الفصل الرابع عشر
مقاومة مصر للاستعمار الروماني وعصر الشهداء
صارت مصر ولاية تابعة للدولة الرومانية بعد انتصار أوكتافيوس على أنطونيوس في واقعة
أكتيوم سنة ٣١ق.م، وانتحار أنطونيوس وكليوبترة سنة ٣٠ق.م، ودخول أوكتافيوس الإسكندرية
ظافرًا (أول أغسطس سنة ٣٠ق.م).
واعتمدت الدولة الرومانية على قوتها الحربية لتثبيت مركزها في مصر، فأبقت بها حامية
من
نحو ثلاثين ألف مقاتل كانت كافية لإخماد الثورة فيها.
يقول «هارولد بل» في هذا الصدد: «كانت إفريقية ومصر الموردين الرئيسيين للغلال إلى
الإمبراطورية الرومانية؛ أما إفريقية ولاية تابعة لمجلس الشيوخ، هدأت أحوالها منذ أمد
طويل
ولم تصبح في حاجة إلى قوة حربية، وأما مصر فنظرًا لقرب عهدها بالغزو الروماني، ولشهرتها
بالشغب والاضطرابات، كانت في حاجة إلى حامية قوية، فأبقى أوكتافيوس فيها ما لا يقل عن
ثلاث
فرق مضافًا إلى ذلك القدر المقرر لتلك الفرق من القوات المساعدة.»
١
لم يكن استيلاء الرومان على مصر أمرًا مستغربًا.
فإن دول أوروبا جميعًا قد دانت الدولة الرومانية، واستقرت سيطرتها على جميع الشعوب
التي
تحيط بحوض البحر المتوسط، ولم يبقَ خارجًا عن سيطرتها سوى بعض الدول في آسيا والقبائل
المتبربرة شمالي الدانوب.
وانفرد أوكتافيوس بادئ الأمر بالسياسة العليا في الدولة الرومانية، ولُقب «أغسطس –
العظيم» وصار الرئيس الأعلى للدولة، فصارت له سمات الإمبراطور، وانتهى بذلك عهد الجمهورية
الرومانية، وبدأ عهد الإمبراطورية في روما والبلاد التي تبعتها.
وتولى ولاة من قِبَل روما شئون الحكم في مصر.
وظلت الإسكندرية عاصمة البلاد كما كانت في عهد البطالمة ومقرًّا للوالي الروماني،
واستمرت اللغة اليونانية لغة الدولة الرسمية.
وبلغت أملاك الدولة الرومانية ذروتها في عهد الإمبراطور تراجان Trajan، فكانت تمتد من نهر دجلة شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن
إنجلترا إلى الصحراء الكبرى جنوبًا.
ولم يكن حكم الرومان خيرًا من حكم البطالمة فلقد جعلوا مصر مستعمرة رومانية، وعاملت
روما
الشعب المصري كأنه شعب مقهور على أمره.
وميز الرومان اليونانيين واليهود على المصريين؛ لعلمهم أنهم لا يكترثون إلا لمصالحهم
الشخصية، ولا ينظرون إلى مصر إلا من الزاوية الاستعمارية، وبعد وفاة أغسطس تولى الحكم
بعده
الإمبراطور نيبربوس.
وفي عهده حظر الرومان على المصريين حمل السلاح، ومن يحمله كان يُحكم عليه بالإعدام؛
وذلك
خوفًا من ثورتهم،
٢ على أن سكان الإسكندرية أظهروا حنَقَهم على اليهود عملاء الاستعمار
الروماني.
واهتم الرومان بمصر واستبقائها في حوزتهم؛ لأنها كانت أعظم مورد للقمح إلى روما.
(١) مظالم الحكم الروماني
كانت مظالم الحكم الروماني لا تقل عن مظالم البطالمة، كلاهما كان يعتبر مصر مستعمرة
له، وكلاهما كان يُرهق الشعب ويبتزُّ منه أكثر ما يمكنه من الضرائب.
ولم يكن للعدل ظل من الوجود في هذا العهد.
وكان الرومان واليونانيون واليهود هم المميزين في عهد الاستعمار الروماني، أما الشعب
المصري فكان يعاني الاضطهاد والضيق والحرمان.
وساءت الحالة الاقتصادية في البلاد.
