الفتح العربي لمصر (سنة ٦٤٠–٦٤٢م)
فتح العرب مصر في القرن السابع الميلادي (الأول للهجرة)، وكان هذا الفتح دورًا من أدوار الوحدة العربية.
ولقد قلنا تفسيرًا لهذه الظاهرة التاريخية: «وإذ كانت الرسالات الروحية من أركان الحضارة البشرية، فإن الشرق العربي هو أيضًا موطن هذه الرسالات.
فإبراهيم الخليل (أبو الأنبياء) قد نشأ عربيًّا في جنوب العراق منذ نحو ألفي سنة قبل الميلاد، ودعا إلى التوحيد، ورحل إلى فلسطين فمصر ثم إلى الحجاز، وبنى الكعبة في مكة مع ابنه إسماعيل.
وفي جبل سيناء كلم الله موسى تكليمًا.
وفي فلسطين نشأ السيد المسيح الذي أصابه من اضطهاد الرومان والإسرائيليين ما أصابه، وعلى يده ظهرت المسيحية السمحة، الداعية إلى الإخاء والسلام لا إلى البغي والعدوان.
وفي ظلال البيت الحرام نشأ محمد ﷺ، ونزل عليه الوحي سنة ٦٠٩م، ودعا إلى رسالة الإسلام، رسالة التوحيد والإيمان، فتصدى له قومه وحاربوه، وهاجر إلى المدينة في السنة الأولى للهجرة (٦٢٢م)، وبهجرته يبدأ التاريخ الهجري.
وفي السنة الثامنة للهجرة (٦٣٠م)، سار لفتح مكة بعد أن نقض أهلها عهد الحديبية، فتم له فتحها، وكان لهذا الفتح أثره وفضله في توحيد كلمة العرب.
وقد انتشر الإسلام أول ما انتشر بين سكان الجزيرة العربية، ولما تُوفِّي الرسول (محمد ﷺ) في السنة الحادية عشرة من الهجرة (٦٣٢م)، خلفه أبو بكر الصدِّيق أول الخلفاء الراشدين، فوحَّد كلمة العرب في شبه الجزيرة واستخلص هذه الوحدة من أيدي المنتقضين عليها من المرتدِّين، واتجه إلى توحيد كلمة العرب عامة، فأنفذ إلى العراق سنة ١٢ﻫ/٦٣٤م جيشًا عَهد بقيادته إلى قائد من خيرة قواده، وهو خالد بن الوليد، فاستخلص العراق من أيدي الفرس في حرب خاطفة جعلت اسمه في مصافِّ عظماء القواد في التاريخ، وأنفذ جيوشًا أخرى إلى بلاد الشام، وكانت تحت حكم الروم البيزنطيين (الرومان)، وأمر خالد بن الوليد أن يسير إلى الشام ليقود هذه الجيوش، فانتقل من العراق إلى الشام وقاد الجيوش العربية، وهزم الروم البيزنطيين في واقعة «أجنادين» بين بيت المقدس وغزة (سنة ٦٣٤م/١٣ﻫ).
وفي أعقاب هذه الواقعة زحف الجيش البيزنطي على مواقع الجيش العربي، فالتحم الجيشان في واقعة «اليرموك» شرقيَّ نهر الأردن، وانتصر الجيش العربي بقيادة خالد بن الوليد انتصارًا مبينًا (أول سبتمبر سنة ٦٤٣م)، وبهذه المعركة الحاسمة قُضي على دولة البيزنطيين في الشام.
ولما تُوفِّي أبو بكر الصديق قُبيل واقعة «اليرموك»، تولى الخلافة من بعده عمر بن الخطاب، وفي عهده تم فتح العراق على يد قائد عربي محنَّك هو سعد بن أبي وقاص، الذي هزم الفرس في معركة «القادسية» بالعراق.
وكانت معركة القادسية فاصلة لصالح العرب في العراق، كما كانت واقعة اليرموك في الشام.
(١) ماذا كانت عليه حال مصر قبل الفتح العربي
لكي نتفهم كُنْه الفتح العربي، يحسُن بنا أن نتعرف حالة مصر قبل هذا الفتح، فإنها ولا شك تطالعنا بحقيقته وغايته، وأنه كان إنقاذًا لها من الاضطهاد الديني وفساد الحكم الروماني.
