الفصل الخامس عشر
ولا يمكن لأي إنسان له عواطف ويحس بآلام الناس ويتصور حال مختار في مرضه، حتى يذرف الدمع السخين، فلقد أمسى هذا المسكين يستر فقره بقليل المال الذي يحصل عليه بعد أن كان يلعب بالذهب لعبًا في أيام إقبال الدهر، وأمسى يعالج داءً أعيا الأطباء طرًّا، لا يدخل جسمًا حتى يخرج منه بالحياة، وفقد مختار أمه فأي همٍّ أكثر من همه، لا سيما وكان قبل ذلك بشهر واحد ناعم البال سعيدًا، يحظى بوصل حبيبته، ويصرف المال بدون حساب، فهل كان يخطر بباله أنه بعد ذلك الشهر سيكون فقيرًا مدقعًا، ليس له في كل يوم إلا مبلغ زهيد لا يكاد يكفي ولدًا من أولاد الأغنياء ثمن ألاعيب، هل كان يخطر ببال مختار أن أمه تموت وتتركه هو وأخته في بحر هذه الحياة، فتتقاذفهما أمواج الفقر، وتعبث بهما رياح الحاجة والشقاء؟!
نعم، كان لمختار وأخته بيت، وكان لهما خادم يخدمهما، وكان مختار يلبس ملابسه التي كان يلبسهما في ثروته، ولكن قلب مختار وقلب أخته كُسرا وخيَّم الحزن على نفسيهما، فلم يكن مختار يبتسم، ولم تكن أخته تضحك ضحكة، على أنها منذ شهر أو شهرين كانت تملأ البيت بصوت ضحكها.
ماذا يصنع مختار إذن وهو في مرضه وفقره؟ أيلجأ إلى حبيبته منيرة وهو لا يدري كيف تقابله، أم يلجأ إلى أخته وهي أقرب إليه؟! إنه المسكين لجأ إلى أخته وبدأ يطلب السعادة المنزلية، ولكن الصيف ضيعت اللبن، وذهبت السعادة ولم تنتظر مختارًا، فليته أتى منذ عام أو عامين …
مسكين أيها الشاب الذي أضاعك الحظ وأصابك الدهر بكل أنواع المصائب، وكم شابٍّ مثلك نراهم في الطريق، فنمر بهم ولا نعيرهم نظرة واحدة، وهم ينظرون إلى وجوه الناس الأغنياء، كأنهم يلتمسون الرحمة منهم، فيلقي الغني عليهم نظرة احتقار واستهزاء وكراهية!
ولو كانت الرحمة في شكل إنسان لهبطت على مختار المسكين — وهو سائر من ديوانه إلى منزله، أصفر الوجه، مقطب الجبين، أعمى البصيرة، وجراثيم المرض تقرض حبل حياته — ورفرفت عليه بأجنحتها، وضمته إلى صدرها، وقبلته، ثم رفعته إلى السماء العلى؛ ليحظى بالجنة والنعيم، فقد كفاه ما هو فيه من الهم والأسى، ألا يكفي ذلك عقابًا له على ذنوب الشباب، والشباب شعرة من الجنون؟!
وبعد قليل من زيارة مختار للطبيب، اشتد عليه المرض، وأظنه لم يكن قادرًا على دفع ما يطلبه الطبيب في كل مرة، فذهب إلى حلاق فقير يدعي البراعة في الطب، وأسرَّ إليه أمره بعد خجل شديد، فعالجه الحلاق علاجًا أكثر شرًّا من الداء، وكان يعالجه بتدخين «الزرنيخ»، وهذه الطريقة مشهورة عند العامة لمداواة داء الزهرة، وهم لا يعلمون الغرض الحقيقي منها، وواضعها يقصد قتل الجراثيم بدخول السم في الجسم، وقد استبدلها الأطباء بعلاج الزئبق، وكم كان مختار يتألم من تدخين ذلك السم الزعاف، وكم مرة نزلت دموعه كاللؤلؤ الرطب على خده وهو يدخن «الزرنيخ» في حانوت الحلاق! هذا الذي جناه من وصل منيرة وحبها. هل ما كسبه مختار في غرفة نوم منيرة من مثل النوم على السرير، وتقبيل محبوبته، وضمها إلى صدره، ورشف لماها، والتغزل في جمالها الفتان، يخسره في حانوت الحلاق، وهو يدخن الزرنيخ؟
هل ذهبت كل الابتسامات الذهبية التي ابتسمها وهو يشرب الخمر بعد أن يخلطه بريق منيرة، وعادت إليه دموعه سخينة يذرفها في حانوت الحلاق؟
هل هذه هي العدالة التي يسير بمقتضاها هذا العالم، يوم أبيض من الثلج ويوم أسود من القار؟ نعم هي العدالة يا مختار! نعم هي العدالة، وإن كنت أبكي عليك، وآسف على شبابك، وأتنهد من أجلك، ولكن يا عزيزي مختار هذه هي العدالة، أنت مظلوم لا شك: نفس بريئة جنى عليها أبوها وأمها والمجتمع الإنساني، ولكن هذه هي ما يسمونها بالعدالة، قبلتها أم لم تقبلها، فاصبر فإنك ستحظى بعد الموت بالحور العين، وبالحدائق والبساتين، وبالقصور العالية، وبالأنهار الجارية في جنة خُلقت لمن يعذبون في العالم الأرضي ويلجئون إلى عالم السماء، اصبر يا مختار وتأسَّ وتَفَكَّر في روح الله، اصبر وليخطر ببالك أمر كل مسكين عاش في عذاب ومات في عذاب وذهب إلى …!
ولكن إلى أين يا مختار؟ … أنا لا أدري إن كانوا ذهبوا إلى النعيم أو إلى العذاب أو إلى النوم الطويل الذي ليس بعده قيام …