الفصل التاسع
قال محدثي: ولما كان الصباح حسُنت صحة الأم المسكينة قليلًا، وعادها الطبيب مرة ثانية، وأمر مختارًا بأن لا يفارقها لحظة؛ لأنه قال: إن وجوده بجانبها يساعد كثيرًا في شفائها.
وفي الليلة الثانية لم يستطع مختار أن يبقى في الدار كما أمره الطبيب؛ ولذلك خرج في عصر النهار، ووعد بأنه سيعود في نصف الليل.
وفي ذلك الحين ذهب إلى حبيبته في المرقص، فقابلته بالترحيب وسألته عن سبب غيابه عنها وعنفته على هجرها وهددته بالغضب والنفور، فحكى لها قصته فتهكمت عليه، وقالت إنه يكذب عليها وإنه أحب غيرها وإنه … وإنه … وقالت أخيرًا إنه إن لم يبق معها طول الليلة لكان ذلك أكبر دليل على جفائه وهجره.
وعند ذلك وقع مختار في حيص بيص، هل يترك أمه المريضة التي أمره الطبيب بملازمتها، فربما ماتت وهو بعيد عنها؟ أم يترك حبيبته ونور حياته التي تظن أنه كرهها وهجرها، وهذان أمران أحلاهما مر، ولكن يظهر أن قلبه حدَّثه بأن شيئًا هائلًا سيحدث الليلة، فاعتذر إلى منيرة وأعطاها دينارًا وسلَّم عليها وانصرف عند نصف الليل، وقد حكى لي مختار بعد ذلك ما رآه في داره، قال: ولما بلغتُ الدار لقيت عليها علائم السكون والوحشة، وهذا ما لم أكن أره من قبل، ولما فتح الخادم الصغير الباب، رأيته يبكي، فسألته عن سبب بكائه، فقال إن سيدتي الكبيرة في ألم شديد، فنهبت السلم نهبًا ودنوت من قاعة النوم، فرأيت ويا هول ما رأيت! رأيت أمي راقدة على سريرها وحولها أختي وبعض النسوة من جيراننا، ورأيت بجانب السرير المنضدة التي كنتُ أجلس عليها وأنا في المدرسة وعليها زجاجات الدواء، فلما رأتني أختي صرخت وبكت بكاءً مرًّا وشاركها النساء في البكاء، وإني لو عشت ألف سنة لا أنسى تأثير هذا الموقف المحزن، فسألت أختي عن حال أمي، فقالت إنها في الغروب، اشتد عليها المرض، وقطع الطبيب منها الأمل، وعند ذلك سمعتُ الحشرجة في صدر أمي، فدنوت منها فإذا بوجهها أصفر وعيناها متجهتان نحو السماء ولم أرَ فيهما نورًا، فخفق قلبي خفوقًا شديدًا، وصرختُ قائلًا: آه يا أمي، فبكت أختي وبكى كل من في المكان، ثم وضعت يدي على يد أمي وكلمتها، فلم تجب، ولم أسمع سوى الحشرجة التي كانت تزداد في كل لحظة والعرق كان يتصبب بشدة على جبينها البارد، ولكنني لما لمستها رأيت إنسان عينها اليمنى يتحرك نحوي، وعند ذلك تقدمت امرأة عجوز وتناولت قدحًا من الماء وبقيت تقطر منه في فم أمي وتضع منه على جبينها البارد، فدنوت من ذلك الجبين وقبلته …
وبعد هُنَيْهَة وصل الطبيب الذي كان يعالجها، ثم حقنها بالمورفين ثلاث مرات، ثم نظر إلى الحاضرين، وقال بعد أن جس نبضها: بقي نصف ساعة، ثم تركنا ونزل ونحن بين باكٍ ومفكرٍ وحزينٍ …
ثم سكتت الحشرجة، وانتهى ذلك العراك العنيف بين النفس والجسد، وصعدت نفس أمي إلى ربها وتركت جسمها خامدًا لا حراك به.
فهاج الناس وماجوا، وانقلبت قاعة الموت من السكون والتأمل إلى الصراخ والعويل والبكاء، وفي الحقيقة لم يكن في القاعة باك بقلب كسير غير أختي التي أحست بالسهم الذي أصابها به الزمن بموت أمها، فإنها جلست في ركن ووضعت رأسها بين يديها، وبقيت تبكي وهي شاخصة إلى جثة أمها تارة وطورًا إلى صورة أبيها، كأنها تقول: هذان جنيا علينا وما جنينا على أحد، وبعد قليل خرجتُ أضرب في ظلام الليل الحالك لأجهز لزوم المشهد.
•••
ولم يكن يظن مختار بأن أمه غالية، وأنه يوم دفنها دفن معها في التراب كل راحة وهناء، فلما ماتت وعاد إلى داره ولم يجد فيها غير أخته والخادم الصغير علم حقيقة أنه فقد بموت أمه نعمة عظيمة كانت عنده ولم يكن يقدرها حق قدرها، أما حال أخته فكانت محزنة للغاية؛ لأن أمها كانت رفيقتها الوحيدة، وهي التي كانت تؤنسها في وحشتها، فلما ماتت تركتها بلا مؤنس ولا رفيق فريسة للهموم والأحزان.
وأما مختار فقد أثرت حال أخته فيه قليلًا وتحركت في قلبه عواطف الشفقة والحنان، فكان يلتمس أوقات أنسه مع حبيبته في النهار، فكان يخرج من محل عمله إلى دار معشوقته فيجدها في سبات عميق فيوقظها ويتغدى معها، ثم يصرفان بقية النهار في السرور والأنس، ويبقى معها حتى تذهب إلى مرقصها فيصحبها ويلازمها هناك حتى نصف الليل ثم يعود إلى أخته.
ولم يكن لمختار وأخته أقارب أو أصحاب تذهب إليهم أو يأتون إليها في غيبته، فكانت طول يومها حليفة الهم والأسى وطول ليلتها حليفة الأرق والسهاد.