مقدمة الكتاب
عندما كنت أؤرخ للحركة القومية في العصر الحديث، رأيت أن عظمة مصر القديمة — مصر الفرعونية — تستهوي الباحثَ لاستقصاء تاريخها، وخاصةً حين طالعت ما نشره علماء الحملة الفرنسية منذ أوائل القرن التاسع عشر عن أمجادِها ومفاخرِها، وما رسَمُوه في مجموعاتهم ومُصوَّراتهم من آثارها الخالدة، ولقد كان هؤلاء العلماء أولَ من كشفوا عن هذه الآثار كشفًا علميًّا، وكنت وأنا أطالع هذه الكشوف أتساءل: ألم تكن في مصر القديمة حركة قومية يصحُّ أن تكون أساسًا لتاريخِها على غرار الحركة القومية في تاريخها الحديث؟
•••
لقد كنت موقِنًا بأن ما بلغَتْه مصر القديمة من التقدُّم والحضارة والعظمة، لا بدَّ أن يكون له أساسٌ قوميٌّ هو عماد الحركة القومية، وهذا ما يقتضي البحث عنه وتدوينه، ولكني أرجأت هذا البحث حتى أستوفي تاريخ الحركة القومية في العصر الحديث، فلما أتمَمْتُه بعون الله عاودَتْني فكرة التأريخ للحركة القومية في مصر الفرعونية. فأخذت أعيدُ النظر فيما كنت أقرؤه عنها، وأتعمق في دراسة المسائل التي تتصل بها، وأرجع إلى المصادر التي طالعَتْني بها قراءاتي السابقة وأزيد عليها مُشاهَداتي اللاحقة، وخلُصَتْ لي من ذلك كله صورةٌ واضحة المعالم لهذا التاريخ أود أن أعرضَها في هذا الكتاب، وإذا شاءت عناية الله فسأُتبعها بصور أخرى للحركات القومية التي تعاقبتْ على البلاد حتى قُبيل العصرِ الحديث.
•••
والحركة القومية كما قصَدْتها وعنَيْتها، هي الجهود التي بذَلها الشعب المصري بمختلف طبقاته في سبيل تكوين مصر الحرة المستقلة، والذَّوْد عن كيانها، والدفاع عن استقلالها، والثورة على كل من يعتدي على هذا الاستقلال ومقاومته بكل ما أوتيتْ من حَولٍ وقوة.
والتاريخ القومي للأمة لا يستكمل مدَاه إلا إذا كان مَدروسًا ومعروضًا على ضوءِ الحركة القومية، فهي أساس وجودها، ومبعثُ نهوضِها وتطورها.
وإذ كان هذا هو جوهر الحركة القومية، فأجدَرُ بمصر القديمة أن يكون لها النصيب الأوفى والأوَّل في هذا التاريخ.
•••
فلقد كانت أسبقَ الأمم إلى تحقيق استقلالها، وتأسيس حكومة نظامية ترعى هذا الاستقلال وتضطلع بمقوماتِ الحضارة منذ عصور متناهية في القِدَم، ولا غروَ فتاريخها هو تاريخ الإنسانية.
ولقد حققتْ وحدتَها القومية سنة ٣٢٠٠ قبل الميلاد، حين استطاع الملِك «مينا» أن يضمَّ الوجهين البحري والقبلي، ويجعل منهما دولة موحدة كانت أعرقَ الوحدات القومية ظُهورًا في التاريخ.
ومن يومئذٍ تتابعت الأُسرات الملكية في ظل الوحدة وسارت بالبلاد قُدُمًا إلى الأمام، ولم يسكت الشعب عن ضَيْمٍ أصابه، وظل طُوال القرون يُناضل عن استقلاله ويرد عنه كيد المعتدين والغاصبين، وهذا أول ما عُنيت بإبرازه في صحائف هذا الكتاب.
يُحصي المؤرخون الأسرات الملكية المصرية بثلاثين أُسرة، يقسمونها إلى ثلاثةِ عهود هي: الدولة القديمة، تليها الدولة الوسطى، ثم الدولة الحديثة، وقد سِرتُ على هذه التسمية في إبراز الحوادث الهامة التي لها علاقة بالحركة القومية.
•••
ففي أواخر عهد الأسرة السادسة من الدولة القديمة، قامت ثورة اجتماعية شعبية ظهرتْ لها نتائجها وآثارها على تعاقُب السنين.
وبسقوط الأسرة العاشرة بدأت الدولة الوسطى من الأسرة الحادية عشرة إلى السابعة عشرة، ثم تَلَتْها الدولة الحديثة من الأسرة الثامنة عشرة إلى الأسرة الثلاثين.
وفي عهد الأسرة الثالثة عشرة رُزئت البلاد بالغزو الهكسوسي الذي عصَفَ باستقلالها، واستمرَّ يعبث به ردحًا من الزمَن، ثم لم تلبث مصر أن نهضتْ من كَبوتها وخاضتْ معركة الحرية، وطردَت الهكسوس سنة ١٥٧٠ قبل الميلاد على يد «أحمس» الأول مؤسس الأسرة الثامنة عشرة.
•••
وكان تحرير البلاد من الهكسوس قد غرَسَ في النفوس روح القومية، وحفَزَها إلى غزو معاقلهم في فلسطين وسورية ولبنان، فشنَّتْ مصر عليهم وعلى حُلفائهم في عهد الدولة الحديثة حروبًا دفاعية بقيادة «تحوتمس الثالث» بطل معركة «مجدو» سنة ١٤٧٩ قبل الميلاد، واستمرَّتْ هذه الحروب عدة سنين حتى اطمأنَّت مصرُ على كيانها، ومن ثم اتسعت رقعتُها فامتدَّتْ حدودها من أعالي الفرات شمالًا إلى الشَّلال الرابع على النيل جنوبًا.
