتبه اليهود.
وتشتمل أسفار الكتاب المقدس، وهي لا تمثِّل سوى قسم من آثار بني إسرائيل الأدبية، على نماذجَ لمعظم الأنواع التي مارستها الروح البشرية.
وفي التوراة تُبصر التاريخ والأساطير والأقاصيص الخيالية، والقصائد الرعائية، والقطع الروائية، والنبذ التعليمية، والأناشيد الدينية، والأغاني الحربية، والقصائد الغزلية، والمجموع الحُكْمية والنسبية والشرعية … إلخ. فنظر إلى ذلك نظرةً خاطفةً.
وأهم الأسفار التاريخية هي أسفار القضاة والملوك والأخبار وأَسْتِير ونَحَمْيا والمكَّابِيِّين.
وأما أسفار موسى الخمسة التي كانت تُصنَّف بين تلك الأسفار فيما مضى، فتتألف من أساطير كلدانية ومن عدة قوانين دقيقة يرجع نشوءها وتطبيقها إلى زمن أحدث من الزمن الذي وُصِف في سِفْر التكوين وسِفْر الخروج، وكُتِبت تلك الأسفار الخمسة في عهد الملوك، ويمتاز سِفْر التثنية، الذي هو أحد تلك الأسفار والذي هو أحدثها، من بقية تلك الأسفار بروحه المثالية.
وليس من الممكن عدُّ موسى مؤلِّفًا لتلك الأسفار الخمسة فقط، بل إن موسى شخصٌ أسطوري أكثر من كونه شخصًا تاريخيًّا، أي إن ذاتيته رُتِّبت كما رُتِّبت ذاتية بُدَّهَة «بوذا» بعد حين.
ومما يلاحظ في جميع الأسفار الإسرائيلية، التي تُعَدُّ كتبًا تاريخية، ميلٌ ظاهرٌ إلى استخراج نظريةٍ من انتظام الحوادث، وهذه الأسفار لم تُكتَب لحفظ ذكرى الوقائع الممتعة فقط، بل كانت غايتها إثبات شيء، وهذه الأسفار جميعها إذ وُضِعت بصيغة الجزم بدا حُسْن النية فيها هزيلًا.
وما تركه العبريون لنا من تاريخهم فقد دوَّنه أحبارٌ ملكيون كانوا يهدفون إلى نصر مبدأ الحكومة الملكية الإلهية.
وكان هؤلاء لا يألون جهدًا في إظهار بني إسرائيل مسُوسين من إلههم القومي يَهْوَه الذي يُعَدُّ القضاة أو الملوك مترجمين مفاوضين له بكثرة دالة، وكل عصيان ليَهْوَه كان يؤدي إلى جزاء فوري، وكل تقوى نحوه كانت توجب أعظم رخاء.
وكان يصعب على المؤلف إذا ما تناول الحوادث الحديثة المعروفة جدًّا أن يشوِّهها تشويهًا كليًّا، فيكتفي بجعل تفسيره التي يمليها الهوى ملائمةً لها.
ويمكن أن يُعتمَد تقريبًا على كتاب اليهود في معظم تاريخ بني إسرائيل بعد شاول، وتتجلى مزيتهم الكبيرة، ولكن مع غير شعور، في حفظهم لنا حفظًا صحيحًا وصف المجتمع الذي تمت فيه الحوادث، لا هذه الحوادث على الدوام.
وتجد جميع معتقدات اليهود في أسفارهم حيث أودعت منذ عدة قرون، ولكن حيث كان عمى الوساوس الدينية يحول دون رؤيتها.
وظلت أوروبا النصرانية زمنًا طويلًا تقرأ كتب مؤرخي اليهود بالروح التي أرادها هؤلاء المؤرخون، وما وده أولئك المؤرخون من تمويهٍ على معاصريهم ارتضاه أمثال أُغُوسْتِن وبَسْكال وبُوسُويه وشاتوبريان، أكثر من ارتضاء ذلك الشعب الجاهلي المتعصب الذي حاولوا إقناعه.
وكُتَّاب اليهود إذا لم يكونوا مؤرخين صادقين كانوا وصافين أوفياء، ومن الوثائق التي لا يَعدِل قيمتها شيءٌ ما أتوا به من الأوصاف الساخطة حول وثنية بني إسرائيل المتأصلة، والأوصاف الساذجة للطبائع الرعائية، وسلاسل الأنساب التي لا حدَّ لها، وسمات الأخلاق الهائجة.
