الفصل السابع
قال محدثي: ويليق بي أن أذكر لك شيئًا عن تاريخ عائلة مختار؛ لتقف على أخبار حياته الأولى، كان أبوه موسى بك … من سلالة عائلة كبيرة عريقة في المجد، وهو تركي الأصل، أتى جده إلى مصر مع من أتوا منذ مائة عام، وكان جده مقربًا من أمير كبير، فوهب له الضياع وأجرى عليه الأرزاق، وأكرمه بعد أن أغناه.
وكان موسى بك أبو مختار قد نشأ في النعيم ودرج في حجر السعادة وذهبت عنه خشونة الترك، وفي كلمة واحدة نشأ كما ينشأ أهل الطبقات العالية في كل الأمم، قوي الجسم، ضعيف النفس، محبًّا للشهوات، لا غرض له إلا السرور، مدفوعًا إليه بطبيعته، وأدخله أبوه المدرسة تقليدًا لغيره من أبناء الأكابر لا حبًّا في العلم، فلم يربح الولد شيئًا، وخرج من المدرسة أجهل منه لما دخلها.
وقد أكسبه وجود عائلته في مصر زمنًا طويلًا رقة في الطباع، ولينًا في العريكة، وخمولًا وكسلًا، وكان أبوه يأمر بالصلاة والصوم، فكان يظهر أمام أبيه بالتقوى والورع؛ لأنه رأى أن أباه في آخر أيامه، واستحسن أن لا يكدر عليه ما بقي من حياته بمخالفة أوامره؛ لأنه لم يكن له إخوة، وكان أحب الناس إلى أبيه.
وأخيرًا مات أبوه، ذلك العجوز القديم المحب للقديم، التقي الورع، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، فأحس موسى بأن حملًا كبيرًا كان على ظهره رفعه الموت، ولكنه كان يحتشم إكرامًا لأمه ويظهر أمامها بالخضوع، ولكن أمه كانت مريضة، وقد بلغت من الكبر عتيًّا، فلم تبق بعد أبيه طويلًا حتى لحقت به، فخلا الجو لموسى بعد موت أبيه وأمه، لا سيما ولم يكن له إخوة ولا أخوات ولا أقارب ينازعونه الإرث الهائل الذي وصل إليه بموتهما، فجال وصال في ميدان اللهو واللعب، وأسرف في ماله، وفتح داره للغادات والغواني وغيرهن، وأولم الولائم، وفرط عقد الاحتشام، وعقد لواء الأنس، ولم يدخر وسعًا في الجري وراء الملاذ، ولم تفر منه فرصة السرور، ولو كلفه ذلك ما كلفه، وكان أبوه المسكين قبل موته بأيام قلائل يفكر في زواجه بمن تصلح له من الفتيات الكريمات، ولكن مات الرجل ومات أمله ودفن معه في قبره.
وكانت لموسى بك أبي مختار ضياع وعمارات وديار وحوانيت في القاهرة، فأتى على أغلبها بيعًا ورهنًا.
ويلوح لي أن ظواهر المدنية التي دخلت مصر منذ ثلاثين عامًا، بهرت عيون أهلها؛ لأنهم هبُّوا من نومهم فوجدوا القاهرة في عهد إسماعيل كباريس في عهد لويس السادس عشر، وجدوها زاهية، زاهرة، فيها الملاعب والملاهي، الحرية ضاربة أطنابها، الطرق الفسيحة المضاءة بالأنوار، الحدائق الغنَّاء والقصور الباذخة فيها ما فيها، النيل يرقص ويصفق، وأبو الهول يضحك، لا خوف … لا وجل … أمان أمان … حرية … حرية … حرية، رقص، لعب، لهو. اضحكوا يا مصريون، العبوا يا قاهريون، هذا عصر المدنية، فاعبثوا فيه كما تشاءون …!
