البطالمة في مصر وثورات الشعب عليهم (٣٢٣–٣٠ق.م)
بعد وفاة الإسكندر في «بابل»، اجتمع بها قواد جيشه للبحث في مصير الإمبراطورية بعد وفاة عاهلها العظيم، وخاصةً لأن الإسكندر لم يترك وصية، ولا رشح أحدًا خلفًا له، ولا نظَّم طريقة للحكم من بعده، ولم يكن له وريث في الملك.
حقًّا إن زوجته الفارسية «روكسانا» كانت حاملًا حين وفاته.
ولكنها كانت سيدة «شرقية»، وكان فريق من المقدونيين ينكرون على طفلها حق اعتلاء عرشه، ويطالبون بالمناداة بأخ الإسكندر غير الشقيق «أرهيدايوس» ملكًا، واستقر الرأي أخيرًا على المناداة بأرهيدايوس ملكًا عليهم تحت الوصاية مع الاحتفاظ بحق جنين روكسانا في الملك إذ كان ذكرًا باعتباره شريكًا في الملك تحت الوصاية.
وبعد الفراغ من مشكلة ولاية العرش قُسمت ولايات إمبراطورية الإسكندر بين قواده؛ ليحكموها باسم التاج المقدوني.
وقُسمت باقي البلاد الأخرى بين قواد الإسكندر.
وأفضت أطماع قواد الإسكندر إلى حروب شعواء قطَّعت أوصال الإمبراطورية، وقامت على أنقاضها ثلاث ممالك مستقلة كانت أعظمها وأقواها دولة البطالمة في مصر.
ففي سنة ٣٠٥ق.م. نادى بطليموس بنفسه ملكًا على مصر.
وجعل الملك وراثيًّا في ذريته، ومن هنا جاءت تسميتهم بالبطالمة لأنهم جميعًا تسموا باسمه.
فالبطالمة إذن هم أسرة أجنبية قضت المصادفات التعسة أن يؤسسوا لهم ملكًا في مصر، إحدى الدول التي فتحها الإسكندر الأكبر.
وقد اتخذوا الإسكندرية عاصمة لهم، ولا غرو فهي المدينة التي أسَّسَها الإسكندر، وكانت بموقعها على البحر المتوسط أقربَ إلى بلادهم (مقدونيا)، وأبعد عن احتمال الانقضاض عليهم من المصريين فيما لو اتخذوا عاصمتهم في «منف».
فهم من هذه الناحية قد قلدوا الهكسوس (الرعاة) إذ اتخذوا «أواريس» القريبة من حدود مصر الشرقية عاصمة لهم كما أسلفنا [الفصل الرابع: ثورة الشعب على الهكسوس وإجلاؤهم عن مصر سنة ١٥٧٠ قبل الميلاد].
وبطليموس الأول هو مؤسس دولة البطالمة في مصر.
وقد كان ولا ريب محاربًا قويًّا حنَّكَتْه التجارب، وسياسيًّا حصيفًا واسع الأفق بعيد المطامع، وحسبك أنه من قواد الإسكندر وزميله في فتوحاتِه العظيمة.
وقد أمكنه أن يؤسِّسَ لنفسه ولنسله دولةً ظلت تحكم مصر نحو ثلاثة قرون من سنة ٣٢٣ق.م، إلى أن انهارت في واقعة «أكتيوم» البحرية سنة ٣١ق.م، ثم انتهى حكم البطالمة واستولى الرومان بعدهم على مصر سنة ٣٠ق.م.
(١) نقل جثمان الإسكندر إلى مصر
وكان أول عمل هام قام به بطليموس الأول؛ ليوطد مركزه أن نقل رفات الإسكندر إلى مصر.
وأسبغ بذلك على نفسه مجدًا يؤهله لخلافة الفاتح العظيم، ويجعله أقرب الناس إليه.
وهذا الضريح قد عَفَت عليه القرون، وخفي حتى الآن (١٩٦٢م) عن أعين العلماء والأثريين، ولا يُعرف ماذا كان مصيره.
وقد أُلِّه بطليموس الأول بعد وفاته ووُضعت سُنة تأليه ملوك مصر، وعند وفاته اتبع ابنه رغبة أبيه فألهه باسم «سوتر» أي المنقذ، ثم لم يلبث أن ألَّه نفسه وزوجته في حياتهما باسم الإلهين أدلفوس أي الإلهين الأخوين، ومنذ ذلك الحين أصبح كل بطليموس يرتقي العرش يؤله نفسه وزوجته في حياتهما ويحتفظان بألوهيتهما (الباطلة) بعد مماتهما.
وأتم بطليموس الأول إنشاء مدينة الإسكندرية كما خطَّطها الإسكندر، وتم تشييدها في عهده وفي عهد خلفه بطليموس الثاني.
وصارت من أعظم مدن العالم موقعًا ومكانة، وكانت (ولا تزال) تتملك إعجاب أهلها والسائحين والقاصدين إليها بمناظرها البديعة، وطول شواطئها على البحر المتوسط، واتساع رقعتها، واستقامة شوارعها المتقاطعة في زوايا قائمة، وما فيها من المعاهد والنوادي والملاعب والمنشآت.
وأنشأ جيشًا وأسطولًا عزَّزَ بهما القوة الحربية التي تركها الإسكندر في مصر، واتخذ منهما سندًا أو وسيلة لإخضاع مصر لأطماعه الاستعمارية، وتحقيق أغراضه في البلدان المجاورة.
(٢) منارة الإسكندرية
وأقام على صخرة شرقي جزيرة فاروس (المنارة) التي اشتهرت بمنارة الإسكندرية العظيمة (مكانها الآن قلعة قايتباي)، وهي التي اعتُبرت إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة.
وقد أكملها ابنه بطليموس الثاني.
وازدهرت التجارة الخارجية في عهد البطالمة الأُوَل، وصارت الإسكندرية ملتقى القادمين من القارات الثلاث.
وبنى مدرسة الإسكندرية الجامعة (دار الحكمة)، وكانت تُعرف عندهم بالموزيون (موئل ربات الشعر والفن).
وقد جمع فيها العلوم المعروفة في ذلك العصر من رياضيات وفلسفة وطب وآداب وطبيعة وجغرافية وفلك، وجلب إليها طائفة من علماء الإغريق (اليونانيين).
وكانت الدراسة فيها باليونانية.
وأنشأ بهذه الجامعة المكتبة الشهيرة التي عُرفت بمكتبة الإسكندرية، وأتم ابنه بطليموس الثاني إعدادها وتنظيمها.
وأنجبت له بطليموس الثاني.
