تحرير مصر من الاحتلال الآشوري
كانت الدولة الآشورية من أقوى دول ما بين النهرين (دجلة والفرات)، وعاصمتها «نينوى».
وقد اتجهت أطماعها الاستعمارية إلى غربي آسيا، في القرن التاسع قبل الميلاد.
ولما جلس «سرجون» الثاني على عرش هذه الدولة حوالي سنة ٧٢٢ق.م تفاقمت أطماعها، وكانت مصر قد أمدَّت الأهلين في فلسطين وسورية ليقاوموا الغزو الآشوري.
فنقم منها «سرجون» هذا الموقف، وزحف على فلسطين ومنها إلى مصر، فبلغ «رفح» ووصل إلى الحدود المصرية، والتقى بقوات مصرية تعاون الفلسطينيين، فردَّته على أعقابه ورجع عن محاولة غزو مصر.
وجاء سنحريب يهاجم مصر، فتفشَّى الطاعون في جيشه فارتد عنها، ولم تعاوده فكرة مهاجمتها، وعاد إلى بلاده ومات مقتولًا في الطريق بيَدِ أبنائه سنة ٦٨١ق.م.
فتولى بعده ابنه «أسر حدون»، وتولى طهارقه في العام نفسه عرش مصر، فأعدَّ العدة لمقاتلة الآشوريين إذا حدثتهم أنفسهم بغزو مصر.
وانتقل من طيبة إلى صان الحجر (تانيس)؛ ليكون على مقربة من حدود مصر الشرقية، وليستعد لصدِّ الهجوم الآشوري إذا وقع، وأخذ يثابر على تحريض الفلسطينيين على الثورة على آشور.
فتقدَّم «أسر حدون» نحو مصر عن طريق سيناء، وساعده بدو الصحراء الذين أمدُّوه بالإبل تحمل المؤن والماء لجنده، وأرشدوه إلى مسالك الطريق حتى بلغ وادي الطميلات، وسار في زحفه.
وقاومه طهارقه مقاومة باسلة، ولكن قوات «أسر حدون» غلبته على أمره، واستمر في هجومه حتى بلغ «منف» واستولى عليها.
وارتد طهارقه جنوبًا حوالي سنة ٦٦٧ق.م.
ثم لم يلبث أن عاد إلى الشمال، وهزم الحامية الآشورية واسترد منف.
فارتد طهارقه ثانيةً إلى الجنوب، واستولى آشور بانيبال على طيبة، وخربها تخريبًا وحشيًّا.
وكان الآشوريون مضرب الأمثال في القسوة والفظاعة في معاملة الشعوب التي تغلَّبوا عليها.
وتعاون أمراء الدلتا على محاربة الآشوريين.
وكان منهم أمير يُدعى «نيخاو» امتاز بأنه من أكثرهم همة في مقاومتهم، ولكن الآشوريين نجحوا في حملتهم الثانية ودخلوا طيبة وخربوها.
وارتد طهارقه إلى نباتا بالنوبة، وأبى أن يستسلم للآشوريين، ومات بها مثقلًا بأعباء الكفاح والمقاومة.
لم ييئَس الشعب من الخلاص من الاحتلال الآشوري، وما زال الأمراء يقودونه في المعركة، ومنهم الأمير «نيخاو» ويعملون جاهدين على التحرر من هذا الاحتلال البغيض.
وقد اعترفوا لزميل لهم وهو «أبسماتيك» بن نيخاو، كما اعترف له الشعب بالملك، وتحالفوا جميعًا على طرد الآشوريين من البلاد.
وإذ عادت الوحدة إلى الصفوف واتحدت كلمة المواطنين، فقد هزموا الحاميات الآشورية، وتحررت البلاد من الاحتلال الأجنبي على يد بطل من أبنائها وهو أبسماتيك الأول.
(١) الأسرة السادسة والعشرون
(١-١) أبسماتيك الأول
وهو محرر مصر من الاحتلال الآشوري، وقد أصبحت البلاد مستقلة في عهده.
فهو قريب الشبه من هذه الناحية بأحمس الأول الذي حرَّر البلاد من حكم الهكسوس واستقلَّت البلادُ في عهده، وكذلك فعل أبسماتيك الأول، وإنه ليشرفه أن يشبه من هذه الناحية أحمس الأول.
وكان على جانب كبير من الذكاء والحصافة، وقد أصلح من شئون البلاد ونظم جيشها وأسطولها، وأعاد إليها الأمن والوحدة والرخاء.
وقد استرد جزءًا من فلسطين من الآشوريين، وتُوفِّي سنة ٦٠٩ق.م، وحكم نحو ٥٤ عامًا، وترك البلاد في رخاء لم ترَ مثلَه منذ وفاة رمسيس الثالث.
على أن خطأه الأكبر أنه أكثر من استخدام الإغريق (اليونانيين) في الجيش المصري وفي الحكومة، وكان اليونانيون قد بدءوا يفدون على مصر منذ القرن السابع قبل الميلاد.
فأدى استخدام الأجانب إلى إضعاف الروح القومية في نفوس المصريين، ولم يفكر في العواقب الوخيمة التي تترتب على هذه السياسة الحمقاء.