فالرومان كانوا يعتبرون مصر مستعمرة لهم يستغلون خيراتها ويغتصبون أموالها، وكان نوابهم فيها يعاملون الأهلين معاملة جائرة لا عدل فيها ولا إنصاف، وحكام البلاد من رواد الاستعمار يرهقون الأهليين بالضرائب الفادحة لكي يملئوا خزائن الأباطرة الرومان ويُشبعوا أهواءهم، والاضطهاد الديني الذي يعصف بحرية العقيدة ويزيد النفوس سخطًا ومرارة، فنواب الرومان يعملون على إجبار الأهليين على اعتناق المذهب الرسمي المسيحي للدولة، ولا يقبلون منهم أن يمارسوا عقيدتهم في حرية واختيار، وكان من آثار هذا الاضطهاد أن حورب الأسقف «بنيامين» بطريق الإسكندرية؛ لأنه رفض الإذعان لهذا الاضطهاد، واضطره قيرس (المقوقس نائب هرقل) كما سلف القول، إلى الهجرة من الإسكندرية والاختفاء بأديرة الصعيد عدة سنوات، ولم يظهر إلا بعد الفتح العربي الذي أطلق الحرية الدينية من عقالها.
وقال عن الحالة فيها: «إن الفوضى قد تفاقمت لدرجة أنه لم يكن معروفًا في القسطنطينية ما يجري هناك، وقد انتشر الفقر في مصر وازداد السخط على الحكم البيزنطي، فصارت البلاد في حالة انتقاض على هذا الحكم تشبه الثورة.»
وفي أواخر عهد الحكم البيزنطي كانت الضرائب الباهظة تُرهق الشعب، وكانت الطبقات الفقيرة من الفلاحين تسام الخسف من هذه المعاملة، وموظفو الحكومة يظلمونهم ويتساهلون مع الأغنياء.
وقال بتلر في موضع آخر:
فالحالة في مصر كانت تمهيدًا للفتح العربي وتفسيرًا له.
(٢) المقوقس
وقد عيَّن هرقل سنة ٦٣١م الأسقف قيرس (المقوقس)، وهو روماني من أصل يوناني نائبًا عنه في مصر، وبطرقًا ملكيًّا للإسكندرية عاصمة البلاد وقتئذٍ.
وجاء المقوقس الإسكندرية في تلك السنة، واضطهد الأقباط لإجبارهم على اتباع مذهب الحكومة الديني، وكان من مظاهر هذا الاضطهاد هجرة البطرق بنيامين من الإسكندرية قبل فتح العرب لمصر بسنين، كما سلف القول.
يقول ألفريد في هذا الصدد:
«لا يُذكر في ذلك العصر كله في أثناء الاضطهاد إلا شيء واحد، وهو أن الرومان كانوا يُخيرون الناس بين قبول مذهب خلقيدونية بنصه وبين الجلد أو الموت، ولم يكن في عقول مؤرخي الأقباط إلا هذا الاعتقاد يدونونه في دواوينهم، فيلوح من ذلك أن قيرس أحس بإخفاقه في سعيه من مبدأ الأمر، وكان يود أن يحمل الأقباط على المذهب الذي تقرر مهما تكلف في سبيل ذلك، فلم يعبأ بعد بما أدخله الإمبراطور على هذا المذهب من التهذيب، بل كان يُعرض على الناس أحد أمرين لا تعقيد فيهما، وهما قبول الدخول في الجماعة أو الاضطهاد.
وكانت البلاد كلها عند ذلك تحت يد قيرس (المقوقس) يصرِّفها كيف شاء، وكان جيش الرومان مرة أخرى يملك مصر، فكانت طرق الإسكندرية البراقة تتجاوب جوانبها بأصداء الكتائب البيزنطية إذ تسير فيها، وعادت جنود الروم إلى الأسوار العظيمة أسوار المدينة وآطامها ووضعت عليها آلات حربها، وبعثت المسالح إلى مدينة الفرما (بيلوز)، وهي ثغر الطريق الآتية من فلسطين إلى مصر، وإلى بلاد مصر السفلى مثل أثريب ونقيوس، وكذلك إلى الحصن العظيم حصن «بابلون» بقرب منف، ومن ثم عاد سلطان الروم فانتشر على بلاد الفيوم ووادي النيل، حتى بلغ الحدود من الجنوب عند أسوان في أسفل الجنادل، وكانت كل تلك الجنود والكتائب عند أمر «قيرس» ماثلة لإنفاذ أمره إذا ما دعاها، ولم يتحرك الأقباط بطبيعة الحال عندما عاد جند الروم إلى البلاد، ولكنهم وجدوا بعد قليل أن حكم الفرس إن لم يكن مما يُحب ويُرغب فيه فإن حكم الروم الجديد لم يكن حدثًا يحمدونه ويفرحون من أجله، فقد وجدوا فيه أنواع العقاب وصنوف العذاب، فكأنهم وقد خرجوا من حكم الفرس إلى حكم الروم، قد رُفع عنهم التعذيب بالسياط ليحل بهم تعذيب آخر من لسع العقارب؛ إذ بينما كان غزاة الفرس بعد أن استقر بهم الأمر في البلاد لا يحُولون على الأقل بين الأقباط وبين التدين بما يشاءون من الدين، جاء قيرس (المقوقس) فعوَّل على أن يحرمهم تلك الميزة الكبرى وينزعها من أيديهم.»
