الفصل الثالث
قال محدثي: فسحرني كلام مختار وسرت معه، وكانت الساعة الثانية بعد نصف الليل، فمررنا بالأزبكية وأمكنتها التي كانت منذ ساعات مملوءة بالرجال والنساء، وصارت الآن خالية خاوية، وكنا في أوائل الشتاء، ولما أحس الناس بالبرد انصرفوا إلا قليلًا ممن لا مأوى لهم، فمن ولد صغير لا يزال يتحكك بالحوائط، كأنه يسألها أن تأويه، وفي يده ورق «اليانصيب» يصرخ به قائلًا: «حلوان والمدرسة مائة ألف فرنك يانصيب.» فيردد الليل صدى صوته، ومن مقعد يزحف على الأرض بيديه ورجليه، وهو ينتظر من أبناء السبيل درهمًا يأكل به أو يستر به جسمه، ومن امرأة طريدة دهر جائر الأحكام، ومن رجل فقير سكير حتى نسي نفسه وأهله، ثم أحس بالبرد القارس فأخذ يسعى إلى داره.
فلما رأيت ذلك احتقرت نفسي واستصغرت رفيقي، وقلت: يا مختار ماذا يأتي بنا إلى هنا في مثل هذه الساعة، ووراءنا أهل ينتظرون عودتنا؟ قال: أما أنا فذاهب إلى حبيبتي، قلت: أما أنا فإن نفسي في ألم شديد، قال: لماذا؟ قلت: لأنني في حاجة إلى فتاة طاهرة تقف إلى جانبي، فترشدني بجمالها ونفسها الطاهرة في ديجور هذه الحياة، قال: أتريد إذن أن تتزوج؟ قلت: نعم، فإن عائلة الرجل وزوجته وأولاده موئل لقلبه من هموم هذا العالم وأحزانه؛ لأن الرجل يرى في امرأته شريك حياته وصديقه في مشتكى حزنه وأنيسه في منتهى جذله، ويرى فيها الصاحب الصادق الذي لا يمل ولا يغضب ولا يضجر ولا يتعب ولا يلوم ولا يعتب.
قال مختار: ولكن لا أظن أن المرأة تحفظ ود الرجل حفظًا يأمن معه صيانة شرفه، وقد يحملها غيها على أن تبذل عرضها لأجل أن تطفي نار شهوتها. قلت: إن الرجل إذا عاش مع زوجته عيشة راضية وأظهر لها الحب والوداد ورفع من بينه وبينها أسباب الشقاق، وساسها كما يسوس الفارس الفرس، وكان صاحب النفوذ على نفسها، المالك لأمرها، ليس مع الشدة التي تمل، أو اللين الذي يسهل التغلب على صاحبه، فإنه لا يجد له أسعد من بيته أو أحب إليه من زوجته، ذلك إذا كان الزوج قادرًا على العمل يجد رزقًا أنى ذهب، أما إذا كان لا يزال شابًّا لا يدري ماذا يصنع به المستقبل، ولا يعلم لنفسه غرضًا تسعى إليه، ولا يأمن الدهر وما يجلبه عليه من المصائب والحاجة، فلا يليق به أن يظلم نفسه ويجني على زوجته وعلى أطفال ربما رزق بهم، بل يجب عليه أن يعيش فردًا يقدر على ضيم الزمان إذا أساء إليه. قال مختار: ما لنا ولهذه الفلسفة الآن، وها نحن قد قربنا من الدار؟!
وكل خبير بجحيم الأزبكية يعرف الزقاق الضيق المنحدر الذي يصعد إليه الناس كأنَّه جبل الذنوب، وهذا الزقاق مأوى البائسات اللاتي اضطرتهن الفاقة والجوع والجهل والظلم إلى بيع العرض، فبعنه بثمن بخس، وقد يمر نصف الليل ونصف نصفه الثاني، وهن جالسات على الأبواب ينتظرن رزقًا، ويغنين كما يغني العمال في المعامل لتسهيل شقة العمل على أجسامهم، وكأني بهؤلاء المسكينات قد أحسسن بثقل عملهن على نفوسهن، فأخذن يسهلنه بالغناء.