وقيل إن بطليموس الثاني ليس ابنًا شرعيًّا لبطليموس الأول.
وتُوفِّي بطليموس الأول عام ٢٨٣ق.م.
وخلفه على الملك بطالمة عديدون، تعاقبوا على عرش مصر.
ولم يُعرف عنهم في الجملة سوى أنهم أهل خلاعة ومجون، وفساد في الأخلاق والسِّيَر.
وبطليموس هذا هو الذي عهد إلى المؤرخ المصري «مانيتون» أن يضع كتابًا باللغة اليونانية عن تاريخ مصر القديمة ففَعَل، ولكن الكتاب أُحرق ضمن مكتبة الإسكندرية سنة ٤٨ق.م، ولم يبقَ منه إلا شذرات نقلها بعض المؤرخين.
وبعد وفاة بطليموس الثالث آل العرش إلى ابنه بطليموس الرابع، وكان شابًا عابثًا في الثانية والعشرين من عمره، شغفًا بالمجون.
وقد اصطفى من أجله رفاقًا من حثالة الإسكندرية، أطلق الإسكندريون عليهم اسم «إخوان الأنس».
وتعاقب البطالمة على العرش، وكانت غالبيتهم أهل مجون واستهتار بالأخلاق والفضائل الشخصية والسياسية، وكانت قصورهم مباءة لأحط أنواع الفساد والرذائل.
وظلوا كذلك حتى انقرض حكمهم بانتحار كليوبترة آخر ملوكهم سنة ٣٠ق.م.
(٣) سياسة البطالمة في مصر
حكم البطالمة على الرغم من إرادة أهلها، ولم تكن لهم صلة بها، اللهم إلا في أن بطليموس الأول كان كما أسلفنا أحد زملاء الإسكندر في الحروب، هذا إلى أنهم اتخذوا سمات الفراعنة ليتمتعوا بما كان للفراعنة من سيطرة مطلقة على البلاد.
ولقد سار البطالمة في الملك الذي آل إليهم سيرة تختلف عن سيرة الفراعنة، وسيرة الإسكندر وسياسته، فلم يحترموا حتى الاستقلال الداخلي الذي أقرَّه الإسكندر في مصر.
(٣-١) التفرقة العنصرية
وإن ما شهده المصريون منهم قد دلَّ على مقاصدهم من البقاء فيها كانت ولا ريب مقاصد استعمارية بغيضة، وكانوا يتبعون في مصر سياسة التفرقة العنصرية.
فقد أخذت هجرة المقدونيين واليونانيين إلى مصر تتفاقم في عهدهم؛ إذ رأوهم يؤلفون دولة يونانية ويجتذبون بني جلدتهم إلى مصر، ويرغِّبونهم في البقاء فيها بمختلف الوسائل والامتيازات.
وبدأت هجرة هؤلاء المستعمرين إلى مصر في عهد بطليموس الأول، واستمرت في عهد خلفائه من بعده.
أراد البطالمة أن يجعلوا من مصر دولة مقدونية لا مصرية، وأن يتخذوها مستعمرة لهم فيكونون أهم ملوكها وحكامها المستعمرين.
ولم تكن لهم يد على مصر حتى يئُول إليهم حكمها بإرادة أهلها، ولا علاقة لهم بها من قبل ولا لهم أسرة معروفة فيها، فإن تسميتهم بالبطالمة راجع إلى أن أول ملك منهم كان اسمه بطليموس بن لاجوس.
وحتى لو كانت مصر قد أفادت من الإسكندر إذ حررها من حكم الفرس، فلم تكن لترضى أن يكون هو ملكًا عليها بدلًا من الفرس.
فمن باب أولى لم يكن لبطليموس هذا أي يد عليها، بل كان اعتلاؤه عرشها اغتصابًا منه.
وقد اتَّسم حكمه وحكم خلفائه من بعده بطابع الغصب والقهر، وخاصةً لأنهم نظروا إلى مصر كأنها مستعمرة مقدونية، ولم ينسوا يومًا صفتهم اليونانية.
واستمرت اللغة اليونانية لغتَهم وقد جعلوها اللغة الرسمية للدولة، وكانوا يجهلون اللغة المصرية ولم يحاولوا قط أن يتعلموها، ولم يتعلمها (العامية منها) سوى «كليوبترة» آخر البطالمة.
ولم يعترفوا باللغة المصرية في مخاطباتهم، أو في مراسلات الحكومة.
وعلى الرغم من طول المدة التي حكموها فيها مصر والتي بلغت ثلاثة قرون، فإنهم لم يتركوا لغتهم ولم يتعاملوا بغيرها، وظلوا مقدونيين يونانيين طوال هذه القرون.
واستأثر الإغريق بالمناصب الرفيعة في الدواوين وفي القصر الملكي، ولم يكن نصيب المصريين سوى الوظائف الصغيرة فحسب.
واستعلى البطالمة على المصريين عامة، واتخذوا من اليهود عملاء لهم وأولياء، وأغدقوا عليهم المزايا ليضمنوا بقاءهم إلى جانبهم، وليُفسدوا بهم القومية المصرية.
وظل البطالمة يونانيين في تفكيرهم وشعورهم ولغتهم وفي كل مظاهر حياتهم.
فالمصريون في عهد البطالمة قد فقدوا استقلالهم، وأسيء إليهم في حياتهم الاقتصادية والشخصية.
وعاملهم المقدونيون واليونانيون من أول عهد بطليموس الأول معاملة شعب مغلوب على أمره، بينما عاملوا بني جنسهم معاملة السادة، فكان هذا ولا ريب ضروب الاستعمار.
واعتمد البطالمة على المقدونيين واليونانيين في حكم البلاد، وفي تنظيم قوة الدفاع عنها، وحكموا البلاد باعتبارهم أجانب عنها، وفتحوا لليونانيين والمقدونيين أبواب الوادي، ودعوهم للإقامة فيه وأجزلوا لهم العطايا والمنح والمزايا، كل ذلك على حساب الوطنيين.
وأنشأ البطالمة جيشًا معظمه من المقدونيين واليونانيين، ولم يجندوا فيه المصريين؛ خوفًا من أن تستثيرهم الروح الحربية وتحفزهم إلى المطالبة بحقوقهم واستقلالهم، وكانت لهم فيه الأعمال الثانوية فقط كالنقل والتموين، وكان البطالمة يستقدمون الجيوش المرتزقة من مقدونيا واليونان ويغرونهم بالإقطاعيات الزراعية يمنحونهم إياها؛ ترغيبًا لهم في البقاء في مصر.
