الفصل العاشر
حدَّث صديقي قال: أتى إلى مصر من بلاد الجزائر رجل تاجر، اسمه الحاج حسن الجزائري، واستوطن مدينة الإسكندرية، وكان نبيهًا ذكيًّا ومعه قليل من المال، فاتَّجر في ماله القليل، ورزقه الله بنتين وولدًا، وجاءت البنتان جميلتين رشيقتين، لأن أهل الجزائر مشهورون بالجمال، وأرض مصر تكسب الرقة والرشاقة، وكانت كبيرة البنتين اسمها عزيزة والصغيرة اسمها زبيدة.
وحدث أن عزيزة لما بلغت مبلغ النساء تزوجت بمغربي غني عجوز أرغمها أبوها على الزواج به لشهرته وماله، وبعد زواجها بقليل مات زوجها وعادت عزيزة إلى دار أبيها غنية وجميلة وصبية، أما الرجل أبوها فكان مدمنًا على شرب الخمر، وقد قيل: إنه فرَّ من بلاد الجزائر لجريمة اقترفها، وكان يدور على بعض الألسنة أنه كان للحاج حسن أب غني مريض، وكان يقتر على ابنه، فدس الحاج حسن السم لأبيه، فمات وورث الولد كل مال أبيه ثم خشي أن يفتضح الأمر ففر إلى مصر، وكأن ذكرى تلك الجريمة كانت تؤلم ضميره، فكان يفر منها ويلجأ إلى شرب الخمر، وهي التي كانت تسكن أشجانه وتقتل همومه، وقد أضعف ذلك أعصابه، وكان الرجل نحيلًا نحيفًا، فأصابه شلل في نصف جسمه الأيسر، وبقي طريح الفراش، وكان ذلك بعد زواج بنته عزيزة بقليل، فلم تدخر زوجته وسعًا في سبيل شفائه، ولكن كل أتعابها ذهبت هباءً منثورًا، وبقي الرجل مقعدًا، ولزم غرفته ثلاث سنين، وكنتَ تدخل تلك الغرفة فترى فيها سريرًا صغيرًا عليه رجل نحيل أصفر جالس وفي يده كتاب، فلما يحس بك يرفع إليك ببصره ببطء شديد، ثم يحدِّق بك، ثم يعود إلى حاله التي كان عليها من الذهول والسكينة، ويظهر أن عقله أضعفته الخمر والمرض، أما لحيته فكانت سوداء، وكان وجهه جميلًا.
وكان في أول المرض تجلس زوجته وابنته الصغيرة وابنه الذي لم يكن يتجاوز ست سنين، كلهم حوله يداعبونه ويؤنسونه ويحادثونه ويملئون قلبه بالآمال، أما بعد أن طال عليه المرض وقطع الرجاء من شفائه، هجرته زوجته وبنته إلا قليلًا، وأوكلتا أمره إلى خادمة فقيرة كانت تتعهَّده، وتخدمه، وتغسل له وجهه، وتأتي له بطعامه، وقد سبَّب مرض الرجل نقص دخله؛ لأنه كان مجبورًا على ترك العمل، وأوكل أمر تجارته إلى رجل غريب؛ لأن ابنه كان لا يتجاوز السنة السادسة، وأي غريب في هذه الدنيا توكل إليه أمرك ويصدق في خدمتك؟ وأي صاحب تأتمنه ولا يخون؟!
ولما عادت عزيزة إلى دار أبيها علمت أنه لا يملك لها خيرًا ولا شرًّا، وأنها حرة تفعل ما تريد، وكانت تلك الحرية مصحوبة بالمال الذي ورثته عن زوجها، فخلا لها الجو، وأفسدها الشباب والفراغ، والجمال والمال، وعاشت كغيرها من السيدات الغنيَّات؛ أي إنها عاشت لشهوتها، وكانت تظن أيام زوجها أن كل الرجال مثله لهم لحى وشوارب، وأن كلهم عجوز مريض مثله، وما كان أعظم سرورها لما كانت تخرج وترى الشبيبة الناشئة، وفيها كل شاب أجرد أمرد لا نبات بعارضيه، حلو الفكاهة، رقيق الغزل، جميل الوجه، حسن الهندام.
نعم! نعم! هذا كان في نظر عزيزة منتهى السعادة، فأحسَّت بعقلها وقلبها الفاسد أن مدينة الإسكندرية هي جنة على الأرض، وأن طرقها مسارح الغزلان، فكانت تخرج تلك الخبيثة تنصب حبائلها للشبان، وكانت لها عجلة تكريها في كل يوم وتمر بها من الطرق، فإن رأت من استحسنته كانت تومئ إليه أو تبتسم له فيتبع عجلتها في عجلة، ثم يلتقيان.