وفي ذلك يقول «هارولد بل»: «وقصة مصر الرومانية على أي حال سجلٌّ أليم للاستغلال
المنطوي على قِصر النظر، والذي كان مصيره المحتوم أن يؤدي بالبلاد إلى خراب اقتصادي
واجتماعي، وقد أشرت من قبل إلى ما تنطوي عليه النظرية الباطلة التي تقضي باعتبار معاملة
أمة من الأمم على أساس أنها مجرد ضيعة تُستغل لصالح حكامها وسادتها»، إلى أن قال: «وكان
جزء كبير من القمح الذي يقدمه الفلاحون الملكيون على سبيل الإيجار أو يدفعه ملَّاك
الأراضي كضريبة، وكذلك الضرائب النقدية العديدة، كل هذا يُشحَن إلى روما لينتفع به الشعب
الروماني مع ما في هذا من خسارة جسيمة فادحة بالنسبة لمصر.»
٣ إلى أن قال: «وتمسَّك الرومان بأهداب الفكرة الأساسية، وهي أن مصر بقرة
حلوب تدر لبنها لصالح روما وما يعود عليها بالخير، ولا ريب أن تلك البقرة كانت غنية
بلبنها، ولكن روما حرصت على الإفراط في استنزاف ذلك اللبن إلى آخر قطرة بانتظام»، ثم
قال: «وحتى قبل القرن الأول الميلادي بدت البوادر المنذرة بالسوء، فالفيلسوف اليهودي
فيلون
Philo عندما كان يؤلف كُتُبه في عهد
كاليجولا
Caligula وكلوديوس
Claudius قدَّم صورة فظيعة للأحوال السائدة في عصره، فتحدَّث عن جُباة
الضرائب الذين لم يكونوا يتورعون عن الاستيلاء على مومياء العاجز عن سداد الضرائب
المستحقة عليه؛ كي يُكرهوا ذوي قرباه على دفع المتأخرات، كما أشار إلى الزوجات والأطفال
وغيرهم من الأقرباء الذين زُج بهم في غياهب السجون ولاقوا أصناف التعذيب؛ كي يعترفوا
بمكان الهارب المطلوب. كما تحدَّث عن قرى برُمَّتها بل ومدن هجرها سكانها، وفي تاريخ
مبكر يرجع إلى عام ٢٠ بعد الميلاد، بدأنا نسمع عن التجاء دافعي الضرائب إلى الفرار
والاعتصام بأحد المعابد، وفي بردية كُتبت في تاريخ يتراوح بين عام ٥٥ و٦٠م أبلغ الجباة
الموكلون بتحصيل ضريبة الخراج الرأسي من ست قرى بالإقليم الأرسينويني (الفيوم)، في تقرير
ضمَّنوه أن «السكان في القرى سالفة الذكر، بعد أن كانوا كثيرين تضاءل عددهم إذ ذاك،
وانكمشوا حتى أصبحوا قلة من بضعة أفراد؛ لأن البعض آثر الفرار بعد أن ضاقت سُبل الرزق
في وجوههم، والبعض الآخر أدركهم الموت دون أن يتركوا ذرية من بعدهم».» إلى أن قال:
«ويبدو أن الإجراءات التي أخذها تيبريوس بوليوس الإسكندر قد أثمرت وآتت أُكُلها؛ لأنه
ليس من قبيل الصدف في أغلب الظن أن ما بقي من سجلات يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من
القرن الأول اشتملت على بيانات أقل من سالفاتها عن وجود اضطراب خطير، ولكن بدعة في
النظام الإداري كان قد سبق إدخالها في مصر وقُدِّر لها أن تكون ذات أثر وخيم.
فالبيروقراطية البطلمية كانت بصفة خاصة محترفة، تعتمد على التطوع في الحصول على الموظفين
والأيدي العاملة فيها، وجباية الضرائب تجري عليها عن طريق طرحها في مزاد يشترك فيه
الملتزمون الذين كانوا يتقدمون بعطاءاتهم بمحض حريتهم، والمستأجرون الملكيون على الرغم
مما كان يُفرض على حريتهم في التنقل من قيود، كانوا يتقدمون بطلباتهم بمحض الاختيار
لإبرام عقود الإيجار لهم، وفي أوقات الأزمات والملمَّات، كانت الحكومة تعمد إلى إدراج
أسماء الأشخاص الذي تتوسم فيهم الأهلية والصلاحية ضمن موظفيها، حتى ولو كان هذا ضد
إرادتهم، كما كانت الحكومة تعمد إلى إكراه الملتزمين في جباية الضرائب على الاضطلاع
بعقودهم، وإلى إكراه الفلاحين على قبول عقود الإيجار.»