واستنزفوا ثروة البلاد في سبيل إشباع أطماعهم وأطماع بني جلدتهم.
وقصروا أعمال السخرة في المنافع العامة على المصريين دون المقدونيين واليونانيين، مع أن مزايا هذه السخرة قد استأثر بها هؤلاء الأجانب المستعمرون.
وزادت أعباء الضرائب على عاتق الأهليين بسبب إسراف البطالمة في نفقاتهم وأهوائهم، وكثرة الحملات البرية والبحرية التي شنُّوها على جيرانهم، دون أن يعود منها أي فائدة لمصر، واستمروا في سياسة اضطهاد المصريين.
لجأ المصريون في مقاومة هذا الاضطهاد منذ الساعة الأولى إلى المقاومة السلبية، أي الإضراب عن العمل، واشترك في هذا الإضراب الفلاح في المَزارع، والعامل في المصانع وفي المناجم والمحاجر، وكانت الحكومة تقابل هذا الإضراب بالقمع والاضطهاد.
فلجئوا إلى سياسة جديدة في المقاومة، وهي هجر المزارع والمصانع، والاختفاء في الصحارى والمعابد.
وُضعت أُسس السياسة الاستعمارية في عهد بطليموس الأول، وسار على نهجه خلفاؤه، وصارت أداة الحكم أجنبية، وعومل المصريون بالزِّراية والاضطهاد.
ولم يندمج المصريون في المقدونيين واليونانيين، ولم يستطع البطالمة أن يدمجوهم في جنسهم.
ولئن جنح بعض المصريين إلى مصانعة البطالمة؛ لكي يأمنوا على أنفسهم وينالوا عطف الغاصبين، فإن جمهرة الشعب قد بقيت بمنأى عن مصانعة الغرباء المستعمرين.
وسنَّ البطالمة من النُّظُم والقوانين ما جعل المصريين وخاصةً الفلاحين مضطهدين مسلوبة حقوقهم، مثقلين بالضرائب والالتزامات، وظهر البطالمة على حقيقتهم، وهي أنهم غُزاة غاصبون ومستعمرون مستبدون.
وكان الاحتكار الملكي، علاوة على الأراضي، يشمل المناجم والمحاجر والملح والنطرون والجعة والشبَّة والزيت ومصايد الأسماك ودبغ الجلود والورق والبخور والروائح والحمامات، والمصارف (والبنوك) ومنسوجات التيل والصوف والقنب، وبالنسبة للمصري لم تكن له أية حرية اقتصادية.
وكان الملك البطلمي يعتبر مصر ضيعة له، ووزير ماليته مدير الضيعة.
إلى أن قال: «وكان أمرًا طبيعيًّا أن يُقابلوا أفعالَ أولئك اليونانيين بشيء من الأنفة القومية والاحتقار لأساليب وأقدار أولئك المستوطنين المحدثين المتحذلقين، ولدينا دليل قاطع مشتمل على بعض قطع من الأدب المتأجج بروح الوطنية والمنطوي على بعض النبوءات، يشير إلى وجود حزب وطني ناهض كانت تداعبه الأحلام ويتطلع إلى اليوم الذي ينتظر فيه طرد الملك الأجنبي البغيض من البلاد.»
إلى أن قال: «ومن بين الحروب الداخلية التي نشِبت في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد. واستنزفت قوى الملكية، اندلعت بضع ثورات وحركات قومية كان الوازع لها حب الوطن، ومنذ عهد مبكر يرجع إلى القرن الثالث ترامت إلى سمعنا أنباء عن قيام إضرابات وطنية.»
وقد ترتب على سياسة الاضطهاد الاقتصادي التي اتبعها البطالمة نقص سكان الريف، ونقص مساحة الأراضي المنزرعة.
(٤) الثورات على البطالمة
لم تستنم الأمة المصرية لحكم البطالمة، ولا فنِيتْ شخصيتُها في الاستعمار المقدوني الإغريقي، واحتفظت بطابعها وتقاليدها وديانتها ولغتها القديمة.
وكان الحكم البطلمي يستند إلى القوة، فإن الحامية البرية والبحرية التي تركها الإسكندر في مصر قبل أن يغادرها، قد اتخذ منها بطليموس الأول نواة قوة عسكرية أكبر منها وأعظم، استخدم فيها المرتزقة والمتطوعين من أبناء مقدونيا وبلاد الإغريق وآسيا.
وكان المصريون محرومين من جيش وطني من عهد الاحتلال الفارسي، فلما زال الاحتلال حلَّ محله الاحتلال المقدوني الإغريقي، واستمر المصريون محرومين من جيشهم الوطني.
وحرص البطالمة في أوائل عهدهم على حرمان المصريين شرف الاشتراك في حروبهم، وقصروا قواتهم المقاتلة على العناصر المقدونية والإغريقية.
وحتى الذين استخدموهم من المصريين كانوا يعهدون إليهم بالشئون الثانوية في الجيش، كالنقل والتموين وما إلى ذلك.
فلا غرابة في أن يكره المصريون حكم البطالمة الذي تكشَّف عن استعمار ممقوت.
على أن المصريين مع صبرهم ومصابرتهم، لم يدعوا فرصة تمرُّ إلا واغتنموها للثورة على المستعمر البغيض.
وبرهنت الحوادث على قوة الحيوية الكامنة في هذا الشعب، وصموده أمام العقبات، وثورته على الاستعمار المرة تلو المرة حتى يتحرر منه.
يقول الدكتور إبراهيم نصحي في هذا الصدد: «لقد ضاق المصريون ذرعًا بالنظام الاقتصادي الجديد منذ عهد فيلادلفوس، فإن وثائق زينون تحدثنا عن وقوع اضطرابات بين المزارعين، كانت تنتهي بإضرابهم عن العمل وفرارهم إلى المعابد للاحتماء بالآلهة، ولم تقلَّ عن ذلك شأنًا الاضطرابات التي كانت تنشأ بين المشتغلين بالصناعة والتجارة في كنف النظام الجديد، ولم يفضِ ذلك إلى الإضراب عن العمل فحسب، بل كذلك إلى تهريب السلع وبيعها دون تصريح.