وفي بلادنا فريق من الشبان، جمال الوجوه، قباح النفوس، لا عمل لهم إلا الأكل والنوم والجلوس، وهؤلاء هم الذين كانت تصيدهم عزيزة.
وحدث أنها رأت يومًا أحدهم، فراق في عينها، فأومأت إليه فتبعها في عجلة حتى خرجا من الطرق المزدحمة، ثم ترك عجلته ودخل عجلتها، فلانت له، وأطلق الشاب للسانه وليده العنان، فرضيت به رفيقًا تعده تلقاه كلما شاء وشاءت.
وكانت أم عزيزة تكتم سرها، فباحت عزيزة لها بالأمر، فرأت الأم دارها أستر لأمرها من غيرها، وقد ساعدها على ذلك مرض الرجل الكبير وكونه مقعدًا لا يستطيع أن يقوم، ولا يمكنه أن يعلم ما يجري في داره، ورأت ابنها الصغير لا يدرك الأمر، وبعد ذلك بقليل دخل الشاب محبوب عزيزة — وكان اسمه إبراهيم — دارها، ويا ليته ما دخل!
أما إبراهيم فكان شابًّا يبلغ العشرين من عمره، وكان أبوه مستخدمًا فقيرًا، وكان صحيح الجسم قويًّا، أبيض الوجه أحمره، وهو في مشيته أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وكان يلبس ملابس ضيقة تُظهر كل جمال في جسمه، وهو من الذين لا يعرفون في الحياة شيئًا غير الأكل والشرب وما وراءهما، وهم في كل هيئة اجتماعية سبب شقائها وبلائها، فإن كانوا أغنياء فتحت في وجوههم ثروتهم أبواب الشر، فلم يتركوا ذنبًا إلا وطرقوا بابه، ولم يغادروا جريمة أدبية إلا واقترفوها، ولا ندري من غرس في أفكار تلك الفئة الضالة مبادئ الماديين العقيمة، فإن أحدهم لا يبالي بشيء ما دام ماله في كفه وبطنه مملوءة بالطعام ومجالس أنسه عامرة والفقراء الجهلاء يخدمونه ويسجدون لذهبه، وهو لا يحس بأن للحياة أغراضًا إلا الأكل واللذة والذهب. وإن كانوا فقراء التمسوا رزقهم بجمال وجوههم ورشاقتهم، وليس اللص الذي يقتل الناس ويسرق المتاع ليأكل ويسد عوزه بأكبر جرمًا من الذي يسرق العفة والطهارة من قلوب بنات الأمة، ويظن أن كل ما يأتيه حلال؛ لأنه شاب والشباب شعرة من الجنون.
وكانت عزيزة كل ذلك الوقت تنفق من جيبها على الشاب إبراهيم، ولا تمنعه شيئًا، ولما رأى ثروتها وعلم بحبها له، قال إنه من عائلة شريفة، وإن الناس علموا بأمره وأمر عزيزة، وإنه يخشى الفضيحة، ففاتحت عزيزة أمها في الأمر، وشكت لها حبها لإبراهيم، وقالت: إنها إن لم تحظ به دائمًا تموت شهيدة حبه وغرامه، فوجدت أمها بدهائها ومكرها مخرجًا لبنتها ومعشوقها من تلك الورطة، وذلك بالزواج، فامتنع الشاب عن الزواج بعزيزة بحجة أن أهله يغضبون عليه؛ لأنهم لا يرغبون في زواجه إلا من بنت بكر، ولكن لم تفرغ جعبة أم عزيزة من الحيل، فإنها قالت: إنه لا يعلم أهله بالزواج، وتبقى عزيزة في دارها، ويزورها إبراهيم كلما شاء، فقبل الشاب بعد إلحاح شديد، وبعد أن أتحفته عزيزة بمائة جنيه.
ومن الغريب أن الزواج أطفأ نار الغرام التي كان يشعلها الزنا، فقبحت عزيزة في عين إبراهيم، وأمسى قُربها وبُعدها لديه سيان، وبدأ إبراهيم يحس بثقل عزيزة على كاهله.
وكان كلما زاد تيهًا ودلالًا تزداد عزيزة إليه شوقًا وميلًا، وكلما طلب مالًا وهبته ما شاء، وأصبح المتصرف في كل شيء، وليت إبراهيم كان يأخذ مال عزيزة ويسد به حاجة عائلته، فإن ذلك يكون أفضل من حبسه، بل كان يأخذ مال تلك المسكينة فيلبس الملابس الجميلة، وينفق طول ليله على الخمر والنساء.