ومن الناحية الأدبية عرضوا علينا صفحاتٍ جميلةً إلى الغاية، وتُعَدُّ فصول سِفْر التكوين الأولى أثرًا ممتازًا للعظمة والبساطة، وعلى هذا الوجه وبمثل هذا العرض وهذه اللغة، يمكن المرء أن يتمثل بدء الرواية البشرية الكبرى.
وإذا كان الأساس كلدانيًّا فإن الشكل عبري، وكان لا بد من قناعة السامي لوصف تلك المبادئ الهائلة في بضع كلمات، ومنحها حتى بالوسائل الساذجة مظهرًا غريبًا من ظاهر الحق والحياة.
وبجانب أسفار العبريين التاريخية والخرافية تجد القصة الصِّرْفة التي لا يُزعَم صِدْقها، والتي لا يبالى فيها بالغلط التاريخي، والتي لا غاية لها سوى افتتان القارئ وثقافته الخُلقية في بعض الأحيان.
وحَذِق كُتَّاب اليهود ذلك النوعَ، فأشربوه حياةً وطبيعةً وفتنةً في الجزئيات على وجهٍ خاص.
وإذا عدوت ما قد تشعر به من اللذة في قراءة تلك الأقاصيص المؤثرة أو الفاجعة، كقصة يَهُودِيت ورَاعوُت وطُوبيَّا وأَسْتِير … إلخ، وجدتها تشتمل على تفصيلاتٍ مهمةٍ عن الطبائع، وذلك كالوسواس الذي يساور يَهُوديت مع استعدادٍ لاقتراف جُرم القتل، حول أكل لحوم الحيوانات التي لم تُذبَح وفق الطقوس، وذلك كالوجه الذي دعت به رَاعُوت بُوعَزَ، أقرب إنسانٍ إلى زوجها، فوجب من حيث النتيجة أن يتزوجها بُوعَزُ ذلك وَفْقَ شريعة إسرائيل، على الرغم من الفرق العظيم في مقاميهما الذي يجعل تلك الفتاة كثيرة الخجل.
وقصة راعوت هذه من أطرف الأقاصيص الرعائية التي كُتِبت.
وإن خُلُق تلك الباسلة الناعم الخلي المحتشم، وإن خُلُق بُوعَز النبيل المستقيم الصادق، وإن غَمَّ نُعمِي الممزوج بالتسليم، مما صور بسلامة ذوق ورِقَّة صنعةٍ، فيلوح أنه آخِر كلمة للفن، وإن السهول المُثقلة بالسنابل الذهبية مع نشاط الحاصدين الجافي وراحتهم بعدئذٍ تحت السماء ذات الكواكب، وفي جلال ليالي الشرق مما عُرِض كدائرة للقصة.
ومن الطرافة أن يُنتِج اليهود آدابًا خفيفة عاطفية ذات عفاف على الرغم من تحلُّلهم، وما عندهم من أخبار الدعارة تجده في تاريخهم الخاص، لا في كتبهم التي هي وليدة الخيال الخالص.
وتجد سِفْر نشيد الأناشيد، الذي هو أكثر أسفارهم شهوانيةً، يصف أشد الغرام بعبارات شعرية أكثر منها شبقية، وليست لذة الحواس وحدها هي موضع هذا الشعر الفتان، وهذا الشعر يأخذ بمجامع القلوب على حسب التعبير المألوف، وفي هذا الشعر ترى سُلامِيَة عاشقةً رقيقة متوقدة معًا، وترى التعبير عن نار الرغبة فيها مقيَّدًا بصورٍ تُنقذ بها وعورة بعض الميول.
ولم يجد الحب المنغص من النبرات المثيرة في أي كتاب مثل ما في سِفْر نشيد الأناشيد، ولم يستر الوَلُوع العنيف بأرق الصور في أي كتابٍ مثل ما في سِفْر نشيد الأناشيد.
