الفصل الأول
كنت بالأمس على وعد من صديق لي، فلما بلغت داره دخلت، فوجدته جالسًا والحزن بادٍ على وجهه، ولما حييته وجلسنا نتحادث، سألته عن سبب حزنه، فقال: جلست اليوم أنظر في صور أصحابي الذين عرفتهم، فبصرت بتلك الصورة، فحركت أشجاني، قلت: وأي صورة تقصد؟ قال: هذه التي تراها بين يدي، فنظرت إلى ما بين يديه، فرأيت صورة، فتناولتها، فقال: بالله عليك لا تمكني من النظر إليها، فإني لا أستطيع ذلك، فنظرت في الصورة، فوجدتها صورة شاب يبلغ العشرين من عمره، قلت: عجيب لك أن تحرك في نفسك تلك الصورة الحزن والأسى، قال: أتعرف صورة من هي؟ قلت: لا، قال: هي صورة مختار، قلت: ومن هو مختار؟ قال: بالله عليك لا تدع الحديث يجرنا إلى ذكره، فإني ليحزنني أن أعيد سيرته بعد أن صعدت نفسه إلى السماء وثوى جسمه بين الجسوم في الأجداث.
قلت: لعل إعادة الحديث تخفف ما بك من الهمِّ، وتذهب بما أصابك من الحزن، فتنهد، ثم أخذ الصورة من يدي، ونظر إليها نظرة الآسف الحزين، وقال يخاطبها: «أستميحكِ عفوًا أيتها النفس إن كنت في جنات النعيم، أو في نار الجحيم، وأنت أيها الجسم الذي تغلبت على تلك النفس، فهويت بها إلى وادي الهموم تبًّا لك وتعسًا!» ثم صمت صديقي قليلًا، فقلت له: إني لم أفهم كلامك، فهل لك أن تقص علي قصة صاحب هذه الصورة، فقال: لك ذلك، فاسمع: كنت مدعوًّا منذ سنتين في المهرجان الفخيم الذي أقامه موسى باشا لزواج ابنته، وكنا في فصل الشتاء، وقد اجتمع في ذلك المهرجان كل أغنياء القاهرة وسراتها وأكابرها، ولم يدخر موسى باشا وسعًا في إكرام المدعوين، وأنفق في هذا المهرجان نفقة هائلة، وقد بلغني أن نفقات «البوفيه» بما فيه من المآكل الشهية والخمور المعتقة زادت على ألف جنيه.
وفي نحو الساعة الثانية بعد نصف الليل، جلست مع بعض أصحابي في قاعة الشراب، وكان المغني يغني بألحان شجية، وكان بين الجالسين معي شاب يناهز العشرين من عمره، أسمر اللون، نحيف القوام، اسمه مختار، ولما شربنا وصعد بخار الخمر إلى رءوسنا، بدأنا نتكلم عن النساء والقمار، وحكى كل منَّا ما عنده من قصص الغرام وأخبار المقامرين ونوادر السكارى حتى جاء الدور في الكلام على مختار، فحدثنا قائلًا: إن أمري في القمار عجيب، فقد دخلت مرة قاعة لعب «البكارات» ومعي خمسة جنيهات، فلعبت وربحت، وبقيت ألعب وأكسب حتى حصلت على ثلاثمائة جنيه في أقل من ساعتين، وكنت في ذلك الحين أحب فتاة حبًّا كاد يصل بي إلى الجنون، فكنت أنفق على ملذاتها وملذاتي أكثر من عشرين جنيهًا في كل يوم ما بين تره وولائم وخمر وملابس وحلي و… فتحرك أحد الجالسين، وقال: وأي فتاة تلك التي حمَّلتك كل هذه النفقات، أو كانت تحبك كما كنت تحبها؟ فقال مختار: أنا لا يهمني إن كانت تحبني أو لا تحبني، إنما أنا أحبها، وماذا عليَّ إذا أحببت والمحبوب يكره؟
فتحرك شاب آخر، وقال: «أنت مخطئ يا مختار؛ لأن كره النساء لمن ينفق عليهن وحبهن لسوائه قد أمسى أمرًا محققًا، ولقد أحببت أنا امرأة حبًّا جمًّا، وكنت أنفق عليها كل ما أكسبه، وكانت تظهر لي حبًّا أعظم من حبي، وتحلف لي بأوثق الأيمان أني مليك فؤادها ومالك قيادها، وحدث في إحدى الليالي أننا شربنا حتى سكرت المرأة، وباتت لا تدري ماذا تقول وتصنع، فلما نمت إلى جانبها، وبدأت أداعبها وأشكو لها غرامي، رأيت دمعتين كاللؤلؤ الرطب قد انحدرتا على خدها الناعم، فظننتها تبكي من نار حبها لي، فطفر قلبي سرورًا ولم يلبث خفقان قلبي من الفرح طويلًا حتى بدأ يخفق من الغيظ والغيرة؛ لأنني رأيت حبيبتي بعدت عني، فتناومت لأرى ما تصنعه، فإذا بها قامت وانسابت انسياب الأفعى، وفتحت الباب بكل سكون واحتراس، وخرجت تمشي على أطراف أصابعها، فعلمت أن في الأمر سرًّا، وعقدت نيتي على اقتفاء أثرها، ولكنني صبرت قليلًا، ثم قمت وخرجت أبحث عنها، ولما صرت في «الصالون»، سمعت همسًا، فأشعلت عودًا من الكبريت فجأة، وإذا بي أرى المرأة التي تحبني مع الخادم، ويدها حول عنقه وهي تقبله وتضمه وتبكي …»
وعند ذلك ضحكنا كلنا ضحكًا عاليًا.
وما زلنا كذلك في شراب وضحك وكلام حتى أشرقت الشمس، فسكت المغني وانفرط عقد المجلس وانصرف كل إلى غرضه.