فلم يكن موسى بك هو الشاب الوحيد الذي جن بتلك الزخارف، بل كان المسكين سفينة ضالة في بحر السرور، تقذف بها الأمواج وتزفها الرياح كما تشاء، فتكسر قلوعها وتقطع حبالها، وكذلك ضاعت ضياع موسى ودياره وحوانيته وعماراته إلا قليلًا، وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره، كل ذلك وهو لم يتنبه من غفلته ولم يحسب للفقر والفاقة حسابًا، ولكنه سئم تلك الحياة المضيعة، وتاقت نفسه إلى شيء من السكون والراحة بعد الجري وراء الملاذ، فعقد نيته على الزواج، فطرق أبواب الأغنياء يلتمس منهم فتاة تتزوجه معتمدًا على شرف عائلته واسم أبيه وجده بعد أن أضاع أغلب ما كان له، فردوه وطردوه بعد أن علم كل الناس أنه سيئ السلوك لا يصلح للحياة العائلية، فلم يشاءوا أن يضحوا ببناتهم لأجله، فعاد المسكين بصفقة المغبون، وليس في يده صنعة يتسلى بها، وليس في داره إلا الخدم، وليس له قريب يحنو عليه، فعدل عن الزواج، ولكنه بعد قليل استأجر امرأة تخدمه، وكأني به قد انتقاها جميلة لتقوم بأغراضه، وأغلب هؤلاء الخادمات نساء فاسدات، وقد خان إحداهن في عفتها شرير، ثم رمى بها في ديجور الحياة، فخرجت ضالة لعل غيره يعثر بها.
وقد قرَّب موسى تلك الخادمة من فراشه، وما زال يداعبها ويجود عليها بالمال ويعدها بالخير، ويحبب نفسه إليها حتى قضى منها وطرًا … وحملت منه، فلما ظهرت عليها علائم الحمل، حادثته في الأمر، وأشارت عليه بأن يأتي إليها بدواء يهلك الجنين في بطنها، فلم يقبل بذلك، وقال لها: «إني كفيل بتربيته.» وبعد تسعة أشهر وضعت تلك الخادمة طفلًا ضعيفًا هزيل البدن مملوءًا بالأمراض والسقام التي جناها عليه أبوه، وهو يرتع في جحيم الزنا، ويجرع من سم الخمور.
هذا الوليد هو مختار المسكين الذي جنى عليه أبوه وما جنى هو على أحد، ولما جاء ذلك الغلام أحبه أبوه كثيرًا وزاد في إكرام أمه، وبعد ذلك بعام حملت المرأة ثانية ووضعت بنتًا، ويظهر أن الرجل بامتناعه عن الزنا والخمر وما يتبعهما مدة عامين وباعتكافه في داره بعد أن هذبته الأيام والليالي، قد حسنت صحته واعتدل في حياته، فجاءت البنت أصح وأجمل من الولد الأول الذي كان دائمًا حليف الأمراض والسقام حتى يئس أبوه من حياته.
وبعد أن وضعت المرأة تلك البنت، عقد الرجل نيته على زواجه بها، وكان ذلك، وأصبحت حليلته بعد أن كانت خادمته وخليلته، ونمت البنت ودرجت، وأما الولد فكان في كل يوم في حاجة إلى الطبيب والعقاقير، وأخيرًا وضع يده في يد أخته وانتصب قائمًا على قدميه، وسار أول خطوة من خطواته، ففرح به أبوه فرحًا شديدًا وسُرَّت به أمه؛ لأن مختارًا كان ذكرًا، وهو أكبر الطفلين وحياته ضرورية لبقاء نسل العائلة الكريمة … ولو علم الرجل وزوجته بماذا كان يخبئ الدهر لذلك الطفل المسكين وأخته لبكيا بكاءً مرًّا بدل أن يفرحا.
وما زال الطفلان ينموان تحت ظل أبيهما، وهو الرجل الساقط الذي لم يرجع عن الذنوب إلا تعبًا منها، وأمهما وهي تلك المرأة الساقطة الجاهلة، حتى بلغ الولد العاشرة من عمره، والبنت التاسعة من عمرها، وكان من يرى الطفل لا يظنه إلا ابن خمسة أعوام لنحافته ورقته وخموله، وعند ذلك بعث به أبوه إلى مدرسة الذكور وبأخته إلى مدرسة البنات.