على أن هذا الزقاق هو عالم في ذاته؛ لأن فيه من دروس الحياة وهمومها وأحزانها ما ليس في مدينة كبيرة، ومن الغريب أن الزقاق جمع كل أصناف الإنسانية، ففيه المصريات والتركيات والروميات والنمساويات، فهو معرض شقاء، بل هو الخشبة الموضوعة في عين القاهرة والقاهرة لا تراها، اجتمع هؤلاء النسوة من أطراف المعمورة وقصدن باب الفجور ودار المعاصي، فاستقبلتهن تلك المدينة الفاسقة بصدر رحيب، فانزوين في أركانها كما تنزوي الأفاعي والحيات في أركان الجدار القديم وتلدغ من يأوى إليه، كم من الأسرار يحفظها ذلك الزقاق! وكم جريمة تقترف فيه! وكم مصيبة نزلت منه على الشبيبة الناشئة! وكم نفس تئن بين جدرانه فتكتم أنفاسها حوائطه! وكم نفس ضائعة تائهة ضالة أوت إلى ذلك الزقاق، فآواها وزادها ضلالًا على ضلال؟! إن هذا الزقاق شائبة من شوائب الحرية.
مسكينات هؤلاء النسوة، فما أحوجهن إلى الإشفاق والرحمة، مسكينات هؤلاء النسوة والمجتمع الإنساني في غفلة عنهن ولا يحسبهن من البشر، وكل ما جنينه أنهن ضاقت بهن الحال من زوج يسيء ولا يحسن، ودهر خان فأودى بما كان لدى الواحدة من المال، فلم تجد من يعولها، وطرقت أبواب الارتزاق فسُدت في وجهها فعمدت إلى صناعة فيها راحة وثروة، وهي جاهلة لا تدري للشرف معنى، ولا تعلم بأنها تفرط في أثمن شيء لديها.
ومررنا في طريقنا على إحدى هؤلاء النساء، ورأيت جسمها قد أكله المرض، وبلغ منها الهمُّ مبلغًا شديدًا، وهي لابسة رداءً من الحرير كأنه الكفن للأموات وعيناها تنظران إلى الأرض نظرة من خسرت تجارته وهما غائرتان، وأنفها بارز ولونها أصفر رغم كل تلك الصبغات البيضاء والحمراء والسوداء التي صبغت بها وجهها، ورأيت رجلًا من السوقة قد مر بجانبها، فشدته إليها وجذبته بملابسه، فنفر منها، فسألته أن يعطيها سيجارة، فأبى عليها وردها فتركته آسفة، أما هو فلما رأى من هي أقرب منها إلى الجمال وقف بجانبها وبقي يداعبها وتداعبه على مرأى ومسمع من تلك المسكينة.
وعند ذلك بلغ بي الهياج درجة شديدة، فقلت لمختار: أسمعت برجل صناعته الأكل والشرب، فهو لا يتناول عملًا غيرها؟ قال: كلا ما هذه الأسئلة الغريبة؟! قلت: لماذا إذن أنت تسمع بامرأة صناعتها الزنا ليل نهار لا ترفض من يقصدها في عرضها حسنًا كان أو قبيحًا، صبيًّا كان أم كهلًا، قذرًا كان أم نظيفًا، عليلًا كان أم صحيحًا، ما دام يملك من المال ما تسد به رمقها وتستر به عورتها، امرأة تزني لتأكل ولا تأكل إلا إذا زنت؟ ألا يحق للمدنية أن تخجل ويصبغ الحياء وجهها ألف مرة كلما صبغت تلك البائسة وجهها مرة لتحلو في عين من يراها من الرجال؟!
كم من أم تقود ابنتها بيمينها إلى جحيم الفجور لتسد رمقها! وكم من أب تقتل ابنته شرفه على مرأى منه ولا يمنعها؛ لأن الفقر يقتله! كم من زوج يسلم زوجته بيده لأجل أن يشبع بطنه ويستر جسمه …؟!
أشفقي أيتها الإنسانية الناعمة البال على تلك الإنسانية المعذبة، أشفقي أيتها الإنسانية على ذلك البدن النحيل وتلك النفس الضائعة وذلك القلب الضعيف من نار الخمر وآلام الأمراض وأتعاب السهر وسم الزنا!
أمطري أيتها السماء نارًا على من ينام هادئًا وفي المدينة التي يعيش بها امرأة لا تجد كسرة من الخبز أو ثوبًا من القماش حتى يجد منها الرجل الدنيء لذة!