وسِفْر نشيد الأناشيد هو أجمل ما انتهى إلينا من الشعر الغرامي السامي. أجَلْ، إن الآثار التي هي من هذا الطراز غير قليلة لدى العرب الذين لم يتغنَّوا بغير المرأة والجياد والملاحم، غير أن الحواس هي التي كانت تستحوذ على هؤلاء، فلا تكاد ترى في شعرهم الخيار والتفضيل، أي المشاعر، بل كانوا يصنعون ما يثير اللذات، فتبدو لهم كل امرأةٍ حسناءَ إذا كانت فتاةً حسنةَ الخِلْقَة.
وفي سِفْر نشيد الأناشيد تُبصر، بالعكس، أن سُلَامِية وراعيها كانَا يتحابان حبًّا فيألمان كلما تباعَدَا، ومن المحتمل أن يكون هذا المبدأ، الذي هو أقرب إلى الشعور الروائي في أيامنا منه إلى النعيم الحسي الشرقي الأعمى، أبرز ما في ذلك الشعر الغرامي.
وأرادت الكنيسة النصرانية أن ترى في ذلك النشيد الغرامي الولهان أثرًا في الأخلاق الزاهدة، مُصوِّرًا ضروب النعيم عند الاتصال الوثيق بالله.
في الليالي على مضجعي التمست مَن تحبه نفسي، التمسته فما وجدته.
هلم يا حبيبي، لنخرج إلى الصحراء، وَلْنبت في الضياع، فنُبكر إلى الكروم وننظر هل أفرخ الكَرْم، وهل تفتحت زهوره، وهل نور الرمان، وهنالك أبذل لك حبي.
لا يعوز الآدابَ اليهوديةَ آثارٌ خُلُقيةٌ خالصة مستقلة عن التصانيف الدينية الكبيرة، فيُعدُّ بعض الأسفار، كسِفْر الأمثال وسِفْر الجامعة وسِفْر الحكمة، مجموعات أمثال عملية مُعدَّة لتوجيه سير الحياة، ولكن من غير كبير صلةٍ بالآلهة مهما كان نوعها.
والروح العامة في تلك الأمثال هي أبيقورية ارتيابية، وما فيها من قولٍ مؤكد بأن أوضح واجبٍ علينا هو أن نتمتع بالحياة العتيدة لعدم وجود شيء وراءها، وبأن من الجنون أن نضحي بالساعة الراهنة في سبيل أوهام باطلة، لم يسبقه ما أتى به أناكْرِيون وهُوارَسُ في العالم الوثني القديم.
وفي تلك الأسفار ترى درجة عطل اليهود من كل أمل فيما وراء القبر.
جاء في سِفْر الجامعة القول الجافي الآتي: «إن الكلب الحي خيرٌ من الأسد الميت.»
ولا تجد في سِفْر الأمثال، كما أنك لا تجد في سِفْر الجامعة، قولًا عن نظرية الكُتَّاب المَلَكيين في عدل يَهْوَه بعد هذه الدنيا، فيكافئ الأبرار ويجازي الأشرار.
جاء في سِفْر الجامعة: «يوجد صدِّيقون يصيبهم مثل عمل الأشرار، ويوجد أشرار يصيبهم مثل عمل الصدِّيقين.»
وفي كل زمن كان لمجموعات الأمثال أهمية عظيمة في آداب كل أمة، وذلك لما تؤدي إليه من النفوذ في فكرها الصميمي.
ولم تشذ أمثال بني إسرائيل عن ذلك.
ولسنا هنالك أمام عمل مقرَّر قائل بنشر ما يصعب قبوله من الحقائق، ولسنا هنالك أمام رُؤى الأنبياء العظيمة الشخصية.
ومن خلال تلك الأمثال، التي لم تكن من وضع رجلٍ واحدٍ، والتي كانت تتداولها الأفواه فتتكاثف فيها تجربة طويل القرون، تُبصر فكر بني إسرائيل الحقيقي.
الحكيم يخاف فيجتنب الشر، والسفيه مَن يسير على غير ذلك.
الغني يُكثر الأخِلاء، والفقير يفارقه خليله، وجميع إخوة المُعْوِز يبغضونه.
في كل تعبٍ منفعةٌ، وكلام الشفتين إنما هو إلى الفقر.
اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكُنْ حكيمًا.
العامل بيدٍ رخوةٍ يفتقر، أما يد المجتهدين فتُغني.
مَن يجمع في الصيف فهو ابنٌ عاقل، ومَن يَنَمْ في الحصاد فهو ابنٌ مُخْزٍ.
توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت.
قليلٌ مع عدل خيرٌ من كثيرٍ مع جورٍ.
قلت في قلبي: إن الذي يحدث أهل يحدث لي أنا أيضًا إذن، فلِمَ حكمتي هذه الوافرة؟ فقلت في قلبي: هذا أيضًا باطلٌ.
وقد خُلِط سِفْر الجامعة بالملك سليمان عن غلط يتعذر إدراكه، فلا شيء يبتعد عن ذلك السِّفْر العسير العميق أكثر مما نعرفه من حياة هذا الملك وأخلاقه، وإذا كان واضع ذلك السِّفْر قد أجرى أقواله على لسان ذلك الملك القوي، فَلافتراض جارٍ في الآداب، ولرغبة ذلك المؤلف في مضاعفة الوزن والرجل لكي يدعي بأنه أزال وهمه عن كل شيء في هذا العالم يجب عليه أن يعرف كل شيء، كالغنى والسلطان وجلال العرش وأبهة القصور ومَلَق الرجال.
جاء في سِفْر الجامعة: «كنتُ مَلِكًا، فزدتُ عظمةً ونموًّا على جميع الذين كانوا قبلي، وجمعتُ لي فضةً وذهبًا من أموال الملوك والأقاليم، وكل ما ابتغته عيناي لم أدعه يفوتها، ولا منعت قلبي من الفرح شيئًا، فإذا الجميع باطل.»
ولم يشتمل سِفْر الجامعة على جميع ما يرنو إليه أقصى الطموح من المحاسن فقط، بل يشتمل أيضًا على بصيرة واسعة؛ فقد نفذ إلى أساس الحكمة البشرية.
فمما جاء في سِفْر الجامعة: «رأى قلبي كثيرًا من الحكمة والعلم، ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة والجنون والحماقة.»
وبطل ذلك السِّفْر — وهو مؤلفه — كاملٌ، فلا يعوزه شيء، وهو يملك كل ما يجوز دعوته بالسعادة، سواءٌ أمن الناحية الذهنية أو الناحية الجثمانية.
هل بلغ الغاية التي وجد من أجلها في العالم؟ أفيعرف هذا الهدف وحده؟ ما هو أساس جميع الأشياء؟ آلشرور؟ أصاحب سفر الجامعة سعيدٌ؟
جاء في سفر الجامعة: «قلت في قلبي من جهة أمور البشر: إن الله يمتحنهم ليريهم أنهم كالبهائم؛ لأن ما يحدث لبني البشر هو يحدث للبهيم، وللفريقين حادثة واحدة، كما تموت هي يموت هو، ولكليهما روحٌ واحدة، فليس للإنسان فضلٌ على البهيمة؛ لأن كليهما باطلٌ، كلاهما يذهب إلى مكان واحد، كان كلاهما من التراب، وكلاهما يعود إلى التراب.»
ولكن الأمر ليس كذلك تمامًا، فلا يشابه الإنسان الحيوان مشابهةً تامة؛ لأن الحيوان يأكل ويتمتع بجميع حواسه ويموت هادئًا غير شاعر، وإنما يَحمل الإنسان في نفسه بذرة الألم الخفي الخالد.
في كثرة الحكمة كثرة الغُمَّة، ومن ازداد علمًا فقد ازداد غمًّا.
وتنحصر أخلاق صاحب سِفْر الجامعة والنصيحة التي يسوقها إلينا في تقريبنا، إذا أمكن، من دائرة اللاشعور الموحشة الهادئة، وفي طردنا من نفوسنا كل هَمٍّ حول ما هو عادلٌ أبديٌّ غير محدود، وفي إغماض عيوننا وجعل أصابعنا في آذاننا، وخَنق الصوت المقطوع الرجاء في قلوبنا، والتمتع بالأمور المحسوسة الملموسة التي نستطيع بها قضاء أوطارنا الجثمانية ومدارة كبريائنا.
ليس للإنسان خيرٌ من أن يأكل ويشرب ويرى نفسه خيرًا من تعبه، رأيت هذا أيضًا أنه من يد الله.
والأحياء يعلمون أنهم سيموتون، أما الأموات فلا يعلمون شيئًا، وليس لهم من جزاء بعد إذ قد نُسِي ذِكْرهم.
