الإسكندر الأكبر في مصر وجلاء الفرس عنها (سنة ٣٣٢ق.م)
تمهيد
بلغ الصراع بين الفرس والإغريق (اليونانيين) مرحلة حاسمة، حين تولى الإسكندر عرش مقدونيا وعمره عشرون سنة، ودارا الثالث عرش فارس.
وكانت الدولة الفارسية قد اتسع ملكها، فشمل آسيا الغربية، وامتدَّ من الهند إلى البحر المتوسط، وكانت لها قوة بحرية ضخمة على شواطئ ذلك البحر ولها السيادة عليها، وكانت سورية وفلسطين ضمن أملاكها.
وزحف بعد هذه الواقعة بحذاء الشاطئ الغربي لآسيا الصغرى، ثم في قلب الأناضول.
لم يشأ الإسكندر أن يتعقب دارا بعد واقعة إيسوس.
وآثر أن يزحف أولًا على البلاد الواقعة على شواطئ البحر المتوسط لكي يُخضعها ويبسط سلطانه عليها، ولا يتخذ منها الأسطول الفارسي قواعد له تعوق زحفه.
وكانت هذه الخطة المحكمة دليلًا على بُعْد نظره، ونفاذ بصيرته في الحروب.
فزحف الإسكندر على ثغور البحر المتوسط في فينيقية وسورية وفلسطين فاحتلَّها وخضَعتْ له، كما خضعت دمشق وبيت المقدس.
ثم احتل الثغور دون مقاومة، فيما عدا «صور» التي قاومت مقاومة شديدة فحاصرها وفتحها عنوة، وكذلك قاومت غزة فحاصرها وأخضعها.
ثم وصل إلى مشارف مصر على رأس جيشه البالغ نحو أربعين ألف مقاتل، يعاونه أسطوله الذي كان يسير على مقربة من الشاطئ.
وبلغ بيلوز (الفرما)، وكانت وقتئذٍ أول حدود مصر.
(١) دخوله مصر (سنة ٣٣٢ق.م)
وكان هزائم الفرس أمام زحفه قد أفقدتهم القوةَ على صدِّه، فدخل مصر في خريف سنة ٣٣٢ق.م.
ووصل دون قتال إلى «منف» عاصمة مصر وقتئذٍ.
ولم يجد الوالي الفارسي الذي كان يحكم مصر مفرًّا من التسليم؛ إذ رأى أن مقاومة الإسكندر لا تُجدي.
وقد ابتهج المصريون لهزيمة الفرس، ورأوا في الإسكندر بادئ الأمر منقذًا لهم من الاحتلال الفارسي، ولم يكونوا لينسوا أن الفرس قد انتزعوا عرش مصر من آخر ملوك الفراعنة وأقاموا حكمًا أجنبيًّا بغيضًا امتهَنَ كرامة بلادهم، مما حفزهم إلى الثورة عليه ثلاث مرات.
احترم الإسكندر ديانة المصريين، وعاداتهم وتقاليدهم.
ولم يكتفِ بذلك، بل توَّجَ نفسه تتويجًا فرعونيًّا في معبد «بتاح» بمدينة «منف»، وقلد الفراعنة الأقدمين فيما كانوا يفعلون عند اعتلائهم عرش مصر.
وإذ كان المصريون يرمزون بالكبش المقدس إلى الإله آمون، فقد أمر الإسكندر أن تُبرز في صوره قرنا «آمون» من قمة رأسه.
ولعل هذا التصوير هو الذي جعل بعض مؤرخي العرب يسمُّونه الإسكندر ذي القرنين.
(٢) الاستقلال الداخلي لمصر
واجتذب إليه قلوبَ المصريين من الناحية السياسية؛ بأن قرَّر لمصر الاستقلال الداخلي (الحكم الذاتي).
واختار حاكمين لمصر، أحدهما مصري، والثاني أناضولي أو فارسي، ومنح كليهما السلطة الكاملة في إدارة منطقته.
على أن الحاكم الأخير لم يلبث أن استقال، أما الحاكم المصري فلم تزِدْ سُلطته على سلطة وزير داخلية.