وقد أدت أيضًا مختلف أنواع الخدمة الجبرية إلى إضرابات واضطرابات هائلة، ولشدَّ ما كانت تقابلها بعقوبات صارمة، وقد وجد العيون مرتعًا خصبًا في هذه الحالة، التي لا يمكن تفسيرها بالنقائص الطبيعية في كل نظام جديد لم يألَفْه الذين كانوا يطبَّق عليهم. إن السبب أبعد مدًى من ذلك لأن النظام لم يكن صارمًا فحسب، بل كان تطبيقه في قبضة أجانب اعتبروا أنفسهم أرفع قدرًا وأعظم شأنًا من المصريين، ولم يتكلموا اللغة المصرية، بل أَرغموا على الأقل بعض المصريين على تعلُّم لغتهم الأجنبية، وكانوا لا يعبدون آلهة بل آلهتهم الأجنبية التي أحضروها معهم، ولا يحيون الحياة التي كان المصريون يألفونها بل حياتهم الخاصة، وكانوا يُرغمون أهالي البلاد على بذل أقصى الجهد في استغلال المرافق الاقتصادية، ولم يتحمل المصريون كل ذلك في سبيل آلهتهم أو ملوكهم الوطنيين الذين يعتنقون نفس المعتقدات الدينية ويتكلمون نفس اللغة ويحيون نفس الحياة، وإنما في سبيل خدمة قاهر أجنبي ومن يحيط به من الأجانب الذين منَحهم أفضل المناصب وخير الفرص لإثراء أنفسهم، فظفر الأجانب بالثروة حين حلَّتِ الفاقة بالمصريين، وإذا احتاج مصري إلى اقتراض نقود أو بذور فإنه كان يقترضها عادةً من أحد هؤلاء الأجانب، وإذا أراد استئجار قطعة أرض فإنه كان يستأجرها عادةً منهم. فلا عجب إذن أدرك المصريون أنهم قد أصبحوا غُرباء في بلادهم، أداة يجب أن تكون طيِّعة في خدمة الأجانب، ووسط هذه الظروف كان من اليسير أن يندلع ليهب الثورة لأي سبب، فقد امتلأت النفوس غضبًا وحقدًا، وتوفر جيش الثورة من ملايين الزراع والصُّناع والعمال الذين لم ينقصهم القادة؛ فإن رجال الدين وقد كبَّلهم البطالمة بالقيود التي كسرت شوكتهم، كانوا يحنون إلى استعادة ما كانوا ينعمون به في الماضي من الكرامة والعزة والنفوذ والثراء، ولم يؤدِّ مضيُّ الزمن إلا إلى ازدياد الهوة من الفريقين، وساعد على ذلك أيضًا صرامة العقاب الذي كان يُكال للناقمين على سوء الحال؛ ولذلك فإن الاضطرابات التي بدأنا نشهدها في عهد فلادلفوس لم تنقطع في عهد خلفائه، بل ازدادت عنفًا وشدة.
(٤-١) أول ثورة على البطالمة في عهد بطليموس الثالث (إيفرجيت Evergete؛ الخيِّر)
إن أول ثورة قام بها المصريون ضد البطالمة كانت في عهد بطليموس الثالث (إيفرجيت).
وترجع أسبابها إلى ازدياد روح التذمر والسخط على الحكم البطلمي، ذلك السخط الذي بدأ في عهد بطليموس الأول، ولم يصل إلى حد الثورة، ولكن كانت له مظاهر خطيرة كالتوقف عن العمل بين الزراع والصناع والعمال المصريين؛ بسبب كثرة الضرائب التي كانت الحكومة تفرضها عليهم.
وزاد في تيار السخط انخفاض منسوب فيضان النيل، وحلول القحط في البلاد، واشتداد الضيق بالأهليين، فحنقوا على الملك الذي كان يشتط في القسوة عليهم ويجمع منهم الأموال لينفقها في حروب لا طائل تحتها، كما حنقوا على رجال الحكومة لِما عانوه من مساوئهم.
نشِبت الثورة بين الأهلين حوالي سنة ٢٤٦ق.م في الوقت الذي كان الملك بطليموس الثالث يحارب في سورية.
فلما بلغَتْه أنباء الثورة أسرع في العودة لإخمادها بقوة الجيش.
ولم تتعدَّ هذه الثورة أنحاء الدلتا.
وقد أفلح بطليموس الثالث في إخمادها بالقوة المسلحة.
غير أنها تركت في نفوس المصريين جراحًا أليمة حفزتهم إلى التربص بالبطالمة الظالمين، ومعاودة الكرَّة للثورة عليهم.
(٤-٢) معركة رفح سنة ٢١٧ق.م، والثورة الثانية في عهد بطليموس الرابع (فيلوباتور ؛ أي المحب لأبيه)
كانت سياسة البطالمة الثلاثة الأُول إقصاء العنصر المصري عن الجيش، وجعله مقصورًا على المقدونيين واليونانيين.
ولما تُوفِّي بطليموس الثالث خلفه سنة ٢٢١ق.م ابنه بطليموس الرابع (فيلوباتور)؛ ذلك الشاب العابث الذي سبق الحديث عنه واستفاضت أنباء سيرته [الفصل الثالث عشر: البطالمة في مصر وثورات الشعب عليهم (٣٢٣–٣٠ ق.م) – منارة الإسكندرية].
وأدرك بطليموس الرابع أن قواته المقدونية واليونانية، ليست كفيلةً بصدِّ هذا الهجوم.
فاضطر إلى إدخال المصريين في قواته المسلحة كجنود محاربين ليزداد بهم منعة، فجنَّد منهم نحو عشرين ألف مقاتل، سلَّحهم بأسلحة مقدونية ودربهم وفقًا لفنون الحرب المعروفة في ذلك العصر.
وفي عام ٢١٧ق.م بلغ الملك أنطيوخس بجيشه مشارف «رفح» والتقى بجيش بطليموس الرابع.
وبعد أن انتصر أنطيوخس على الجناح الأيسر الذي يقوده الملك الشاب وفشلت الجنود المقدونية في صد الجيش السلوقي، انبرى لهم المصريون الذين امتازوا بشجاعتهم وحُسن بلائهم في القتال فهزموا السلوقيين.
وانتهت معركة رفح بنصر مؤزَّر، ناله الجيش البطلمي بفضل الفرقة المصرية.
فالنصر الذي أحرزه المصريون في معركة رفح قد ملأ نفوسهم حماسة وثقة.
وبدأ البطالمة لأول مرة يعاملونهم لوقت محدود معاملة الأنداد بعد أن كانوا ينظرون إليهم كأنهم مقهورون.
كانت واقعة رفح نقطة تحوُّل كبير في موقف المصريين تجاه غاصبيهم وبداية الثورات الوطنية التي زلزلت عرش البطالمة، فثار المصريون في الوجه البحري عام ٢١٦ق.م يريدون التحرر من البطالمة، وامتدت الثورة إلى مصر الوسطى ثم إلى مصر العليا.