ثم قال: «وبتطبيق هذا النظام بشدة لا هوادة فيها أدى الأمر إلى القضاء أولًا على
الفلاحين الموسرين، ثم على الطبقة الوسطى ذات الغنى واليسار، على أن الإكراه والإجبار
لم يقتصروا على هذا النطاق، فإن الشروط المعروضة على الفلاحين المستأجرين لأراضي
الدومين لم تكن سخية، كما أن الترضيات والإعفاءات التي كانت تُبذل في أوقات الضنك
الاقتصادي والضيق المستحكم كانت مرموقة بالبغض والحقد، إلى حد أنه أصبح من المستحيل في
بعض الأحيان العثور على من يتقدم للمزايدة في العطاءات طوعًا واختيارًا، وفي مثل هذه
الأحوال كانت الدولة تلجأ إلى الإكراه والإجبار بإحدى وسيلتين: إما بضم ما يؤجر من
الأرض في نطاق قرية ما إلى قرية أخرى؛ حيث يقع عبء زراعتها على كاهل القرويين بتوزيعها
عليهم عن طريق القرعة، وإما باللجوء إلى وسيلة يطلق عليها «العبء الإضافي»، وبمقتضاها
كانت أنصبة من أرض الدومين تُقتطع وتُلحق بأرض الملكية الخاصة؛ حيث يضطر ملاكها أن
يزرعوها مع أملاكهم الخاصة، وبهذه الطريقة كاد أن يئول الأمر في النهاية بأرض الدومين
إلى أن يعتريها الزوال في العصر البيزنطي، بأن تبتلعها الأرض الخاصة التي أصبحت مرتبطة
بها، وفي حالة تطبيق الطريقة الأولى المنطوية على التوزيع كانت الجماعة كلها مسئولة عن
زراعة الأرض، وبالتالي عن دفع الضرائب (وهذا هو بيت القصيد)، أما في حالة تطبيق الطريقة
الثانية فكل فرد مسئول عما التزم به، ولكن ظهرت المسئولية الجماعية باطراد — على حد
قول
فيلون — بمضي الزمن واتخذت طابعًا عامًّا، فإذا توارى واحد من دافعي الضريبة المستحقة
عليه تُجبى من زملائه من أعضاء الجماعة، وإذا عجز مستأجر عن دفع ما عليه أو هرب مالك
للأرض فإن واجب فلاحة هذه الأرض كان يقع على الآخرين، وفضلًا عن ذلك فإن أولئك الذين
كان من واجبهم ترشيح شاغلي الوظائف — سواء أكانت مما يدخل في نطاق الوظائف التي يؤجر
عليها شاغلوها أم الوظائف الشرفية — اعتُبروا ضامنين، بل إنهم كانوا أنفسهم مسئولين عما
قد يَنشأ من عجز بسبب المرشحين من قِبَلهم، ولا بد أن الفرد أخذ يشعر شيئًا فشيئًا على
توالي السنين بوقوعه داخل شبكة ضاقت منافذها وأُحكمت حلقاتها حتى لم تعُد تسمح لأحد
بالفرار منها.»
٤
وظلت مصر ترزح حكم الرومان سبعة قرون بدأت من سنة ٣٠ق.م، وانتهت بالفتح العربي عام
٦٤٠–٦٤٢ ميلادية على يد عمرو بن العاص.
(٢) الثورات على الرومان
(٢-١) الثورة في منطقة طيبة
لم تكد تمضي بضعة أشهر على الغزو الروماني، حتى نشِبت الثورة في الوجه
القبلي.
وكانت «طيبة» معقلها، كما كانت معقل الثورات في عهد البطالمة، ونكل الثائرون
بجُباة الضرائب من الرومان.
فجرَّدت الحكومة حملة على طيبة بقيادة جالوس الحاكم الروماني، وكان أول حاكم على
الإسكندرية.
فأخمد الثورة ونكَّل برجالها، واستولى على خمس مدن منها قَفْط والأقصر وأسوان،
وتقدَّم إلى ما وراء الشلال الأول.
(٢-٢) الثورة في الشمال الشرقي من الدلتا
وشبَّت الثورة في الشمال الشرقي من الدلتا بتل المسخوطة، فأخمدتها القوة.
(٢-٣) الثورة في النوبة
وكان أهل النوبة قد عاونوا ثوار طيبة في كفاحهم ضدَّ المستعمرين الجدد
(الرومان).
فلما نجح الحاكم الروماني في إخماد ثورة طيبة، زحف جنوبًا لإخماد الثورة في
النوبة فيما وراء شلال أسوان، ولكنه لم يوفَّقْ في إخمادها، وترك لأهل النوبة
استقلالًا ذاتيًّا، واعتزموا بالسيادة الرومانية اسمًا لا فعلًا.
