الفصل الخامس
قال محدثي: وقد حكى لي مختار بعد ذلك يصف ليلته مع حبيبته، قال مختار: ولما خلوتُ بها بدأتُ أشرب خمرًا، وهي تشرب كذلك، وكنت في كل لحظة أميل إليها ميلًا شديدًا، وأنسى أهلي وعائلتي وشرفي، وأظن أنه ليس في الحياة إلا هذه المرأة، وحياتي بدونها تكون هباءً منثورًا، أما هي فقد غابت عيناها في أعلى جفنيها من السهر والخمر واسترخت مفاصلها، وكنت كلما يخطر ببالي أمر أهلي أو أمر المستقبل أو أمر تلك المسكينة التي أُحرقت وأُغرقت، كنت أجتهد في طرد تلك الأفكار السوداء عني حتى لا تكدر صفوي، ثم قامت منيرة وخلعت ملابسها ولبست للنوم ثوبًا من الحرير الأحمر ولم تلبس سواه، وقامت إلى السرير ونامت، فقمت وخلعت ملابسي ولبست ثوبًا من ثيابها، وذهبت إليها وقبلتها قبلة حارة، فأحسست أن نفسي تكاد تطير إليها شعاعًا … وفي ذلك الحين أحسست بسعادة غريبة، فإن القاعة المقفلة علينا والليل الهادئ الساكن وضوء المصباح وقنينة الخمر ومنيرة في السرير، كل تلك هيجت عواطفي هياجًا شديدًا.
قال محدثي: وأظن أن مختارًا في مثل هذه الساعة قد غابت نفسه عن جسمه، فانتصر الحيوان الذي فيه وصرخ طالبًا شهوته الدنيئة، ومن الغريب أن كل رجل في مثل هذه الحال ينسى كل شيء ولا يخشى عواقب ما سوف يعمله، ولا يحسب للمرض حسابًا، ولا يذكر ربه ولا دينه ولا شرفه، ولا يذكر شيئًا مطلقًا، ولو بلغه أن أباه مات أو أن الدنيا ومن عليها قد تغيرت وتغيروا أو أن القيامة قامت لا يعبأ بخبر من تلك الأخبار ولا يهمه شيء مطلقًا، وأمثال هذه الساعات هي التي تتغلب على فكر الشاب وتصغر في عينيه الفقر والفاقة والمرض وضياع الثروة والشرف، والدليل على ذلك ما حكاه مختار، فإنه قال: فكنت أملأ الكأس من الخمر وأدنو من منيرة، فأشرب وأقبلها قبلة، ثم أسقيها من الكأس، فتشرب وهي نائمة، وأقول في عقلي: يا إلهي، هل في كل النساء اللاتي خلقتهن من حواء إلى الآن امرأة أجمل من منيرة؟ كلا، كل شيء فيها جميل، في نومها وفي يقظتها، في سكرها وفي صحوها، إن نفسي طارت إليها شعاعًا …
وبعد رويد لم أعد أستطيع صبرًا عن وصالها، فصعدت إلى السرير وضممتها إلى صدري ضمة كانت فيها لذة شديدة لا يمكن أن أتصورها، ففتحت عينيها وابتسمت، فبدأت أبث لها لواعج شوقي وهي تتيه وتدل وتأبى وتنفر، وكان كل ذلك يزيدني بها تعلقًا وإليها شوقًا و… بعد أن ملكت قلبي ولبي ونفسي وجسمي، وما زلنا كذلك حتى الصباح، ولم أنم، وهي كذلك لم تنم حتى أشرقت الشمس، فغلبني التعب والسهد والغرام والخمر ورائحة القاعة فنمت، ولا أدري متى تيقظت، ولكني لما تيقظت كان السراج لا يزال مشتعلًا، ووصلت إلى أذني أصوات الناس وغاغة العجلات، فهببت ونظرت في وجه منيرة الجميل فإذا به قبيح، فتغلبت شهوتي على نظري ودنوت منها أقبلها، فشممت من فمها رائحة كريهة، وكأنها أيضًا قد شمت من فمي رائحة كريهة، فحولت وجهها عني، ثم قمنا كلانا.
وفي هذه اللحظة فقط قد شعرت بأنني أتيت مع هذه المخلوقة القبيحة الوجه القذرة الرائحة ذنبًا عظيمًا لا يغتفر، فلم أكلمها، وهي كذلك لم تكلمني، بل نظرتُ في وجهها، فلم أجد فيه تلك المعاني التي كنت أجدها فيه في الليل، أين رقتها؟ أين عيناها البراقتان؟ أين صوتها النسائي الجميل؟ كل ذلك ذهب، فرأيتها صفراء كئيبة حزينة، وقامت وأطفأت المصباح، وجلسنا بوسخ وجهنا وأيدينا وأجسامنا ونفوسنا … حتى استرحنا من النوم …
ثم قمت إلى بيت الخلاء، وكانت معدتي قد أثر بها السهر، فأصابها إمساك شديد، فعدت وقد زاد ضغط الطعام الغير المهضوم على مخي، فكنت في غيبوبة شديدة حتى كنت أكاد لا أتذكر ما صنعته وما رأيته في الليلة الماضية.
ونظرت إلى وجهي في المرآة، فإذا به أصفر وعليه نظرة حيوانية، وكنت لا أزال بثوبها فخلعته، وغسلت وجهي بماء لا أدري إن كان نظيفًا أم قذرًا، ونشفت وجهي بمنشفة قذرة قديمة.
ثم دخل علينا الخادم، وكان صبيًّا في ربيع شبابه، فلما نظرت إليه رأيته أحمر الوجه، معتدل القامة، مبتسمًا؛ لأنه نام نومًا هادئًا في هواء نقي، وليس على نفسه أثر الذنوب، فحسدته على نعمة الصحة والعافية، وأقول الحق إنني تمنيت لو أكون أنا ذلك الخادم الصغير على ما فيه من العيوب وما له من الصحة والطهر، وأن يكون هو أنا بعللي وأمراضي وقذارتي وذنوبي.
وبعد أن حيَّانا الخادم، سألنا عن طعام الإفطار، فتناولت قطعة من النقود، وسألته أن يأتي لنا بأي شيءٍ؛ لأنني لم أكن في حالة تطلب معها نفسي الأكل، وكانت شهيتي ميتة لا لشبع أو قناعة، إنما لانحطاط قواي وضعف معدتي عن هضم ما فيها.
وفي هذه اللحظة، تذكرت أيام حياتي الأولى أيام كنت فتًى صغيرًا أتيقظ بنشاط في كل صباح آكل بشهية وأذهب إلى المدرسة، ولو لم أستح لبكيت أمام تلك المرأة وهذا الخادم على أيام الماضي الجميل، يا إلهي، هل أصبحت أسير شهواتي فلا أستطيع أن أهرب منها؟ هل ذهب الماضي بشبابه وصحته وهنائه، وأصبحت في حالة تبكيني؟!