وقد أسفرت هذه الثورة عن استقلال إقليم طيبة عن حكم البطالمة نحو عشرين عامًا (من سنة ٢٠٦ إلى سنة ١٨٦ق.م).
وقد أضعفت هذه الجهود سلطان البطالمة عامة، وانتهى بهم الضعف إلى الارتماء في أحضان «روما» يلتمسون منها المعونة والحماية.
غير أن الحكومة عادت وبسطت سلطانها عليها في عهد بطليموس الخامس سنة ١٨٦ق.م، ونجحت في القضاء على هذه الثورة، واستلزم إخمادها جهودًا عسكرية كبيرة.
كانت هذه الثورة أخطر ثورة قامت ضد البطالمة، وقد أخمدتها الحكومة وأعدمت زعماءها.
ومهما قيل من المآخذ على هذه الثورات، فحسب المصريين أنهم قاموا بالثورة المرة تلو المرة، ولم يسكتوا على الحكم الأجنبي ولا استناموا له وأنهم بثوراتهم المتكررة ضد البطالمة قد زلزلوا دولتهم، حتى انتهت إلى الانحلال والزوال.
(٤-٣) الثورة الثالثة في عهد بطليموس الخامس (إبيفان Epiphane ؛ الظاهر)
واشتد السخط على سيرة الوصي، واندلعت الثورة على القصر في الإسكندرية.
ونتج عنها قتل الوصي أجاتوكليس وأخته أجاتوكليا وأمهما، وعُيِّن وصي آخر، فلم تنقطع الثورة.
وعمَّت الثورة الوجه البحري والوجه القبلي، وكانت أبيدوس (العرابة المدفونة) معقل الثورة في الصعيد.
فجرَّدت عليها الحكومة البطلمية جيشًا لحصارها، ولكن أهلها استبسلوا في الدفاع عنها، فردوا هذا الجيش عنها.
يقول بيير جوجيه في هذا الصدد: «جاء إشراك المصريين في القتال ضد أنطيوخوس نتيجة اضطرار بطليموس الرابع إلى الاستعانة بهم، ولكن هذه الاستعانة جاءت وَبالًا عليه؛ لأن الوطنيين وقد استثارهم انتصار «رفح» لم يعُد في الإمكان أن يتحملوا الخضوع للبطالمة وأخذوا يعملون على أن يكون لهم رئيس منهم.
(٤-٤) الثورة الرابعة في عهد بطليموس السادس (فيلومتور Philometor؛ المحب لأمه) وحماية روما للبطالمة
بعد وفاة بطليموس الخامس سنة ١٨٠ق.م اعتلى العرش ابنه بطليموس السادس، وكان هذا أيضًا صغير السن لم يتجاوز السابعة من عمره، ووُضعت الوصاية عليه.
واشتبكت مصر والسلوقيون في حرب جديدة.
وانتصر الملك السلوقي «أنطيوخس الرابع» ملك سورية على الملك البطلمي في بيلوز (الفرما)، وزحف حتى وصل إلى منف، واحتال على بطليموس السادس حتى قُبض عليه، فنادى الإسكندريون بأخيه الصغير ملكًا، وهو الذي عُرِف فيما بعد باسم بطليموس الثامن، وبعد ذلك استأنف أنطيوخس الرابع زحفَه حتى ضرب الحصار على الإسكندرية، وقطع اتصالاتها برًّا بمصر.
فاستصرخ الملك البطلمي بروما لحمايته، لكن روما لم تستطع التدخل وقتئذٍ لأنها كانت على وشك دخول الحرب المقدونية الثالثة، ولم ينقذ مصر في ذلك الوقت إلا وقوع اضطرابات في الدولة السلوقية اضطرت أنطيوخوس إلى مغادرة مصر؛ تاركًا وراءه فيها ملكين: بطليموس الصغير في الإسكندرية، وبطليموس السادس في منف، معلِّلًا الأمل في أن الخلاف بين الأخوين سيمهد له في المستقبل سبيل الاستيلاء على مصر، ولكن كليوبترة الثانية أخت الملكين استطاعت أن توفِّق بينهما وحكم ثلاثتهم سويًّا، وبعد عامين عاود أنطيوخوس غزو مصر، وعندئذٍ تدخلت الجمهورية الرومانية، وقد برزَتْ قوتها في الميدان، وأخذت تعمل لحفظ التوازن بين دول الشرق، ورأت أن أنطيوخوس وقد استمر في زحفه حتى ضرب الحصار في الإسكندرية لم يعُد من مصلحتها تركه وشأنه، وكانت روما قد خرجت منتصرة من حربها مع مقدونيا سنة ١٦٨ق.م، فرأت أن تملي إرادتها على أنطيوخس بطريقة بالغة منتهى القسوة والإذلال.
إذ جاء السفير الروماني وسلَّمه رسالة حوت قرار مجلس الشيوخ الروماني في هذا الصدد، فاطلع أنطيوخوس على الرسالة، وأعلن أنه سيتدبر الأمر مع رفاقه.
فلم يكن من السفير الروماني إلا أن خط بعصاه دائرة على الرمال حول أنطيوخوس، وأعلن أن الأمر يقتضي أن يبدي الملك الجواب قبل مُبارحته تلك الدائرة.
فأذعن أنطيوخوس وأنفه راغم وكظَم غيظَه، واضطر للنزول على إرادة روما، فقررت إظهارًا لقوتها أن تطلب منه الوقوف في زحفه؛ حتى لا يقوى بفوزه على البطالمة، وانسحب من مصر.
ومن يومئذٍ صارت دولة البطالمة تحت الحماية الفعلية للجمهورية الرومانية، واستغلَّتْ روما النزاع الذي دبَّ بين أفراد أسرة البطالمة لدعم نفوذها في مصر.
وكانت أولى حلَقاتِ هذه المرحلة النزاع بين بطليموس السادس، وأخيه الصغير وشريكه في الملك.
وقد ألهبت هذه الأحداث المشاعر الوطنية ضد القصر الملكي، ووجدت هذه المشاعر صداها في موظف كبير في القصر يُدعى ديونيسيوس بتروسرابيس، وكان مصريًّا من أفراد الحاشية الملكية فتزعَّم ثورة جديدة على البطالمة سنة ١٦٥ق.م.
وسارع ديونيسيوس هذا إلى الاحتشاد في «الحدرة»، وقاتلت جموع الثوار قوات الملك بطليموس السادس، ولكنها ظهرت عليهم وظفرت بهم.
وانتقلت الثورة إلى الوجه القبلي، فانتصر عليهم قوات الملك في أخميم.