ثم قام النوبيون في نحو سنة ٢٤ق.م بثورة جامحة، وهاجموا الحاميات الرومانية في
صعيد مصر، فاستعد الرومان لإخماد هذه الثورة وأخمدوها واستولوا على نباتا عاصمة
النوبة ونهبوها.
وبعد عامين من إخماد هذه الثورة قامت الملكة «كانداكي» وزحفت على الرومان عند
قلعة إبريم، وإذ تعادلت القوتان عُقد صلح بين الرومان والنوبيين، كان من أهم شروطه
إعفاء النوبة من دفع الجزية للرومان، واستمر السلم لفترة طويلة.
وأقام الرومان الحصون والمعاقل في بعض بلاد النوبة كالدكة وكلابشة وقرطاسة
وإبريم.
ولا تزال آثار هذه الحصون باقية إلى اليوم.
(٣) عداء المصريين للرومان واليهود
رأى المصريون من ممالأة الرومان لليهود في الإسكندرية ما زادهم سخطًا على الاحتلال
الروماني، وثارت الإسكندرية على اليهود عملاء هذا الاحتلال كما كانوا عملاء الاحتلال
البطلمي من قبل.
وفي عهد الإمبراطور تراجان جدد بناء حصن بابلون؛ ليكون المقر الرئيسي للحامية
الرومانية.
ولا تزال آثار هذا الحصن قائمة إلى اليوم بمصر القديمة، وهو الحصن الذي قاوم العرب
سنة ٦٤١م، حين فتحهم لمصر.
(٤) ظهور المسيحية في مصر
إن الاضطهاد الذي وقع على المصريين من الحكم الروماني، كان من أسباب انتشار المسيحية
في مصر.
فقد قام القديس مرقس Saint Marc أحد حوارييِّ السيد
المسيح إلى الإسكندرية، وبشَّر بالمسيحية السمحة فاعتنقها الكثيرون.
وكان اعتقاد المصريين القدماء في البعث بعد الموت، ومعاناتهم لظلم الرومان مما سهَّل
لهم اعتناق المسيحية؛ إذ رأوها تبشِّر بحياة أفضل من الوثنية.
(٥) اضطهاد الرومان للمسيحيين في مصر
حين ظهرت المسيحية في مصر كانت روما لا تزال على الوثنية وكذلك أباطرتها، فحاربوا
المسيحيين واضطهدوهم في أنحاء الإمبراطورية الرومانية، واضطهدوا الأقباط في مصر.
وحين تولى الإمبراطور دقلديانوس Diocletien عرش
روما سنة ٢٨٤ ميلادية شنَّ على المسيحيين (الأقباط) اضطهادًا دام نحو عشرين عامًا قاست
فيها مصر الشدائد والأهوال، واستشهد خلالها الألوف من المصريين المسيحيين
(الأقباط).
ودقلديانوس هذا هو المقام له العمود المعروف بعمود السواري، أو ما يسمى خطأ عمود
بومبيي، وهو قائم إلى اليوم بالإسكندرية.
اشتهر عهد دقلديانوس باضطهاد المسيحيين (الأقباط) منذ أواخر القرن الثالث بعد الميلاد،
على نحوٍ فاقَ كل ما أصابهم من قبل.
وسُمي عهدُه «عصر الشهداء»؛ لكثرة من استُشهد فيه من المصريين المعتنقين
للمسيحية.
وقد جعل الأقباط بداية التقويم القبطي سنة ٢٨٤م، وهي السنة التي بدأ فيها حكم
دقلديانوس، وسُمي عهده بحق عصر الشهداء.
وتخليدًا لذكرى أولئك الشهداء، جعلوا التقويم يبدأ بالسنة التي بدأ فيها هذا الاضطهاد
الشديد.
وقد كان تمسُّك المصريين المسيحيين (الأقباط) بعقيدتهم من ضروب المقاومة الوطنية ضد
الاحتلال الروماني.
قال المؤرخ المقريزي عن اضطهاد دقلديانوس للأقباط ما يلي: «إنه أوقع بالنصارى فاستباح
دماءهم، وغلَّق كنائسهم ومنع من دين النصارى، وحمل الناس على عبادة الأصنام، وبالغ في
الإسراف في قتل النصارى.» إلى أن قال: «وكانت واقعته بالنصارى هي الشدة العاشرة وهي
أشنع شدائدهم وأطولها؛ لأنها دامت عليهم مدة عشر سنين لا يفتر يومًا واحدًا؛ يحرق
كنائسهم ويعذب رجالهم ويطلب مَن استتر منهم أو هرب ليُقتل، يريد بذلك قطع أثر النصارى
وإبطال دين النصرانية من الأرض؛ فلهذا اتخذوا ابتداء دقلديانوس تاريخًا.»
