الفصل الثامن
قال محدثي: ولما خطر ببال مختار في هذه الليلة أن يزور أمه ذهب توًّا إلى الدار، فلما رأته أمه عانقته وبكت بكاءً مرًّا، وطفقت تقبله بين عينيه، وأخذت أخته تلومه على غيابه ونسيان أهله وداره، ولكن أين القلب الذي كانت تذيبه تلك القبلات؛ قبلات الأم والأخت؟! وأين الوجه الذي كان يحمرُّ خجلًا لعتابهما؟! أين ذلك القلب الذي كان يقطر دمًا إذا رأى مختار أمه تبكي؟! فسد ذلك القلب ومات، وإن لم يكن قد مات فقد خنق الحب كل العواطف الشريفة التي كانت فيه، وداس الحب النجس — حب المرأة الساقطة على هامة الحب الطاهر — حب الأم والأخت، وبذلك انتصرت الرذيلة على الفضيلة تحت لواء الحرية.
وسألت مختارًا أمه قائلة: أين كنت يا ولدي؟ فإن قلبي كاد يذوب لفراقك ولم أنم الليلة الماضية بطولها، ألا يليق بك أن تخبرنا قبل غيبتك حتى نطمئن عليك وتهدأ نفوسنا؟
ومن الغريب أن هذه الكلمات المملوءة بالود والحب الجديرة صاحبتها بالإكرام لم تجد من قلب مختار مكانًا، ولم تلق من أذنه مسمعًا، فنفر من أمه، وقال لها: وماذا يهمني إذا أخبرتكما أم لم أخبركما؟ فقالت أمه: أنت لا تعلم مقدار حبنا لك، ألستُ أنا التي ربيتك حتى صرت رجلًا، والآن تضنُّ عليَّ بمبيتك ليلة بيني وبين أختك، ثم همت أخته وقالت وقد دفعها نزق الشباب: أين كنت الليلة الماضية؟ لماذا لا تتزوج فتصون مالك وصحتك؟! …
قال محدثي: وقد حكى لي مختار أنه لما سمع ذلك الكلام غلى دمه في عروقه من الغيظ، وعدَّه إهانة، وغضب غضبًا شديدًا، وقابل أخته بالشتم والسبِّ لأول مرة في حياته، وقال لي إنه كان ينوي ضربها، ولكنه تغلب على نفسه، ووبخ ضميره على إهانة أمه وأخته، وقضى ليلته في بيته، ولكن كيف قضاها؟ إنه كان مشتت الفكر، مروع القلب، قلق البال، يفكر طول ليله في منيرة، ويخشى أن تحب غيره في غيبته، أو أن يحبب غيره نفسه إليها بالمال، وكان كلما مرت عليه ساعة يُحدِّث نفسه بالقيام والذهاب إليها في مرقصها أو في دارها أو في أي مكان كانت.
وقد اعتاد مختار على السهر، فلم يستطع أن يدخل فراشه قبل الساعة الثانية بعد نصف الليل، وقبل هذه الساعة بقليل لاحت منه التفاتة، فرأى منضدة كان يجلس أمامها أيام كان في المدرسة، ولا ندري ماذا حركت تلك الذكرى في قلبه من الأفكار، إنما قال لي إنه أخرج منديلًا ومسح دموعه التي سالت من عينيه، عندما ذكر أيام المدرسة، أيام الطهارة والعفاف والسعادة المنزلية.
وهنا يخطر لنا سؤال في غاية الأهمية، وهو لماذا لا يعود مختار عن الشر وهو في مثل هذه الحال بعد أن حنَّ إلى الحياة الأولى؟ لماذا لا يكره المرأة، ويتوب عن الخمر والقمار، ويعود إلى حضن أمه وجانب أخته، ويتمتع بالسعادة التي فقدها، ويرد لجسمه صحته ولكيسه ماله ولاسمه شرفه؟
والجواب على ذلك هو أن مختارًا كان مساقًا رغم أنفه، كان محذوفًا في تيار الشر بدون إرادته، وأمسى المسكين أسير شهواته لا يملك لنفسه قيادًا، هل يصلحه العلم؟ كلا. هل تصلحه الإرشادات والمواعظ؟ كلا. هل يصلحه أبوه إذا قام من القبر؟ كلا. أظن أن الذي يصلحه امرأة فاضلة صالحة كاملة يتزوج بها، فتأخذ حمله عن كتفه وتطلقه من قيد الشر، وتأتي له بطفل ترشده يداه الصغيرتان إلى طريق السعادة. قام مختار بملابس النوم التي كان جالسًا بها في قاعة الاستقبال، وتمشَّى في الدار، فمر بقاعة النوم التي كانت بها أمه وأخته، فسمع شهيقهما وزفيرهما، وهما تغطان في المنام، وكان في قاعة النوم صورة لأبيه كبيرة، فحدثته نفسه بالدخول، فدخل، وكان نور المصباح الذي في غرفة النوم قويًّا، ونظر إلى الصورة ورأى جسم أبيه النحيل ووجهه الضئيل وعينيه الضعيفتين وجبينه الضيق وأذنيه الرقيقتين.
ولم يلبث مختار وهو يتأمل في صورة أبيه طويلًا حتى عاد إلى الوراء فزعًا مرعوبًا؛ لأنه خُيل له أن أباه يفتح عينيه ويقفلهما، فصرخ مختار صرخة عالية ووقع على الأرض.
وتصل تلك الصرخة إلى أذن أمه وأخته، فتهبَّان من منامهما، الأولى فزعة مضطربة وقلبها خافق ودموعها سائلة خوفًا على ابنها؛ لأنها ظنته مات أو جُن، والثانية مروعة فاقدة الرشد، أما أمه فلما رأت مختارًا ملقيًّا على الأرض دنت منه وحركته، فتحرك ونظر إليها قائلًا: أبي! إن أبي يتكلم! وكانت تلك المرأة الجاهلة المسكينة مريضة بداء القلب، وقد حدث في هذه الأيام ما حرك عليها داءها، فإن غياب مختار أمدًا طويلًا أقلقها وعكَّر صفوها، ثم غضبه الليلة عليها قد زاد قلبها تعبًا، وأخيرًا صرخة مختار وكلماته التي ظنت منها أنه جن قد أتت على آخرها، فسقطت على الأرض وأصابتها نوبة قلبية شديدة، فبقيت تتنفس بألم شديد، واصفرَّ وجهها، وشخصت عيناها إلى السماء، فأتت إليها ابنتها وأجلستها على مقعد على مقربة من النافذة وفتحت النافذة لدخول الهواء، وكانت المسكينة تتطلب النفس من الهواء النقي — على كثرته — فلا تجده، وتشنجت أعصابها وتصبب جبينها عرقًا، وعند ذلك أيقظت أخت مختار خادمًا صغيرًا كان في الدار، وبعثت به إلى دار طبيب كان على مقربة، وبعد هُنَيْهَة أتى الطبيب وكان مختار حينئذٍ قد أفاق من غشيته، ونظر الطبيب إلى المريضة فلم يجد لها مخرجًا من تلك النوبة القلبية بغير الحقن بالمورفين فحقنها، وقد حسنت حالها عقب تلك العملية، ولكنها بقيت طول ليلها تتنفس بشدة، وسهرت ابنتها بجانبها تصلح لها الطنافس والوسائد، وقد كانت هذه الليلة من أسود الليالي التي رآها مختار في حياته.