وعندما اشتد النزاع بين الأخوين، تدخلت روما، لا لتصلح ذات البين بينهما، ولا لدعم عرش البطالمة، بل لتزيده ضعفًا على ضعف بتقسيم الدولة بين الأخوين، فباركت روما عقد اتفاق بينهما سنة ١٦٣ق.م، تقرر بمقتضاه أن تكون مصر وقبرس من نصيب الأخ الأكبر، وبرقة من نصيب الأخ الأصغر.
وهكذا ظفِرت روما بتفكيك عُرى الدولة البطلمية، وصارت الحَكم في المنازعات الداخلية فيها.
(٤-٥) الثورة الخامسة في عهد بطليموس الثامن
بعد وفاة بطليموس السادس ومقتل طفله بطليموس السابع آل العرش إلى أخيه بطليموس الثامن، وكانت سيرته من الفساد والقسوة قد أجَّجَت نار العداوة ضده، فاشتعلت الثورة في طول البلاد وعرضها، وكانت مزيجًا من النزاع العائلي والثورة الوطنية، وبعد جهد أخمدها الملك بالقوة والوحشية، ثم أصدر قرارات عفو سنة ١١٧ق.م تدعو إلى تهدئة الحال.
(٤-٦) الثورة السادسة في عهد بطليموس التاسع والعاشر
وكانت كليوبترة تُؤْثر ابنها بطليموس الإسكندر، وشاعت الدسائس والمؤامرات في القصر، وأكرهها الشعب على اختيار الابن الأكبر شركًا لها فقبلت ذلك مرغمة.
ولم يمضِ عامان حتى تجددت الثورة، وخاصةً في مصر الوسطى وفي الصعيد.
وجرَّد الملك بطليموس التاسع على الثوار جيشًا حاصرهم في طيبة (معقل الثورة)، وظفر بهم وخرَّب المدينة سنة ٩٥ق.م تخريبًا وحشيًّا.
(٥) بطليموس الثاني عشر (الزمار)
ولم تنقطع الثورات ضد الحكم البطلمي، وزاد من أُوارها تدخُّل الدولة الرومانية؛ لحماية من تراه خاضعًا لنفوذها من الملوك البطالمة.
إلى أن اعتلى العرش بطليموس الثاني عشر (أوليتس = الزمَّار)، وقد أطلق عليه الشعب هذا اللقب تعبيرًا عن أبرز صفاته إذ كان يجيد العزفَ على الموسيقى.
وقد جاهر بولائه لروما، والتمس منها العضد والعون لتثبيت مركزه المتداعي.
وذهب إلى روما فعلًا سنة ٥٨ق.م، وأطال مكثه هناك عدة سنوات، وعاد إلى مصر سنة ٥٥ق.م، بعد أن اشترى ذِمم رجال السياسة في روما ليؤيدوه في مركزه، واشتط في معاملة الأهليين، واستنزف أموالهم ليسدد ديونه من المرابين الرومان.
وكتب وصيته بأن يخلفه على العرش أكبر أولاده، وهما كليوبترة الشهيرة (السابعة) مشتركة مع أخيها بطليموس الثالث عشر.
ولما كان هذا الزمار غير مطمئن إلى الشعب المصري في تنفيذ وصيته لكراهيته له، فقد أودع الوصية لدى الجمهورية الرومانية وعهد إلى الشعب الروماني الإشراف على تنفيذها.
وكان ذلك اعترافًا منه بحماية روما لمصر.
وتُوفِّي بطليموس الزمار هذا سنة ٥١ق.م محتقرًا من الشعب ومن الرومان معًا.
(٦) كليوبترة Cleopatra
وكانت وصيته كما أسلفنا أن تخلفه على العرش كليوبترة وأكبر ولديه (بطليموس الثالث عشر)، على أن يتزوج أخته الكبرى (كليوبترة)، ويشتركا معًا في الحكم.
وقد تطلعت كليوبترة منذ الساعة الأولى إلى الانفراد بالحكم، ومن هنا نشأ النزاع بينها وبين أختها، وكان رجال القصر من ناحيتهم يريدون الاستئثار بالسلطة، فأوغروا صدر أخيها وضموا إليه جمهرة الإسكندريين.
وفي بداية الأمر لقي بطليموس الثالث عشر عطف الأهلين الذين نقِموا من كليوبترة سعيها لاغتصاب الملك من أخيها، فثاروا عليها وخرجت من الإسكندرية، لا لتستسلم للأمر الواقع، بل لتدبر الدسائس لتنتزع الملك لنفسها.
وجنَّدت من استطاعت تجنيده من البدو المتاخمين للحدود الشرقية وكانت تعرف لغتهم، واعتزمت دخول مصر ثانيةً على رأس جيشها.
وكان أنصار الملك الصغير قد جُمعوا أيضًا؛ ليصدوا كليوبترة في زحفها.
وفي صيف سنة ٤٨ق.م كان الجيشان وجهًا لوجهٍ على مقرَبة من بيلوز (الفرما).
(٦-١) مصرع بومبي Pompei
وفي غضون ذلك جاء مصر القائد الروماني الشهير بومبي الذي كان وقتًا ما قنصلًا عامًّا في روما، وكان خصمًا ليوليوس قيصر ومزاحمًا له على السلطة.
وكان مجيئه لمصر لاجئًا بعد هزيمته أمام يوليوس قيصر، وظن أنه سيجد فيها العون، إذ كان صديقًا لبطليموس الزمار، وعاونه في روما على العودة للحكم.
ولكن بومبي لم يكد يَدنو بقاربه من الشاطئ بالقرب من بيلوز، حتى اغتاله صف ضابط روماني في خدمة الجيش البطلمي فمات قتيلًا سنة ٤٨ق.م.
(٦-٢) يوليوس قيصر وكليوبترة
وجاء يوليوس قيصر إلى الإسكندرية سنة ٤٨ق.م يتعقب خصمه بومبي، ومعه قوة من أربعة آلاف مقاتل، وعلم بنبأ مصرع بومبي فأظهر الحزن على خاتمته.
وكان أنصار بطليموس الثالث عشر (ابن الزمار) يظنون أن قيصر سيعود من حيث أتى، بعد مصرع خصمه، ولكنه لم يبرح الإسكندرية بل بقي فيها كأنه الحاكم بأمره.
واتخذ قصر البطالمة مسكنًا له، وكان ذلك بمثابة اعتبار مصر ولاية رومانية.
وأمر كليوبترة وأخاها بتسريح جيشهما والحضور إلى الإسكندرية؛ للفصل في النزاع القائم بينهما وفقًا لوصية أبيهما الزمار.