ثم ظهرت أطماع الدول المعادية لها وأخذوا يَنتقصونها من أطرافها، وينالون من وحدتها، حين آنسوا منها ضعفًا وانقسامًا في جبهتها الداخلية، فثبتت لهذه المحاولات، وامتاز عهد رمسيس الثاني بحروبه الدفاعية في سبيل حفظ كيان الدولة المصرية، وسار على نهجه خلفاؤه.
وتجددت الأطماع، واستطاع الآشوريون أن يُغِيروا على مصر ويحتلوها.
ثم لم يلبث الشعب أن أَجْلاهم عنها في عهد «أبسماتيك الأول»، وعادتْ لها حريتها واستقلالها.
•••
وظلت على ذلك إلى أن نُكبت سنة ٥٢٥ق.م. بالغزو الفارسي، ولم يكن هذا الغزو الذي قاده قمبيز بمُضيِّعٍ كيان مصر أو مضعضع لمكانتها التي نالَتْها على تعاقب القرون. فإذا قارنَّا هذا الغزو بما أصاب الإمبراطورية الرومانية حين استَهدفت في القرن الخامس بعد الميلاد لغَزَوات أقوام من الهمَجِ انقضُّوا عليها فدمروها ودكُّوا معالمها ومزقوا أوصالها، نجد أن مصر على العكس قد صمدتْ للغزو الفارسي واحتفظت بكيانها وطابعها القديم، ولم تستسلم للمحتلِّ المغير، بل ثارتْ عليه المرة بعد المرة، إلى أن جاء الإسكندر المقدوني يحارب الفُرس ويصادق المصريين، فهزم دولة الفرس وقوَّضَ أركانها واستولَى على عاصمتها.
•••
وهناك احتلالان قرأت في بعض كُتُب المؤرخين أن مصر القديمة استَهدفَتْ لهما، فقالوا عنها: إنها خضعت يومًا للحكم الليبي، ويومًا آخر للحكم الإثيوبي، ولم يكن قولهم هذا قرينَ الحق والصواب، فقد زعموا أن الأسرة الثانية والعشرين التي أسَّسها «شيشنق» في القرن العاشر قبل الميلاد هي أسرة ليبية أجنبية حكَمت البلاد زمنًا طويلًا، والصَّحيح أن «شيشنق» هذا وإن كان من أصل ليبيٍّ، ولكنه تمصَّر ومن قبله تمصَّرَ أسلافه منذ عدة قرون، ومضَتْ عليهم بعد أن تمصروا أجيال وأجيال فصاروا من صميم المصريين، وقد كان حكم «شيشنق» مصريًّا خالصًا لمصر أعاد إليها بعض ما كان لها من عزٍّ وسؤدد، واحتل فلسطين واستولى على أورشليم (بيت المقدس) واستخلصها من اليهود، واستَردَّت البلاد بفضل حملاته الموفقة نفوذَها في آسيا، وورد اسمه في التوراة لمناسبة حروبه مع الإسرائيليين.
وقال بعض المؤرِّخين أن «يبعنخى» أسَّس في القرن الثامن قبل الميلاد الأسرة الخامسة والعشرين، ووصفوه ووصفوا أسرته بالإثيوبيين وزعموا أن إثيوبيا حكمتْ مصر في عهدهم.
والحق أن «بيعنخى» هو من النوبة لا من إثيوبيا، وأصل أسرته من كهنة طيبة الذين هاجروا إلى الجنوب، والنوبة جزء لا يتجزأ من مصر وفيها الآثار الخالدة للفراعنة التي يتحدَّثُ عنها العالم المتحضر كل حين، فهم إذن من صميم المصريين، فلا هم إثيوبيون، ولا النوبة من إثيوبيا، وأسرتهم مصرية لا شك في مصريتها، والقول بأن إثيوبيا حكمتْ مصر يومًا يتعارض مع الحقائق التاريخية والجغرافية، وإطلاق اسم إثيوبيا على النوبة هو خطأٌ انساق إليه بعض الرحَّالة الإغريق.
•••
ولئن كان الحديث عن مصر القديمة أو مصر الفرعونية ينتهي على أرجَحِ الآراء بالغزو الفارسي؛ فتاريخ مصر الخالدة يقتضي أن أستطرد إلى ذكر الثورات المصرية التي شبَّتْ في وجه الفرس، ثم استمرار هذه الثورات في عهد البطالمة، ثم في عهد الرومان، إلى أن حرَّرها الفتح العربي من الاحتلال الروماني سنة ٦٤١م/١٨ﻫ وبه ينتهي هذا الكتاب.
وأرى من واجبي أن أنوِّهَ بفضل العلماء المصريين والأجانب الذين سبَقُوني إلى الكتابة في تاريخ مصر القديمة، وقد ذكرتُ بعض مؤلفاتهم في مراجع البحث اعترافًا بفضلهم وتقديرًا للجهود التي بذَلوها لإنارة السبيل لمن يجيئُون بعدهم، وإذا كان الموضوع الذي عالَجْته مقصورًا على تاريخ الحركة القومية، فإن ما كتبوه واستقصوه كان شاملًا لكل نواحي التاريخ، فلهم الفضل أولًا وآخرًا.
هذه نظرة عامة على الكتاب، قصدت منها التعريف به إجمالًا، وسيجد القارئ في فصوله توضيحًا لما أجملت وتفصيلًا لما أوجزت.
والله ولي الهداية والتوفيق.
عبد الرحمن الرافعي