الفصل السابع عشر
قال محدثي: وكان في الديوان الذي يشتغل فيه مختار رجل عجوز بخيل، وكان مشهورًا بين من يعرفونه بالغنى؛ لأن مرتبه كان كبيرًا ولأنه قليل النفقة، ومن غريب أمر هذا الرجل أنه كان لا يتزوج امرأة حتى تموت بعد أن تعيش معه زمنًا قصيرًا، وكانت كل امرأة تأتي له بغلام أو ابنة ثم تموت، وقد تزوج هذا المسكين بأكثر من عشر زوجات، ودفنهن الواحدة بعد الأخرى، وبقي يربي في أولاده وبناته، وكان أكبرهم لا يزيد عن عشر سنين، وأصغرهم لا يقل عن سنة، وترك الرجل أمر هؤلاء المساكين لأخت له كانت فقيرة، فكان يعطيها في كل شهر قليلًا من مرتبه لتنظر في شأن أولاده.
أما الرجل فكان بين الطويل والقصير، صغير الرأس، طويل الرقبة، أقنى الأنف، لونه يضرب إلى السمرة المختلطة بالاصفرار، وكان يمشي منحنيًا قليلًا، وكانت رائحة فمه قبيحة جدًّا، وملابسه في غاية القذارة، ويظهر أنه نال المرتب الكبير الذي كان له بحق الأقدمية؛ لأنه بقي في خدمته أكثر من أربعين سنة، وقد اشتهر أمره بين الناس، فبعد أن ماتت زوجته العاشرة لم ترضَ امرأة بزواجه، وكان الناس يتساءلون عن سبب موت النساء وعدم موته، وكان هذا الرجل مشهورًا بنكاته؛ لأنه كثير الهزل والمزاح، ومن الغريب أنه كان من أصحاب أبي مختار في صباه، وكان يكثر في التردد على داره؛ ولذلك كان دائمًا مهتمًّا بأمر مختار، يسأل عنه وعن صحته، فلما رآه في هذه الأيام الأخيرة، أصفر اللون، منقبض النفس، بقي يسأل ويستقصي حتى علم السر في ذلك، فكان يجود على مختار بقليل مال، فيأخذ مختار ما يعطيه العجوز شاكرًا؛ لأن مختارًا لم يكن كريم النفس أبيًّا، ولم يكن يعرف لذة الصبر مع الفقر والقناعة بالقليل، ولم يكن يعرف أن مقابلة الدهر بمصائبه فضيلة عظيمة، إنما كل ما كان يعرفه هو المال واللذة.
وفي يوم من الأيام دعا الرجل المستخدم العجوز مختارًا لتعاطي طعام الغداء معه في مطعم؛ لأن بيت الرجل ليس مستعدًّا لمقابلة الأضياف وإكرامهم، وبعد أن أكلا «هنيئًا» وشربًا «مريئًا» ابتدأ العجوز قائلًا: كيف حال الست إحسان أختك؟ فبغت مختار قليلًا، ولكنه لم يستغرب السؤال؛ لأنه تذكر أن الرجل كان يتردد على دارهم، ورأى أخته وهي صغيرة، ثم نظر فرأى للرجل عليه يدًا كريمة، فقال له: إن أختي بخير، قال العجوز: ألم تتزوج؟ قال مختار: لا، إنها ليست راغبة في الزواج، قال العجوز: ليست راغبة في الزواج؟ لماذا؟ قال مختار: لأنها ترى من أحوال شبان اليوم ما يغضبها ويحزنها؛ ولذلك لا ترغب أن تكون زوجة لأحدهم. قال العجوز: نعم. نعم. لها حق في ذلك، ولكن ما قولها لو تزوجت برجل ليس صبيًّا، وإنما يكرمها ويحبها كابنته، أظنها لا ترفض الزواج بمثله، قال مختار: لا أظنها تقبل الزواج بعجوز، ولكن لماذا هذا السؤال؟ قال العجوز: لأنه بلغني أن رجلًا متقدمًا في السن يرغب الزواج بها وينوي أن يدفع لها مهرًا كبيرًا، قال مختار: ولكن من هو ذلك العجوز؟ قال العجوز: إني لا أصرح باسمه الآن، إنما هو كثير الشبه بي، وسنه يقرب من سني، ففطن مختار إلى قصد الرجل، وعلم أنه يرغب أن يتزوَّج بأخته، فابتسم قليلًا …
إذن كان ذلك الشرير يقصد الزواج بتلك الزهرة الجميلة، ولم يكن يجود على مختار في بعض الأحيان إلا ليحصل على زوجة (نمرة ١١) ليدفنها بجانب أخواتها.
ولكن مختارًا منع نفسه عن الضحك بعد أن تذكر همومه ومصائبه، ووجد أنه في حاجة شديدة إلى المال، فحوَّل مجرى الحديث إلى المسألة المالية، وقال: وكم يدفع هذا العجوز مهرًا لأختي؟ قال العجوز: يدفع خمسين جنيهًا، فتنهَّد مختار وقال: أهذا هو المهر الكبير الذي تقول عنه؟ فاستند العجوز إلى كرسيه وانتفخ قليلًا، وقال: إنه مستخدم مثلي، وهذا المهر يكفي لأن يكون ثمنًا لأي امرأة، فلم يفهم مختار قول الشيطان العجوز: «ثمنًا لأي امرأة.» إنما قال: لا. لا. إن مهر أختي لا يقل عن مائتين من الجنيهات، فإن رغب هذا العجوز في أختي فهو لا يمد لها يدًا قبل أن يدفع مائتي جنيه، فقال العجوز: أنا لا أظنه يدفع هذا المبلغ أبدًا، ومع ذلك فأنا سأقابله وأرى رأيه في ذلك.
ثم تغير مجرى الحديث، ودار على مسائل أخرى، وبعد قليل قاما وافترقا بعد أن هدم مختار ما بناه العجوز من قصور الهواء للحصول على فتاة صبية تعيد له شبابه ويقصف غصن شبابها. وقد فُتح في وجه مختار باب جديد، وهو الحصول على المال ثمنًا لأخته، ولم يخطر بباله المسكين أنه إذا تزوجت أخته إحسان يصير وحيدًا في العالم، ويهدم بيته، ويبقى كريشة في مهب الريح، وكأن المال القليل الذي أمل الحصول عليه ثمنًا لتلك المسكينة قد أعمى بصره وبصيرته، وهكذا أصحاب تلك النفوس المضيعة، لا يطلبون في الحياة غير اللذة والسرور، ولو كلفهم السعي وراءهما ضمائرهم ونفوسهم وأعراضهم ومالهم، وكل شيء عزيز عندهم.