(أ) فضل الحضارة المصرية على حضارة اليونان
وفي عهد أبسماتيك الأول نشأت العلاقات التجارية والثقافية والعلمية بين مصر وبلاد اليونان وجزر بحر إيجه، وأخذ علماء الإغريق وكُتَّابها ينظرون إلى مصر على أنها مهد الحضارة والعلم، فنقلوا إلى بلادهم كل أنواع العلوم المصرية من رياضة وفلك وهندسة وقوانين وديانة، ويقتبسون ما يلائم تفكيرهم.
ومن دلائل ذلك أن «سولون» المشرع الإغريقي العظيم أخذ بعض تشريعاته عن القوانين المصرية.
يقول برستد في هذا الصدد: «ولا يخفى أن العالم الغربي مدين بكثير من علومه وآدابه إلى أهالي وادي النيل، كيف لا وهم زوَّدوا أوروبا الجنوبية بالمدنية والمعارف، فأخذت هذه تنتشر شمالًا متبعة سير النيل إلى الأقاليم الواقعة على شواطئ البحر الأبيض المتوسط.»
وقال أيضًا: «وقد اجتمعت في مصر السيادة الحربية والمدنية من أقدم العصور إلى ظهور مدنيتنا وحضارتنا الحديثتين، ولقد كان من أهم واجباتنا المقدسة ونحن من سلالة سكان أوروبا الأقدمين أن نرفع الستار ونزيل الحواجز التي تحجب عنا حوادث العصور السابقة؛ تلك العصور التي تسلَّم فيها أجدادنا وديعة هذا التمدن الحديث.»
(١-٢) خلفاء أبسماتيك الأول
(أ) نيخاو الثاني
خلف أبسماتيك الأول ابنه «نيخاو» الثاني، وحذا حذو أبيه في دعم أسباب النهضة وزاد عليها أن عُني بالأسطول، فأنشأ أسطولًا تجاريًّا رفع علَم مصر فوق ظهر البحار، وكان هذا الأسطول سيِّد بحار العالم في التجارة وأكبر أسطول تجاري في البحر الأبيض المتوسط.
وأنشأ أيضًا أسطولًا حربيًّا، وقد سعى في استرداد أملاك مصر الآسيوية التي كانت لها في عهد تحوتمس الثالث.
وكانت آشور قد تولَّاها الضعف منذ أن زاحمتها «بابل» على السيادة والسيطرة وما زالت بها حتى استولت عليها.
معركة أخرى في مجدو (سنة ٦٠٨ق.م)
وانتهت المعركة هذه المرة بهزيمة بوشيا، وأصيب بجراح تُوفِّي على أثرها في أورشليم (القدس).
وتمكَّن نيخاو من استرجاع فلسطين وسورية.
الطواف حول القارة الإفريقية
وعهد نيخاو إلى بعض الملاحين اكتشاف سواحل إفريقية، فقضوا في هذه المهمة نحو ثلاث سنوات في رحلتهم حول شاطئ إفريقية، وعادوا إلى مصر من بوغاز جبل طارق.
قناة نيخاو
وتُوفِّي نيخاو سنة ٥٩٣ق.م بعد أن حكم البلاد ستة عشر عامًا.
(ب) أبسماتيك الثاني
فخلفه ابنه أبسماتيك الثاني وسار على سياسة أبيه، ونفَّذ معاهدة أبيه مع بابل، وقضى في الحكم نحو ست سنوات.
(ﺟ) أبريس Apris
وبعد وفاة أبسماتيك الثاني تولى الملك ابنه «أبريس» سنة ٥٨٨ق.م، وقد أراد أن يسترد نفوذ مصر في آسيا، فجرَّد حملة على بابل في فلسطين ليطرد البابليين منها، وانتهت بالفشل.
(د) أمازيس Amazis
وحدثت في عهد أبريس ثورة من ضباط الجيش ترجع إلى ممالأته لليونانيين، فنقموا منه هذه النزعة وثاروا عليه.
فأنفذ إليهم جيشًا بقيادة «أمازيس» أحد قواد جيشه، وهو من عامة الشعب، وكان يشعر بشعور الشعب، فانضمَّ إلى الثوار وبايعوه ملكًا على البلاد، ويبدأ حكمه سنة ٥٦٨ق.م، وقد مات أبريس في معركة مع الثوار.
وحكم أمازيس نحو ٤٤ سنة، وتُوفِّي سنة ٥٢٥ق.م.
وفي غضون هذه الأحداث تغيَّر ميزان القوى في غربي آسيا، فقد ورثت فارس دولة آشور بعد أن استولت عليها واحتلت عاصمتها نينوى.
وتولى العرش في فارس ملك جديد اسمه «قورش».
واستولى على بابل سنة ٥٣٩ق.م، ثم على سورية وفلسطين، وظل على العرش إلى أن مات سنة ٥٣٠ق.م.
وبعد وفاة «قورش» تولى ابنه «قمبيز» عرش فارس سنة ٥٢٩ق.م.
(ﻫ) أبسماتيك الثالث
تولى الملك بعد وفاة أبيه أمازيس، وهو الذي حدث في عهده الغزو الفارسي سنة٥٢٥ق.م، ولم يطل حكمه أكثر من ستة أشهر.