وكانت كليوبترة وقتئذٍ في أقصى حدود مصر، فخشيت إن هي وصلت إلى الإسكندرية أن يقتلها رجال البلاط من أنصار أخيها.
فجاءت خفية بطريق البحر يصحبها كاتم أسرارها، ووصلت في زورق إلى القصر الملكي، وأدخلها كاتم أسرارها إلى القصر ملفوفة في سجادة.
فلما رآها يوليوس قيصر في هذا الوضع، بُهت لهذه المفاجأة.
ومن هذه اللحظة وقع الدكتاتور الروماني العظيم في غرامها.
وقبلت أن يحكم يوليوس قيصر بينها وبين أخيها، واستعملت مع قيصر سلاح الفتنة والإغراء لتجذبه إلى صفها.
فاستدعى أخاها للتوفيق بينه وبين أخته، ولكن الملك الصبي لم يكد يرى أخته حتى استولت عليه عاصفة من الهياج والغضب، وراح يجري في الشوارع ليستصرخ الجمهور.
وقد أعاده جنود قيصر إلى القصر.
وكادت تحدث فتنة بين الجماهير لولا أن هدَّأ قيصر روعها، وتلا على الجموع وصية بطليموس الزمار التي تقضي باشتراك الأخوين معًا في الحكم وبأن ترعى روما تنفيذ هذه الوصية، وأوضح بذلك حقَّه في التدخُّل في هذا النزاع.
وهدأت خواطر الناس ظاهرًا، وتم الوفاق بين كليوبترة وأخيها وفقًا لرغبة قيصر، وتنفيذًا لوصية أبيهما الزمار.
(٦-٣) الحرب في الإسكندرية (سنة ٤٧-٤٨ق.م)
على أن «أخيلاس» قائد الجيش البطلمي، وكان من أنصار الأخ المزاحم لكليوبترة، أراد لكي يضعضع قوة قيصر ويوقع الذعر في صفوف جنده أن يحاول إخراجه من مصر، فجاء من بيلوز على رأس جيشه، وفاجأ يوليوس قيصر في الإسكندرية، ولم يكن قيصر مستعدًّا لهذه المفاجأة؛ إذ لم تكن القوة التي لديه تكفي لصد هذا الهجوم.
على أنه وهو القائد المحنك لم يعدم الوسيلة للدفاع.
فأضرم النار في أسطول البطالمة الراسي في الميناء الشرقي، وتعالى لهيب هذا الحريق وامتد إلى الحيِّ المجاور للميناء، وفيه المكتبة الشهيرة المعروفة بمكتبة الإسكندرية فدمَّرها.
ولما وصل إلى يوليوس قيصر المدد تغلَّب على الجيش البطلمي، وهزمه في حرب دارت رحاها برًّا وبحرًا في الإسكندرية، وغرِقَ كثير من أفراد الجيش البطلمي أثناء تقهقرهم، وكان بطليموس الثالث عشر أحد هؤلاء الغرقى (سنة ٤٧ق.م).
وانفردت كليوبترة بالحكم مستندة إلى سلطة يوليوس قيصر، على أنها تزوجت بأخيها الأصغر (بطليموس الرابع عشر) وكان صبيًّا دون الثامنة عشرة من عمره، وقيل إن يوليوس قيصر رغَّب إليها هذا الزواج لكي يحترم (ظاهرًا) وصية أبيها الزمار؛ إذ أوصى بأن تشترك مع أخ لها في الحكم وأن تتزوجه.
على أن يوليوس قيصر قد أطال مكثه في الإسكندرية بدون مقتض، وبيَّن أنه شغف حبًّا بكليوبترة وأراد قضاء أطول مدة ممكنة إلى جوارها، وبقي إلى جانبها قرابة ثلاثة أشهر أخرى قام معها في خلالها برحلة نيلية إلى أقاصي الصعيد (سنة ٤٧ق.م)، ورُزقت منه بمولود أسمته «قيصرون» أي قيصر الصغير تيمنًا باسم أبيه الطبيعي.
وقد تبعت كليوبترة يوليوس قيصر إلى روما بصحبتها ابنها الرضيع قيصرون وزوجها الصغير بطليموس الرابع عشر، وأعد لها يوليوس قيصر قصرًا في روما عاشت فيه زهاء سنتين، وشهدت موكب النصر الذي أقيم في روما ليوليوس قيصر، ومشت فيه أختها الصغرى (أرسينوي) مكبَّلة بالسلاسل والأغلال ضمن الأشخاص الكبار الذين حاربوا قيصر وأسَرهم وساروا في ركابه.
وكان لكليوبترة ولا ريب دخْل في مصير أختها؛ إذ كانت تغار منها وتكرهها وتعمل على إزاحتها من طريقها.
ولم تقنع كليوبترة بسجن أختها الصغرى أرسينوي، بل حرضت أنطونيوس فيما بعد على قتلها رغم أنها كانت لاجئة إلى معبد أفسيوس فقُتلت.
على أن استدعاء قيصر لكليوبترة واستضافته إياها في قصر له، جعله موضع التندر لدى الرومان والزراية بهذا المسلك غير القويم من الدكتاتور العظيم.
(٦-٤) مصرع يوليوس قيصر
وظلت كليوبترة تعيش في روما عيشة البذخ والترف، إلى أن لقي يوليوس قيصر مصرعه سنة ٤٤ق.م.
ويرجع مقتله إلى كراهية فريق من الرومان له؛ إذ شاع بينهم أنه يريد أن يحيل الجمهورية إلى ملكية مطلقة، يكون هو على رأسها، فانقض عليه بعض زملائه وفي مقدمتهم «بروتس»، وقتلوه بخناجرهم في مجلس الشيوخ.
(٦-٥) عودة كليوبترة إلى مصر
وبعد أن لقي يوليوس قيصر مصرعه، تحرَّج مركز كليوبترة، فعادت أدراجها إلى مصر ومعها ابنها «قيصرون» وزوجها بطليموس الرابع عشر.
وقد لقي هذا حتفه عقب عودته من روما، وقيل إن كليوبترة دسَّتْ له السم فمات في سن مبكرة، وانفردت هي بالحكم.
(٦-٦) كليوبترة وأنطونيوس
وكانت كليوبترة قد لزمت موقفًا غير واضح بعد مصرع قيصر؛ منتظرة لمن تكون له الغلبة في هذا الصراع الرهيب.
فلما آل الأمر إلى أوكتافيوس وأنطونيوس، أرسل هذا من مدينة «طرسوس» بمقاطعة كليكتا بآسيا الصغرى إلى كليوبترة يستدعيها لكي يحاسبها على موقفها السلبي، وعدم معاونتها لأنصار يوليوس قيصر.