حبهم وغيرتهم قد هلكت جميعًا، وليس لهم حظٌّ بعدُ إلى الأبد، في شيءٍ مما يجري تحت الشمس.
فاذهبْ كُلْ خبزك بفرح واشربْ خمرك بقلب مسرور، وَلْتكن ثيابك بيضًا في كل حين، ولا يعوز رأسك الدهن.
تمتع جميع حياتك الفانية بالعيش مع المرأة التي أحببتها وأوتيتها تحت الشمس لتقضي أيامك الفانية، فإن ذلك حظك من الحياة، فليس من عملٍ ولا اختراعٍ ولا معرفةٍ ولا حكمةٍ في الهاوية التي أنت ذاهبٌ إليها.
تلك هي النصائح التي يأتي بها صاحب سِفْر الجامعة، ويستشف من اللهجة التي ذكرها بها أنه يحسد بحرارة مَن يقدر على العمل بها.
وذلك لأنه يشعر أكثر من أي شخص آخَر أنه مقيَّد بالغموم والرغائب التي يكافحها ويسحقها ويسخر منها فاترًا حاقدًا، ولأنه يمقت ذلك العدم الذي يُبصِره حَذِرًا مذعورًا، ولأنه لم يتذوق بسلامٍ المسرات المادية التي يمدحها، وهي مُسمَّمَة عنده بالسؤال «لماذا؟» الخالد الذي يؤذي أنبل النفوس منذ قرون كثيرة.
قلت للضحك: فيك الجنون. وللفرح: ماذا تنفع؟
وقلت في قلبي: إن الذي يحدث للجاهل يحدث لي أيضًا، إذن فلِمَ حكمتي هذه الوافرة؟ فقلت في قلبي: هذا أيضًا باطلٌ.
فإنه ليس من ذِكْرٍ للحكيم وللجاهل كليهما إلى الأبد؛ إذ في الأيام الآتية كل شيءٍ يُنسَى، وا أسفا، يموت الحكيم كالجاهل!
فكرهت الحياة إذ ساءني العمل الذي يُعمَل تحت الشمس؛ لأنه كله باطلٌ وكآبة الروح.
ومذاهب التطور التي أُولِع بها فلاسفة زماننا مما كان صاحب سِفْر الجامعة قد أبصره، فلم تجد سوداؤه فيه سُلوانًا.
وذكر صاحب سِفْر الجامعة أنه إذا لم يقتطف في هذه الحياة الدنيا ثمرة آثاره، فإنه يتركها ميراثًا للأجيال القادمة، وأنه إذا لم يهلك تمامًا فلما يراه من بقاء فكره بعده، وأن الفرد إذا ما باد فإن البشرية حيةً متقدمة، وأنه لا يضيع أي عمل عظيم ولا أي جهد، وأنه لا عامل كثير الخضوع.
وكرهت جميع ما عانيت تحت الشمس من تعبي؛ لأنني سأتركه لإنسان يخلُفني.
ومَن يدري هل يكون حكيمًا أو أحمق، مع أنه سيستولي على كل عملي الذي أفرغت فيه تعبي وحكمتي تحت الشمس، هذا أيضًا باطلٌ.
غبطت الأموات الذين درجوا من قبلُ، على الأحياء الذين هم باقون حتى الآن، وخيرٌ من كليهما مَن لم يوجد حتى الآن؛ لأنه لم ير العمل الشرير الذي يفعله تحت الشمس.
اتقِ اللهَ واحفظ وصاياه، فإن هذا هو الإنسان كله.
وليس ما فرغنا من تحليله أثر تسليم تقي، وليس ذلك صوت تمرُّد إلحادي ما دام التمرد غرورًا، وليس ذلك تجديفًا، بل هو أسوأ من ذلك كله؛ وذلك لأنك تجد الشهوة والحياة في الألم الساخط وفي التجديف، فيكون هذا كأمِلٍ خفي يُرَى من مخاطبة مَن يسمع كلام الغضب.
وسِفْر الجامعة من أمر الإنكارات التي نطق بها كل ذي شفتين؛ فهو أنشودة قنوط المحكوم عليهم بالهلاك الأبدي، وهو ينفع كتابة قبرٍ للجنس البشري حينما تسجى الأرض الخالية من سكانها الأخيرين تحت كفنٍ من الجليد!