وعهد بالشئون المالية إلى حاكم «يوناني».
وعيَّن الإسكندر قوادًا على الحامية من المقدونيين.
وعامل المصريين بوجه عامٍّ معاملةً كريمة ولم يعاملهم معاملة المنهزمين؛ لأنه إنما انتصر على الفرس، واحترم المصريين لعراقتهم وحضارتهم وماضيهم المجيد.
ولم تستبن النيات النهائية للإسكندر أثناء مقامه في مصر، ولم يتسع الوقت ليدرك المصريون حقيقة مقاصده.
وإنما رأوه يحطم دولة الفرس الذين ساموا المصريين الخسفَ والاضطهاد أثناء احتلالهم الممقوت للبلاد.
فلا غرو أن فرحوا لمجيء الإسكندر، كما فرح الفرنسيون لاحتلال الأمريكان وحلفائهم فرنسا سنة ١٩٤٥م في الحرب العالمية الثانية؛ إذ كان في هذا الاحتلال المؤقت سحق لأعدائهم (الألمان) وتحرير لفرنسا من نِيرهم.
(٣) تأسيس الإسكندرية (سنة ٣٣٢ق.م)
يُعتبر تأسيس الإسكندرية أخلد عمل للإسكندر في مصر.
وأعجبه الشاطئ الممتد من البحر شمالًا إلى بحيرة مريوط جنوبًا.
فاختار قرية كانت تُدعى «راقودة» على شاطئ البحر المتوسط، وكانت لا تزيد على ميناء صغير للصيادين، تجاورها جزيرة مقفرة كان الصيادون يأوون إليها أيضًا تدعى جزيرة «فاروس» (رأس التين الآن).
وكان ملوك مصر الأقدمون قد أقاموا في هذه القرية نقطة عسكرية؛ لصدِّ من تُحدثه نفسه من الأجانب عن دخول البلاد أو التسلل إليها.
فأسس فيها سنة ٣٣٢ق.م العاصمة الجديدة وسمَّاها باسمه (الإسكندرية)، ثم أمر بإنشاء جسر بين موقع راقودة والجزيرة المذكورة؛ ليكون للمدينة الجديدة ميناءان: الميناء الشرقي والميناء الغربي، يتصلان بواسطة ممرَّين في طرفي الجسر الموصل لجزيرة فاروس بالشاطئ.
(٤) زيارة الإسكندر لواحة سيوة
وبعد أن وضع تخطيط مدينة الإسكندرية، اتَّجه إلى المكان المعروف الآن بمرسى مطروح.
ومن هناك قصد واحة «سيوة» حيث كان بها معبد آمون، ووصل إليها بعد مسيرة اثني عشر يومًا.
وزار المعبد، ورحَّب كبير الكهنة بمقدمه ومنحه لقب (ابن آمون).
وقد أراد الإسكندر بهذه الزيارة أن يثبت للرأي العام العالمي نسبه للآلهة، وتأييد إله سيوة لمشروعاته المقبلة، وقد كان هذا الإله يتمتع بين الإغريق بمكانة سامية.
وذهب بعد الزيارة إلى «منف».
ولم يكن معروفًا على وجه التحقيق مقاصد الإسكندر من فتوحاته، ولا من مجيئه إلى مصر كما سلف القول، ولكن تاريخه يدل على أنه لم يقصد قهر الفرس فحسب، بل كان يتطلع إلى أن يكون سيِّد العالم، وكان يطمع في أن يؤلف بين الشرق والغرب، ويجعل منهما مجموعة يكون هو رئيسها الأعلى.
لقد كانت سياسته أقرب إلى الإنسانية.
وبعد أن قضى في مصر نحو ستة أشهر غادرها في ربيع سنة ٣٣١ق.م؛ ليُتم فتوحاته.
ودك الإسكندر مملكة فارس، واستولى عليها وأسس على أنقاضها إمبراطورية وصلت إلى شواطئ السند، وامتدت من مقدونيا إلى الهند.
ولما عاد إلى «بابل» مرض بالحمى ومات سنة ٣٢٣ق.م، قبل أن يُتم الثالثة والثلاثين من العمر.