الفصل الثاني
ثم تنهد صديقي وأتبع الحديث بالحديث، قال: ولقد أحببت مختارًا بعد أن تعرفت به، ووقعت بيننا الألفة وصرت صديقه الحميم، فلمَّا كان مساء يوم من الأيام لقيت صاحبًا له وسألته عنه، فقال إنه في معلب القمار، وكنا نحو الساعة الأولى بعد نصف الليل، فلم تكن لحظة حتى صعدت إلى ملعب القمار، وهو تلك القاعة الرحيبة التي ببابها النحس والسعود، وقبل أن أدخلها وقفت بالطرقة هُنَيْهَة، وكانت مملوءة بدخان الطباق، وبعد قليل دخلت، وكان اللاعبون كلهم منكبون انكباب الجائع على طعام لذيذ، ومن نال منهم كرسيًّا كان وراءه ثلاثة أو أربعة من الرجال، وكأنهم قد عقدوا آمالهم بآماله يربحون إذا ربح ويخسرون إذا خسر، والكل حول منضدة كبيرة مفروشة بقماش أخضر، وفي صدر المنضدة رجل ضخم الجسم، كبير الرأس، أحمر الوجه، شعره أسود، وهو مرتكن بيديه على المنضدة كمن عقد النية على الحرب والقتال، ونوى أن لا يعود إلا رابحًا ربحًا طائلًا أو خاسرًا خسرانًا ليس بعده خسران، وأمامه أوراق اللعب والمال الذي كسبه.
فحشرت نفسي بين الجمع، ورقبت الرجل الكبير، ثم نظرت، فإذا بالجالسين والواقفين قد وضع كل منهم أمامه ما عرضه من مال للخطر، وصمت الكل، فتناول الرجل الكبير ورقة وأعطاها لرجل عن يمينه، وأخرى وأعطاها لمن على يساره، ثم اتخذ ورقة لنفسه، ثم نظر في ورقته، فإذا بها رابحة، فحشد المال الذي كان موضوعًا أمام اللاعبين، فلم تكن لحظة حتى ضاعت آمال المؤملين، ورب رجل جمع بين اللاعبين كان قد لعب بكل ما يملكه، وأمسى بعد تلك المرة لا يملك ما يسد رمقه أو رمق عيلته، ورب فتى نهب مال أمه الأرملة وأخواته اليتامى ولعب به، وهو سيعود إليهن ملومًا محسورًا.
وكنت أرقب وجوه اللاعبين، فكنت أرى بعضهم لا يتغير ولا يتأثر، ورأيت رجلًا يونانيًّا وضع أمامه ورقة مالية بمائة جنيه، فدارت عليها الدائرة، وخسرها، وأخرج غيرها وهو يبتسم؛ كأنَّه لم يفقد زينة الحياة الدنيا، ولحظت اللاعب الكبير — ويسمونه «البنكير» — يخسر مرة، فإذا بأنفه الكبير قد تغير وانقلب من الاحمرار إلى الاصفرار، وهذا كل ما كنت ألمحه من التغيير في وجهه.
وإنا لكذلك، وإذا برجل قد وضع يده على كتفي، فالتفت فرأيته يناهز الأربعين من عمره، مقطب الجبين، مملوء الوجه بالغضون، وشعره أشيب وثيابه رثة وهو كئيب حزين، فنظرت إليه نظر السائل عن أمره، فمد يده إلي وفيها أربعة قروش، وقال ألا تعمل معي معروفًا وتقرض الله قرضًا حسنًا وتعطيني ربع ريال؟ … فلم أستطع أن أرده ولم أستطع أن أنصحه، وأعطيته ما طلب، ولم آخذ الأربعة قروش من يده، فشكرني ثم انصرف عني، ولمحته وهو يلعب، ورأيته خسر تلك القطعة، ولكنه لم يستطع أن ينظر إليَّ، وخرج من بين الجماعة، فاقتفيت أثره بنظري حتى غاب عن عيني، فتنهدت لحاله.
أما هواء الغرفة، فقد فسد كثيرًا؛ لأنه مضى على المجتمعين فيها نحو الأربع ساعات، وهم لا يتحركون منها، وفيهم العليل والمريض، وكان الفصل شتاءً، فلم يستطع أحد أن يفتح نافذة، وكان الطُبَّاقُ يخرج دخانه المسموم، فيعقد فوق رءوس الكل هالات من الغيوم القتالة، وما كنت ترى إلا خاسرًا يأوي إلى قاعة الاستراحة حتى يهدأ روعه أو رابحًا يبدل الماركات، أو خادمًا يأتي بالقهوة وغيرها من المرطبات للَّاعبين، ومن الغريب أنه في مثل هذا المكان يسود السكوت التام، ولا ينبس أحد ببنت شفة خشية أن يقلق راحة الباقين، ومن يعرف من اللاعبين أنه خسر يتحمل خسارته بشجاعة وصبر، ويتقهقر بانتظام، ومن هؤلاء اللاعبين رجال يربحون المائة والمائتين من الذهب، وهم لا يلبسون قميصًا نظيفًا أو سترة ثقيلة يتقون بها شر البرد، فما الفائدة في جمع كل هذا المال؟! وقد خطر ببالي وأنا أرى ذلك أن أغلبهم يلعبون لمجرد اللذة ويجمعون المال كما يجمع تاجر الفراخ الدجاجات لا ليأكلها بل ليأكلها غيره، وكذلك المقامر لا يلبث أن يفرح بربحه حتى يلحقه الطمع فيخسر الدينار!
الدينار! هذا هو المعبود الذي تخر له الناس سجدًا، أليس هو ذلك المعدن الأصفر الحقير الذي نال قوته بندرته؟!
وفي هذا الحين بصرت بمختار وأمامه قليل من الذهب، وكثير من قطع العظم المستديرة «الماركات»، وهي تختلف في القيمة كما تختلف النقود، فحولت نظري نحوه، وعولت على أن لا يشعر بوجودي لأراه وهو يلعب بماله والحظ يلعب به، فرأيته وضع جنيهًا فربح مثله، ثم غلبه الطمع، فوضع ثلاثة جنيهات، فربح مثلها، ثم وضع جنيهًا فخسره، وقطعتين من العظم فخسرهما، وكان وقت انقضاء اللعب قد حان، فقام الكل وفيهم من كسب ومن خسر، فدنوت من مختار وحييته، ومن العجيب أنه لم ينتبه لكلامي وكأنه في بحر من التفكير، فلما تنبه لي قام وغادرنا الملعب، فقال: إلى أين؟ قلت: إلى حيث تريد، قال: إلى حبيبتي منيرة، فإني على ميعاد منها الليلة، وقد أسعدني حظها، فربحت أربعة جنيهات، قلت: أما تبت يا مختار عنها؟ قال: دعني من هذا، فإني لا أدري لماذا أحبها، شيء في عينيها وفي وجهها يجذبني إليها، كما يجذب المغنطيس الحديد، صوتها الرقيق وحركاتها الرشيقة وتيهها ودلالها، كل ذلك يحببها إليَّ، ألست تعلم أن عاطفة الحب إذا حلت قلبًا قتلت كل ما حولها من العواطف حتى عاطفة الحياء والشرف؟! أنا أعلم أنني مخطئ في كل ما أصنع، ولكن أحبها! أحبها! إن قلبي مجنون بغرامها، ولست أحس بهذا الحب إلا إذا أقبل الليل، فإنه يحرك شجوني ولا يهدأ لي بال إلا إذا كانت الفتاة إلى جانبي، ولا بأس إذا أتيت لتراها الليلة.