والذي ستر حتى يومنا هذا ما في ذلك السِّفْر الباقي من الواقعية الباردة والطيرة القاتمة، هو ذلك الشعور الديني الذي ما انفكَّ يشوِّه التوراة منذ ألفَيْ سنة، فإذا ما تخلَّص المرء من الأباطيل المتأصلة، استمع إلى سِفْر الجامعة منقبض الصدر بما يفوق الوصف، وأية فلسفةٍ أو أي أملٍ يقاوم هذا التحليل الهائل؟
جميع الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن، لا تشبع العين من النظر ولا تمتلئ الأذن من السماع.
ما كان فهو الذي سيكون، وما صنع فهو الذي سيصنع، فليس تحت الشمس شيءٌ جديد.
رُبَّ أمر يقال عنه: انظر! هذا جديد، فهو قد كان في الدهور التي سَلَفت قبلنا.
ويُعَدُّ سِفْر أيوب عذبًا معزيًا بجانب سِفْر الجامعة.
بَيْدَ أن ما في القسم الأول من سِفْر أيوب من الضيق الخُلقي الكريه لا يداوي إلا بثقة عمياء بالله، وعند مؤلِّف هذا السِّفْر أن ما يمكننا أن نناله من السكينة هو في العدول عن البحث، وفي العدول عن الفهم، وفي الإذعان للسُّنَن التي تُسير مصايرنا من غير حب شديد للاطلاع ومن غير تذمُّر.
وبأي دمٍ باردٍ، وبأي إصرارٍ، وبأي حذقٍ، وبأي بصر حديد استبر متشائمو اليهود أولئك جروحنا الأبدية؟
لما يجد العلم ما هو مقرَّر في الجواب عنهم مع انقضاء ما يزيد على ألفَيْ سنة!
إن الوهم التقي في سِفْر أيوب، وإن الوهم الشهواني في سِفْر الجامعة، قد اقتسَمَا الناس لتعليلهم بالباطل، إن لم يكن لشفائهم، ولما يُكتشَف شيءٌ أحسن من ذلك لسوق البشرية إلى مستقبل لم يُصنَع من أجلها على ما يحتمل.
ولا يزال العالَم منقسمًا بين التمتعيين والمثاليين، أي بين أتباع سِفْر الجامعة وأتباع سِفْر أيوب.
وترى في هذا العصر بعض المفكِّرين الذين أعياهم ذانك النجدان، فأخذوا يصنعون من المسائل ما كان صاحِبَا ذينك السِّفْرين العبريين قد جادَلَا فيهما بجرأة.
ولكن أين سوداؤنا من سودائهم؟ وما هي طيرتنا الحديثة التي أقدمت على توكيد العدم في أيلولة البشرية كما وكدوا بلا التواء وكلام فارغ؟ وأين ذلك الذي أغلق أبواب الأمل أمام الإنسان بحزم مثلهم؟
ولا تصلح قراءة مثل تلك الأسفار، ولولا تلطيف الشعور الديني لها، ولولا اشتمال الشعر الرائع عليها، فوجب حصرها في سرداب عميق وتكديس مداميك بعض الأهرام العظيمة فوقها؛ منعًا لسماع صوتها المؤلم، ودرءًا لتعطيلها قلب الإنسانية المُسِنَّة العاجز.
على أن ذلك السِّفْرَ العجيب الموجع، سِفْر أيوب، يُعدُّ من أنْفَسِ الآثار التي نشأت عن النفس البشرية.
ولذلك السِّفْر صورة رواية إشيل الفاجعة، بَيْدَ أن هذا الشاعر اليوناني لم يُحلِّق طويل زمن في سماء عالية، ولا تجد أثرًا، مهما سَمَا، قد أبدى وحدة أتم مما في ذلك السِّفْر.
وفي تلك الرواية المحزنة تجد خمسة أبطال: أيوب، وأصحابه الثلاثة، والرب.
ولا نتكلم عن ألِيهُو الذي لم تعد جميع أقواله حد التحشيات التي دُسَّتْ بعد زمن كما هو ظاهر؛ وذلك تلطيفًا لصبغة السِّفْر الفاجعة التي يتكلَّف معها أليهو تكلفًا مطلقًا.
