الفصل السادس
قال محدثي: قال مختار: ولما انصرف الخادم، قمت فلبست ملابسي وودعت منيرة، ووعدتها بأن أزورها الليلة في قهوة الرقص، فقبلتني قبلة عربونًا على الليلة القادمة، ونزلت، ولما بلغنا الطريق كنت كمن كان يمثل دورًا في رواية محزنة، ثم نزلت عليه الستار وخرج.
وكانت قواي وأنا سائر منتهكة حتى كادت رجلاي لا تقويان على حملي، فسرت منحنيًا، مطأطأ الرأس، بطيئًا كمن بلغ من الكبر عتيًّا.
ولكن رغم كل هذه الهموم والأحزان، كانت عواطفي لا تزال في يد هذه المرأة، كنت أسيرها؛ جسمًا وروحًا، وقد سئمت الحياة إلا بجوارها، وكرهت الناس إلا هي، فلا أكرهها ولن أكرهها إلى الأبد، أحبها على نفورها وإبائها، أحبها على ما تجلبه عليَّ من الهم والحزن! أحبها وهي تخرب حياتي! أحبها وهي بغضتني في الناس وبغضت الناس فيَّ! أحبها مع كل تلك الأمور.
يقولون إن الحب الطاهر هو الحب القوي الشديد الذي يملك العواطف ويأسر النفوس، أما الحب النجس فهو حب تشتعل به النفس أمدًا ثم تطفئ شعلته الفضيلة، فلماذا أنا أحبها أكثر من كل إنسان وأكثر من كل شيء؟ ولماذا أعبدها وأسجد لها؟! لقد سبب لي حبها لعب القمار، والاندفاع في الخمر، وجفاء عائلتي، والبعد عن أهلي. هل حبها ذنب حتى جرني إلى كل هذه الذنوب والآثام؟ نعم، نعم، أنا أحبها فلا بد من رضاها ولو نسفت الجبال نسفًا وجفت البحار جفافًا، أحبها ولو أمسيت فقيرًا مدقعًا، أحبها ولو سألت الناس كسرة خبز، إنني مدفوع بعامل أقوى من الفقر والسؤال والعقل والصبر والفضيلة، وأقوى من كل شيء، فيا أسفي ويا حسرتي!
وبعد السير قليلًا، وجدت أنني تعبت ولا بد لي من الجلوس والراحة، فدنوت من إحدى القهوات التي يجلس أمامها الناس يتحادثون ويلعبون، فجلست وحيدًا منفردًا عن الناس، وبدأت أنظر لعلي أجد صاحبًا يسليني أو صديقًا ألهو بحديثه، ولكن رأيت كل واحد منهم مشتغلًا بشئونه، وربما بينهم من هو مثلي أسير شهواته.
ومن الأسف أنني اعتدت عادة قبيحة مذمومة، وهي أن أبلع حبات مصنوعة من العنبر، فأخرجت من جيبي حُقًّا صغيرًا، وأخذت منه عشر حبات صغيرة، وبلعتها، ثم شربت بعدها القهوة؛ ليذوب العنبر ويسري في جسمي سريان الدم في العروق، ولم يكن هذا أول يوم بلعت فيه حبوب العنبر، ولكنني اليوم فطنت لأمرها، وعلمت أنني آكل سمًّا بطيئًا، فلما خطر ببالي هذا الخاطر صرفته عني؛ لئلا يكدر صفوي، وقلت إن الحياة القصيرة اللذيذة خير من الحياة الطويلة المنغصة المملة، وماذا يهمني لو مت شابًّا أو شيخًا، ثم قمت فسرت قليلًا، وخطر ببالي أن أذهب إلى دار أمي وأختي؛ لأنني لم أكن قد رأيتهما منذ يوم وليلة.