فذهبت إليه سنة ٤١ق.م في سفينة فاخرة، بدت فيها كأجمل ملكة تحيطها مظاهر الزينة والزخرف وآلات الطرَب.
فما أن رآها أنطونيوس حتى وقع في شَرك حبِّها، فصفح عنها وذهب معها إلى الإسكندرية حيث عاش وإياها في لهو وعبث.
وبالرغم من أن الأحداث السياسية قد اضطرَّتْه إلى البعد عنها طوال أكثر من ثلاث سنوات قضاها في الحروب، فإنه عاد إليها مغرمًا بها، واستهان بواجبات منصبه، وكان في غضون ذلك قد تزوج سنة ٤٠ق.م بأوكتافيا أخت أوكتافيوس، ولكنه عاد إلى علاقته بكليوبترة وتزوج بها سنة ٣٧ق.م، واعترف بأن قيصرون هو الوارث الشرعي ليوليوس قيصر.
فاشتدت العداوة بينهما، ولم يكن بدٌّ من الحرب ليصرع أحدهما الآخر.
(٦-٧) معركة أكتيوم البحرية سنة ٣١ق.م بين أوكتافيوس وأنطونيوس، وانتحار أنطونيوس ثم انتحار كليوبترة سنة ٣٠ق.م
وقد وقعت بينه وبين أوكتافيوس معركة بحرية في أكتوبر سنة ٣١ق.م، دارت فيها الدائرة على أنطونيوس.
وفر بعدها مع كليوبترة إلى مصر، فتبعهما أوكتافيوس ووصل إلى بيلوز (الفرما)، واحتلَّها ثم واصل زحفه على الإسكندرية.
وانسحب أنطونيوس إلى الإسكندرية، واستبدَّ به اليأس، فانتحر سنة ٣٠ق.م بأنْ بَقَر بطنَه بخنجره فصرعه الخنجر.
ثم انتحرت كليوبترة من بعده حتى لا يقودَها أوكتافيوس إلى روما ويعرضها في موكب انتصاره، وكان انتحارها بلدغة حية أحضرَتْها خصيصًا؛ لتكون بها نهايتها فكان فيها الموت الزؤام.
(٦-٨) كليوبترة آخر البطالمة
إن كليوبترة هي آخر ملوك البطالمة، وقد كانت سيدة مقدونية يونانية، ولم تكن فيها قطرة دم مصرية.
تولت العرش وعمرها لا يزيد على ثمانية عشر عامًا، وقد شغلت الفترة الأخيرة من حياة الدولة البطلمية، بما انتهى بانتحارها وسقوط هذه الدولة.
وكان انتحارها خاتمةً محتومة لحياتها وحياة الدولة البطلمية.
فقد وضعت لنفسها قاعدة ظنت أنها تستطيع أن تثبت بها عرشها المتداعي، وهي أن تأسر كبار الرجال بغرامياتها فيذعنون لإغرائها وأهوائها.
ولم تكن الغراميات في أي عصر من العصور وسيلة للدبلوماسية الناجحة التي تنهض بالدول والشعوب.
ومن ثم انتهى دور كليوبترة بالإخفاق والانتحار.
لقد فتنت وقتًا ما يوليوس قيصر وهو في أوج سلطانه، وانتهى الأمر إلى أن لقي مصرعه على يد بروتس وشركائه.
وحين آل أمر الدولة الرومانية إلى أنطونيوس وأوكتافيوس، أرادت أن تأسر كليهما واحدًا بعد آخر؛ لتضمن نفسها على العرش.
ولقد أفلحت في السيطرة على أنطونيوس فوقع في شراك حبها ونسي واجبات منصبه، وتزوج بأوكتافيا أخت أوكتافيوس، ولم يمنعه هذا الزواج من أن يعود إلى غرام كليوبترة.
ويقول بعض المؤرخين: إن كليوبترة لم تكن أجمل من أوكتافيا، ولم تكن تفضلها إلا بأنها سيدة لعوب، تأسر الرجال بعبثها وجاذبيتها وعذوبة حديثها.
ولم تكن ترى في الحب ارتباطًا شريفًا بين قلبين متحابين يجمع بينهما الإخلاص والوفاء المتبادلان، بل كانت ترى فيه مصيدة للرجال تأسرهم به واحدًا بعد آخر، غير ناظرة إلا إلى مصالحها وأهوائها، ومثل هذا النوع من المُجون هو أبعد ما يكون عن الحب الشريف، وأقرب الظواهر إلى الفساد والتدهور والسقوط الأدبي والمعنوي.
ولعلها من أجل ذلك كانت شؤمًا على مَن أحبَّتْهم، أو تظاهرت بالحب لهم.
فقد قيل إنها أحبت ابن بومبي خصم يوليوس قيصر، وأمدَّتْه بنجدة بحرية ولكن بومبي آل مصيره إلى القتل؛ إذ لقي مصرعه على شاطئ بيلوز سنة ٤٨ق.م، وأحبها يوليوس قيصر فلقي مصرعه في روما؛ إذ طعنه بروتوس وشركاؤه طعنات قاتلات في الوقت الذي كانت كليوبترة تعيش معه عيشة الهوى والغرام على ضفاف نهر التيبر.
ولما لقي يوليوس قيصر مصرعه بادرت هي بالرحيل عن روما، وعادت أدراجها إلى مصر.
ولما أحبها أنطونيوس أعماه الحب عن واجباته نحو دولته وتردى في هوة الانحدار والسقوط حتى فقد مكانته، ومُني بالهزيمة في واقعة أكتيوم سنة ٣١ق.م، وانسحبت كليوبترة من المعركة حتى لا تقاسم أنطونيوس مرارة الهزيمة وعادت إلى مصر، وعاد إليها هو أيضًا ثم لم يلبث أن انتحر بتأثير اليأس والإخفاق والهزيمة.
فتملَّكها اليأس وعرفت المصير الذي كان ينتظرها لو بقيت على قيد الحياة، فإنها ولا ريب كانت ستُساق أسيرة ذليلة مكبلة بالقيود والأغلال تجتاز شوارع روما في موكب النصر لأوكتافيوس الظافر.
وتذكرت أنها ستلقى المصير الذي لقيته أختها «أرسينوي»؛ حيث سارت مكبلة بالأغلال في موكب النصر الذي أقيم ليوليوس قيصر، فآثرت الموت على هذا المصير، وانتحرت سنة ٣٠ق.م.
وانتهى بانتحارها حكم البطالمة في مصر.