وأيوب هو الرجل الذي يألم ويسأل: لماذا؟ والأصحاب الثلاثة هم ممثِّلو المذهب الإسرائيلي المعروف الذي يزعم أن يَهْوَه يكافئ الأبرار ويجازي الأشرار، وأن كل ألم يفترض ذنبًا سابقًا.
ولم يجد أيوب عُسرًا في إبطال ذلك المذهب، حتى إنه ذهب إلى أقصى العكس في سَوْرة غضب، فقال موكِّدًا: إن الأشرار وحدهم هم الذي ينعمون في هذه الحياة الدنيا.
فقد قال صارخًا: «لماذا يحيا الأشرار ويشيخون؟ ولماذا يعظم اقتدارهم؟ نسلهم قائمٌ وأعقابهم لدى أعينهم، بيوتهم آمنة من الفزع، وقضيب الله لا يعلوهم.»
ولما طال الحوار بين أيوب وأصحابه بما فيه الكفاية، بَدَا الرب وصرَّح بلهجة شعرية ممتازة أن الإنسان هو من شدة الجهل والضعف ما لا يستطيع معه أن يسأله، فلا ينبغي له أن ينفذ سر سُبُله.
أين توجد الحكمة وأين مقر الفطنة؟
العُمُر قال: ليست فيَّ. والبحر قال: ليست عندي.
إنها محجوبة عن عيني كل وحيٍ، ومتوارية عن طير السماء.
الهلاك والموت قالَا: قد بلغ مسامعنا خبرها.
ولا شيء يعدل سِفْر أيوب جلالًا وجمال شَكْلٍ، وتناسب لغته، وسمو موضوعه.
ومن العسير اقتطاع فقرٍ من هذا السِّفْر الذي يجب إيراده بأسره.
والحق أن الأزلي إذا ما تكلَّم ووصف عجائب الطبيعة التي خلقها، ظنَّ المرءُ سماعه صدَى صوتٍ إلهي.
فقد وصفت سعة الكون وروعة السماء ذات الكواكب وعظمة البحر المحيط، وتنوُّع النبات والحيوانات تنوعًا لا حدَّ له، وجمال الخيل وبأسها، وقوة النسر وخيلاؤه؛ وصفًا دقيقًا جزيلًا.
أكنت تصنع هذه الأشياء؟ أفتعلم كيف صُنِعت؟
أتُرسِل البروق فتنطلق وتقول لك: نحن لديك؟
مَن وضع الحكمة في الأعصار أم مَن آتى النوء الفهم؟ ومَن يُحصِي الغيوم بحكمته؟ ومَن يصب زقاق السماوات؟
أأنت الذي يؤتي الفرس قوة؟ أبحكمتك يستقل البازي في الجو ويبسط جناحيه نحو الجنوب؟
وبلغ شعر العبريين، الذي تركته لنا المزامير وأسفار صغار الأنبياء وكبارهم، والقطع المنثورة في جميع أجزاء العهد القديم، من الغنى في التآليف ما لا نقدر معه على غير تقديره بسوى أوصافه العامة.
وذلك الشعر غزيرٌ عالٍ، رفيعٌ في الغالب، خصيبٌ في الصور، ذو بلاغة مؤثرة.
ولم تكن الموضوعات الدينية مصدر الإلهام الوحيد فيه، ففيه تنويه بالخمر والنساء والحرب، غير أن أناشيد التقوى هي التي جُمِعت وبقيت لنا.
ونعدُّ من أقدم الشعر العبري أغنيةَ حرب دَبُوره التي توجد في سِفْر القضاة.
وترجع المزامير إلى أدوار مختلفة. أجل، إن داود الذي عُزيت المزامير إليه طويل زمن كان شاعرًا ممتازًا لا ريب، بَيْدَ أنه يستحيل أن نعرف بين الأغاني العبرية أي المزامير من صنعه، والمزمور الوحيد الخاص به هو النشيد المحزن الذي وضعه بعد موت شاول ويوناتان على التحقيق.
والشعر الإسرائيلي الغنائي ذو روعة كبيرة، وهو في تعبيره وفي وحيه العام أفضل من القصائد الحربية أو الدلالية لدى الساميين الآخَرين، حتى لدى العرب.
والشعر الإسرائيلي لم يُؤلَّف من أبياتٍ بالمعنى الصحيح، بل يشتمل على إيقاعٍ خاص ناشئ عما يُسمَّى بموازنة الأجزاء.
