الفصل السادس عشر
وبعد أن بقي مختار هكذا أكثر من شهرين، ذاق فيهما مر الحياة، خطر بباله يومًا أن يقصد منيرة في مرقصها، لعلها تسعده بنظراتها وتذهب همه بصوتها الرقيق، وكان في جيبه قليل جدًّا من النقود، فدخل المرقص فلم يقم له صاحبه، وكان دائمًا يرحب به ويسلم عليه، ولم ينظر إليه أحد، فسأل مختار نفسه قائلًا: هل علموا بأمري وأنني فقير مريض؟!
فقير مكروه من الله والناس، ليس له أمل، ففروا منه كما تفرون من المجذوم …
ومن الغريب أن هذا الخاتم يقرؤه كل الناس، لا فرق في قراءته بين الأمي والقارئ، فلما قرأه صاحب المرقص غض طرفه عن مختار، ثم جلس مختار في أحد الأركان، ومر به الخدم يحملون قنينات الخمر ويصرخون بطلب غيرها، فنظروا إليه وقرءوا الخاتم الذي على وجهه، فلم يعيروه لفتة، فنظر مختار فرأى كل شيء كما تركه منذ شهرين من الزمان، أيام كان سعيدًا غنيًّا؛ رأى المغنين يغنون، ورأى الناس يسمعون ويطربون، ورأى الوارثين جالسين وبجانبهم بعض النسوة يلعبن بعقولهم، وصاحب المرقص يلعب بهن والدهر يلعب بالجميع.
رأى مختار كل شيء لم يتغير، إنما هو تغير كثيرًا، شتان بين الأمس واليوم، فقال: لعل منيرة لا تستطيع قراءة خاتم الفاقة، ولم يكن يخطر بباله هذا الخاطر حتى سكتت المغنية، وخرجت منيرة من حجرة وراء التخت بنصف جسمها مكشوفًا وعليه الحلي من الذهب والماس، وبدأت ترقص؛ فدقَّ قلب مختار كثيرًا، وكادت تخونه قواه ويسقط على الأرض، نظر إلى وجه منيرة فإذا به أحمر كما تركها منذ شهرين، وهي لا تزال سمينة بصحة تامة وتتبسَّم للناس وتضحك، وتُظهر الغنج والدلال، وتشرب الخمر … عجيب! لم يتغير شيء في الدنيا إلا أنت يا مختار …!
ولما هدأ روع مختار أراد أن يُصَوِّب نظره إلى منيرة، لعله بذلك يستلفت أنظارها فتحول نظرها إليه، فصَوَّب وصَوَّب، ولكن لم تلتفت إليه منيرة. كان بالأمس يتمنى لو يطول رقص حبيبته سنة، ولكنه الليلة كان قلقًا ينتظر انتهاء رقصها بفروغ صبر ليحادثها، وأخيرًا انتهت منيرة من الرقص، ونزلت تجمع ما يجود به عليها المتفرِّجون، ثم قربت من مختار، فلما رأته أتت إليه وحيَّته ببرود، وقالت له: «أين كنت؟ كيف حالك؟ ماذا قال لك الطبيب يا مختار؟ لقد صرت نحيلًا نحيفًا، ائذن لي في القيام، فإن لي رفيقة تنتظرني.» ولم تنتظر كلمة ثانية، وانصرفت عنه وهو صامت كأنه ضُرب عليه السكوت فلم يستطع أن ينبس ببنت شفة. أين كل الكلام الذي جهزه ليشكو به حاله لمنيرة؟ أين حبها القديم؟ أين دلالها عليه؟ أين اعترافها بحبه وغرامه؟ كل ذلك ذهب … هل قرأت منيرة خاتم الفاقة الذي على جبهته؟ …
نعم! نعم! فيا أسفى على مختار المسكين! … وقام مختار من المرقص ملومًا محسورًا، ولا يعلم مقدار همه وحزنه إلا الله.