وكان مختار في المدرسة تلميذًا متوسطًا قادرًا على عمله، ولكنه لم يكن قادرًا على الجري والقفز والطفر والمسابقة وباقي الألعاب الجسمانية؛ لأن جسمه كان ضعيفًا جدًّا، وكان لا يتمم عمل سنة في سنة، بل كان يحتاج إلى سنتين.
ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره نال شهادة، فسعى أبوه إلى إلحاقه بوظيفة كتابية صغيرة في إحدى دوائر الحكومة، ثم رد البنت إلى خدرها.
وفي ذلك الحين كان الرجل بلغ الخمسين من عمره، وقضى الدهر غرضه ولم يبق عليه إلا أن يسلمه إلى الموت، وفي ليلة من الليالي، شكا الرجل من ألمٍ في كبده ونام ولم يقم، مات موسى بك أبو مختار وترك أرملة وشابًّا وفتاة لم يكن لهم في الدنيا سواه، وهكذا طويت صحيفة مملوءة بالذنوب، ومثل ذلك التعس دوره في ملعب الحياة، وسدلت عليه الأبدية ستارها، ولا ندري ماذا يكون من أمره، وقد ترك موسى لعائلته الدار التي كانوا يسكنونها وبيتين آخرين وعشرين فدانًا، وكانت المرأة قد هذبتها الأيام، فأمست حكيمة مدبرة، فوضعت يدها على تلك الثروة القليلة وسهرت على عفاف بنتها، ولم تسكت يومًا عن نصح ابنها، وكان أبوه قبل موته قد عرض عليه الزواج فلم يقبل، ووعده بأنه سيتزوج بعد عامين، فلما مرت السنتان عادت أمه فألحت عليه بالزواج، فأبى واستكبر، وليت أباه قص عليه قصته في شبابه وأراه ما ينتهي إليه أمر الشباب الذي يندفع في تيار الشهوات والملاذ، وأظنه خشي أن ينبه الولد إلى الذنوب وحسبه صالح القلب نقيًّا طاهرًا، فوقع الولد في الحفرة التي وقع فيها أبوه من قبل، على أن أمه نبهته إلى شر الزنا والخمر، وضربت له الأمثال وقصت عليه القصص، فلامها على سوء ظنها به، وقال إنه معتدل السير، ليس يحتاج نصحًا.
ولكن كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟ وكيف يعيش مختار عيشة هادئة صالحة، وأبوه كان من قبله منغمسًا في جحيم الذنوب، ولقح ابنه وهو في بطن أمه بجراثيم الشر، فسرى مرض الانحطاط الأدبي في عروق الجنين.
وليس من الصعب أن يسقط الشاب المستخدم في بلادنا إلى أسفل دركات الانحطاط، فإن مختارًا كان مستخدمًا، ورأى أن له عشرين فدانًا وثلاثة بيوت، ولم يعلم شيئًا من ماضي أبيه، فظن نفسه غنيًّا كبيرًا، واستسهل كل شيء، وخالف أمه فيما كانت تلقيه عليه من النصائح؛ لأنه لم يكن في رأسه من العلم ما يردعه عن غيه، وقلما تجدي النصائح والنفس ضائعة تائهة، فرفض مختار أمر الزواج لما عرضته عليه أمه؛ لأنه خشي أن تقيده زوجته بالبنين والبنات، وهو لا يزال شابًّا، والتف حول مختار قليل من الأصحاب المفسدين، وما زالوا به حتى زنا ولعب القمار، وحتى كره داره وأبغض أمه وأخته، وكان يخرج فيغيب عنهما يومًا أو يومين، فلا كانت أمه تستطيع أن تسأل عليه في مركز عمله ولا كانت تطيق فراقه، فكانت تجلس وتبكي وتقضي ليلتها ساهرة، حالما يكون مختار ينتفض كالعصفور بين أيدي حبيبته، أو يشرب السم في حانة الخمَّار، أو يخسر المال في ملعب القمار.