٥
هذا، وقد كان لاضطهاد الرومان للمصريين أثره في ارتياحهم للفتح العربي سنة ٦٤٠–٦٤٢م،
إذ رأوا مِن عدلِ العرب وتسامحهم الديني، ما جعلهم يتقبَّلون هذا الفتحَ كمنقذ لهم من
اضطهاد
الرومان.
(٦) اعتناق الإمبراطور قسطنطين للمسيحية
وفي عام ٣٢٤ ميلادية أعلن الإمبراطور قسطنطين اعتناقه للمسيحية، وهو الذي اتخذ
بيزنطة (القسطنطينية) عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية.
(٧) عودة الفرس لاحتلال مصر، ثم إجلاؤهم عنها
وفي سنة ٦١٤م، قبل الفتح العربي لمصر بسنوات، هاجم الفرس الرومان في سورية وفلسطين،
واستولوا على دمشق وبيت المقدس سنة ٦١٥م.
ثم هاجموها في مصر، وحاصروا الإسكندرية إلى أن فتحوها سنة ٦١٧م وأخضعوا مصر سنة ٦١٨،
وبلغوا في فتوحهم أسوان، وبقي الفرس نحو عشر سنوات محتلين البلاد.
٦
ثم لم يلبث هرقل إمبراطور الرومان أن أعاد الكرَّة، فحارب الفرس وأجلاهم عن مواقعهم
في آسيا الصغرى، وعن سورية وبيت المقدس، ثم عن مصر سنة ٦٢٧م.
وفي ذلك نزلت الآية الكريمة:
غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ
* فِي بِضْعِ سِنِينَ.
٧
وقد ظهرت دعوة محمد
ﷺ إذ نزل عليه الوحي سنة ٦٠٩ ميلادية، وهاجر من مكة إلى
المدينة سنة ٦٢٢ (أول سنة للتاريخ الهجري)، في الوقت الذي كان الرومان يحاربون فيه
الفرس.
(٨) استمرار الاضطهاد الديني في مصر بعد اعتناق الرومان للمسيحية
بالرغم من اعتناق أباطرة الرومان للمسيحية، فقد استمر الاضطهاد للمذاهب المسيحية في
مصر عدا مذهب الحكومة.
لقد تمسَّك المسيحيون المصريون (الأقباط) بمذهبهم المناهض لمذهب الأباطرة، فكان من
شأن ذلك أن أسبغ على الحركة المسيحية في مصر طابعًا قوميًّا، وأصبح رجال الكنيسة زعماء
المصريين في الحركة الروحية والوطنية معًا.
وجاء مسلك أباطرة الرومان مظهرًا من مظاهر التعصب الديني، وجاء دليلًا على أن
اعتناقهم المسيحية لم يكن له أثر في حملهم على التسامح الديني، حتى مع شركائهم في أصل
العقيدة.
وكان التعصب المذهبي شديدًا في عهد هرقل، آخر أباطرة الرومان الذين حكموا مصر.
فقد سعى هرقل جهده في توحيد المذاهب المسيحية، وعقد لذلك مجمعًا في خلقيدونية،
٨ حضره بطارقة الشام والقسطنطينية وأقروا مذهبًا مسيحيًّا موحدًا، وأمر هرقل
كل المواطنين في الشام ومصر أن يتبعوا المذهب الموحد، فكان من ذلك اضطهاد المسيحيين
الأحرار، وكانت الكنيسة الشرقية من أجل ذلك موضع سخطهم ونقمتهم.
ومن مظاهر الاضطهاد أن عيَّن هرقل سنة ٦٣١ قيرس (المقوقس)
٩ بطرقًا للإسكندرية ونائبًا عنه بمصر، وطلب إليه أن يحمل أهل مصر على
اعتناق المذهب المسيحي الموحد، فأبى الأقباط عليه ذلك.
وكان بنيامين
١٠ كبير أساقفة الأقباط في مصر يتولى بطرقة الإسكندرية فعارض المذهب الجديد،
فاضطهده قيرس واضطره إلى الهجرة من الإسكندرية تفاديًا من اضطهاد، وظل مختفيًا في
أديرة الصعيد، ولم يظهر إلا بعد الفتح العربي لمصر.