الفصل الرابع
قال محدثي: وأنا أفكر في تلك الأمور، وإذا بمختار يقول: ها هو البيت، فرأيت بابًا صغيرًا فدخلناه، ووجدت نفسي في طرقة ضيقة فيها مصباح يتنفس، وكان مختار خبيرًا بالسلم، فصعد وتبعته حتى بلغنا بابًا في الدور الأعلى، فنقره نقرة، ففتحت الباب صبية في نحو العشرين، سمراء سوداء العينين والشعر، منبسطة الجبين، وهي كالسكارى في مشيتها ونظرتها، ولما رأت مختارًا قالت له: «أهلًا يا ابن الكلب.» وطوقته بذراعيها، ثم أدخلتنا إلى بهو كبير قذر، فيه بعض المقاعد التي يفضل الإنسان أن يقف ساعات ولا يجلس عليها، ولكني لما رأيت مختارًا جلس على أحدها جلست بجانبه، وكان على أحد المقاعد طفل صغير — وأظنه غلامًا — مستلقٍ على ظهره، وهو نائم نومًا لطيفًا هادئًا ولا أدري بماذا كان يحلم في هذه الساعة وهو في تلك الجحيم، أما هو فكان كثير الشبه بالفتاة، وقد عرفت فيما بعد أنه أخوها، ولما جلسنا هُنَيْهَة بدأت الفتاة تضحك وتمزح، وكذلك أخذ مختار في الكلام والقهقهة، ففتح الغلام عينيه، وقام مذعورًا وقد أدهشته رؤية الوجوه الغريبة، وكان على مقربة منه امرأة عجوز أظنها أم الفتاة والولد، وهي ما بين الخمسين والستين وفوقها شال من الصوف، وبين أصابعها لفيفة من طُبَّاقٍ، فلما رأت الغلام تيقظ ضمته إلى صدرها، لعله ينام وينسى ما رآه.
وبعد أن جلسنا في ذلك البهو قليلًا، أدخلتنا الفتاة إلى قاعة نومها، وهي غرفة صغيرة فيها شرفة تطل على الطريق، وفيها مقعد ومنضدة من المرمر عليها مرآة كبيرة، وصندوقات صغيرة، وإلى جانب من الغرفة قد وضع سرير مرتفع عن الأرض، ذلك السرير الذي أباحته شرائع الحرية، وقالت: «لينم عليك أيها السرير كل من ترغب فيه صاحبتك.» ولم تخط قدماي عتبة هذه الغرفة حتى خرجت منها رائحة كريهة قد سببها عدم تصريف الهواء وكثرة اتقاد المصباح فيها.
وبعد أن جلسنا لمحت في وجه مختار اصفرارًا وفي يده ارتجافًا، وبعد قليل طلب مختار خمرًا فأتى بها، وبقيت الفتاة تملأ ويشرب، وهي تحادثه بكلام كله بذاءة ووقاحة، وتخلط كلامها في كل حين بقولها: «أحبك يا ابن الكلب، أحبك …»
وإنا لكذلك، وإذا بأصوات مزعجة وصرخات متوالية، قد بلغتنا من الشرفة المطلة على الطريق، فنهضت قائمًا لأرى سبب هذه الأصوات، ونظرت وإذا أمامي امرأة مطلة من نافذة في البيت المقابل للبيت الذي نحن فيه، وهي تصرخ بأعلى صوتها وتستغيث بالناس، وملابسها مشتعلة بالنار وشعرها كذلك، وعيناها في أم رأسها، وهي صفراء كالأموات، وتحاول أن تمزق ملابسها المشتعلة فلا تستطيع، ولما رأتنا أمامها استغاثت بنا، وصرخت قائلة: «يا منيرة يا أختي خذيني.» وهذا اسم محبوبة مختار، وكانت منيرة في هذا الحين تقول: «مسكينة يا فاطمة ليس في استطاعتي ذلك، وليتني يمكنني أن أطفئ تلك النار.» ولما يئست تلك المسكينة من النجاة، ألقت بنفسها إلى الأرض، فسقطت بلا حراك وبدون أن تصرخ، وكان الناس قد اجتمعوا تحت النافذة رجالًا ونساءً، فلما رأوها سقطت فروا هاربين خوفًا وجزعًا إلا قليلًا من أخواتها في الشقاء، فإن إحداهن أخذتها على تلك المسكينة الشفقة والحنان، فأتت بماءٍ وأخذت تصبه على جسمها حتى كادت تموت حرقًا وغرقًا؛ لأن النار كانت قد أحرقت ثديها وجزءًا من وجهها، ولما أحست بالماء البارد صارت تئن والدم يخرج من حلقها، وفي ذلك الحين كان رجال الشرطة قد أقبلوا فحملوها وأدخلوها دارها.
وكل ذلك حدث في زمن قصير جدًّا، إنما كان تأثيره في نفسي شديدًا، وكذلك رأيت علائم الحزن بادية على وجه منيرة، أما مختار فقد أسف لهذه الحادثة؛ لأنها أقلقت راحته وأقلقت راحة محبوبته، وبعد أن جلسنا رويدًا دخل علينا خادم منيرة، فسألته مولاته عن الخبر، فقال: «إن هذه الفتاة فاطمة كان لها رفيق تحبه، وهو يأتي إليها كلما سنحت له الفرص، وهذا الرفيق يونانيٌّ لصٌّ، وحدث أنه أتى إليها الليلة فوجد عندها رجلًا غريبًا وكان سكران، فحقد عليها، ولكنه أظهر لها الود حتى خلا بها، فطلب منها مالًا كعادته فلم تعطه، فازداد غيظًا وضربها، فصرخت، فقذفها بالسراج، وكان الباب مقفلًا من الداخل، فلم تستطع أن تخرج واشتعلت ملابسها وشعرها بالنار، ثم جرى ما رأينا.»
وبعد ذلك بقليل استأذنتُ مختارًا في أن أذهب، فأذن لي باشًّا، فخرجت حزينًا كئيبًا.