ويُقسَّم كل دور في الشعر العبري إلى جزأَيْ جملة مشتملين على الفكر الواحد المعبَّر عنه بكلمات متماثلة تقريبًا، وذلك على وجه يُسمَع به صدى الجزء الأول في الجزء الثاني، وهذا الصدى ذو أثر مؤثِّر في الأذن وفي الفِكْر معًا.
الرب رءوفٌ رحيمٌ طويل الأناةِ وكثير الرحمة
ليس على الدوام يسخط ولا إلى الأبد يحقد
لا على حسب خطايانا عاملنا، ولا على حسب آثامنا كافأنا
بل بمقدار ارتفاع السماء عن الأرض عظُمت رحمته على الذين يتقونه.
ولا تجد عند العرب، ولا عند الساميين الآخرين، موازنة الأجزاء تلك الخاصة بالشعراء العبريين والتي هي من مميزاتهم، وتجدها بالعكس، في بعض الآثار الأكادية القديمة إلى الغاية، وفي هذا دليلٌ جديد على إقامة ساميي الشمال بما بين النهرين، وعلى اقتباس اليهود لموازنة تلك الأجزاء من كَلْدَة.
إذن، لم يكن تفتُّح الآداب العبرية الرائع ذلك أمرًا غريزيًّا، بل يرتبط بشكله ومبادئه الدينية في بيئة ثقافية شرقية قديمة جدًّا.
والعبقرية السامية إذا ما تُرِكت وحدها لم تبلغ مثل ذلك السمو، وروح السامي تشابِه جسمه الجاف العصبي؛ فهي جليلةٌ رشيقةٌ لبقةٌ مع قلة عمقٍ وفقر خيال.
وما أُبصِر من أمور فيما مضى، وما سُمِع من أقوالٍ في غضون القرون القديمة على ضفاف الفرات؛ فقد مازَجَا بني إسرائيل في جميع تاريخهم.
وفي كَلْدَة اتفق لبني إسرائيل ذلك التعطُّش إلى معرفة بداءة كل شيء ونهايته، أي حب الاطلاع الضاري الذي كان يؤلم قدماء المجوس.
والإسرائيلي لو بقي تحت خيمته في سهوب جزيرة العرب النمطية، ما وجد من النبرات ما يزعزع به العالم ويقنعه ويولعه.
ولم يكن أنبياء اليهود منصفين نحو بابل.
ستأتي عليك كلتا المصيبتين: الشكل والترمُّل، فيُتمان عليك من أنواع سحرك وقوة رُقاك الكثيرة.
وقد وثقت بخبثك وقلت لا يراني أحد، إن حكمتك وعلمك هما أفتناك في قلبك أنا وليس غيري.
امكثي علي رُقاك وأنواع سحرك الذي عُنيت به منذ صباك.
فليقف راصدو السماء الناظرون في النجوم المعروفون عند رءوس الشهور، وَلْيخلصوك مما هو آتٍ عليك.
وتلوح تلك السخرية قاسيةً في فم أحد أولئك الشعراء اليهود الكبار المدينين كثيرًا لكَلْدَة.
ويشابه أسمى تفتحات العبقرية البشرية أزهار الشجر التي تستمدُّ جمالها ونضارتها ونورها من جذورها السود البعيدة المطمورة في التراب المظلم، ويتطلب نشوء الشجرة سنوات طويلة، وتتفتح الزهرة في يوم واحد، وليس من الحق أن تزهوَ الزهرة فتستخف بالفنن الخشن الذي يحملها والذي لا تكون بغيره.
ونحن أولاء الذين يكونون أمام أروع المعلومات، فيسعون في الرجوع إلى العلل الوضيعة، نُبصر أمرين وراء روعة القصائد العبرية.
نُبصر الخيمة في البادية صغيرة تجاه الآفاق النمطية التي لا حدَّ لها، ثم نبصر على ذروة معابد كَلْدَة، المجوسيَّ المفكِّرَ وهو يحاول استخراج سر مصايرنا من السماء الصامتة.
فذكرى الخيمة الوضيعة، وذكرى المعبد المتكبِّر قد عظمتا مقدار الأحلام التي سحرت الإنسانية حين أوحتا إلى الشاعر اليهودي.