(٣) الاضطهاد الأعظم
(٤) التفكير في فتح مصر
كان التفكير في الفتح العربي لمصر أثناء الفتح العربي في فلسطين.
وهناك في السنة ١٧ هجرية (٦٣٩ ميلادية)، جاءه وفد من أهل بيت المقدس فصالحهم وأمَّنهم.
ثم ذهب إلى بيت المقدس فاستقبله أهل المدينة المقدسة بالبِشر والارتياح، وصلى في مكان قريب من الصخرة المقدسة، وهو المكان الذي أقيم فيه المسجد الأقصى فيما بعد.
وفي «الجابية» عرض عمرو بن العاص على عمر بن الخطاب فكرة فتح مصر، وكان من قبل يعرضها عليه، فتردد عمر في قبول الفكرة؛ إذ خشي عواقب تشتيت قوة العرب في حين كانت جيوشهم تقاتل الرومان والفرس.
فلم يزل عمرو بن العاص يحسِّن إليه فتح مصر حتى اقتنع بالفكرة، على أنه استمهله حتى يعود إلى المدينة ويكتب إليه.
(٥) عمرو بن العاص
كان عمرو بن العاص من خيرة قواد العرب، ومن أكثرهم خبرة وحكمة ومقدرة في الحرب والسياسة. كان راجح العقل، نافذ البصيرة، بعيد الهمة، ومن أشجع العرب وأبعدهم نظرًا، ومن أبلغهم عبارة وأفصحهم لسانًا، وكان أحد قواد الفتح العربي في سورية وفلسطين.
وقد مارس التجارة في صباه، فساعدته هذه المهنة على الاتصال بمختلف الأجناس والشعوب، وكان لها أثرها في اتساع أفقه وازدياد خبرته بالشئون السياسية والاجتماعية.
ومن البلاد التي زارها من قبل التجارة الشام ومصر والحبشة واليمن، وزار الإسكندرية حين مجيئه إلى مصر.
ولعله قد شاهد وهو في مصر مبلغ ظلم الرومان للمصريين، واضطهادهم في عقائدهم الدينية، وإكراههم على اتباع مذهب الحكومة الرسمي (الملكاني)، وعرف سخط المصريين على هذا الظلم، وما يؤدي إليه من ضعف مقاومة الرومان لما يجيء فاتحًا لمصر، منقذًا لها من ظلم الرومان.
عهد عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص قيادة الجيش لفتح مصر، وكان في الخامسة والأربعين من عمره.
ولم يكن هذا الجيش يزيد في بداية الأمر على أربعة آلاف مقاتل من الفرسان.
فسار عمرو بهذا الجيش في جوف الليل من فلسطين قاصدًا مصر، ولم يشعر به أحد.
(٦) تردد عمر بن الخطاب
على أن عمر بن الخطاب قد تردَّد بعد عودته إلى المدينة؛ إذ كان جماعة من ذوي الرأي والمكانة، وفي مقدمتهم عثمان بن عفان، يرون غزو مصر مخاطرة لا تُؤمن عواقبها.
ودفع بالكتاب إلى رسوله يحمله إلى عمرو بن العاص.
أدرك عمرو الكتاب وهو بعد في «رفح» التي لم تكن وقتئذٍ معدودة من أرض مصر، فخشي إن هو أخذ الكتاب وفتحه أن يجد فيه الانصراف، كما عهد إليه عمر.
فلم يأخذ الكتاب من الرسول، ودافعه وسار في طريقه، حتى نزل قرية فيما بين رفح والعريش.
فسأل عنها، فقيل له: إنها من مصر.
فدعا بالكتاب وقرأه، وقال لمن معه: ألستم تعلمون أن هذه القرية من مصر؟ قالوا: بلى. قال: فإن أمير المؤمنين عهد إليَّ وأمرني إن لحقني كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع، ولم يلحقني كتابه حتى دخلنا أرض مصر، فسيروا وامضوا على بركة الله وعونه.
(٧) وقائع الفتح العربي
استولى عمرو بن العاص على رفح في طريقِه إلى مصر.
(٧-١) فتح العريش دون قتال (١٢ ديسمبر سنة ٦٣٩م)
ثم بلغ العريش، ولم يكن بها قوة من الرومان للدفاع عنها، ففتحها دون عَناء، وكان ذلك في ١٢ ديسمبر سنة ٦٣٩م/١٠ ذي الحجة سنة ١٨ﻫ، يوم عيد الأضحى.
(٧-٢) فتح الفرما (بيلوز) (٢ يناير سنة ٦٤٠م)
(٧-٣) واقعة بلبيس (سنة ٦٤٠م)
(٧-٤) معركة أم دنين
فقاوم الرومان العرب في أم دنين قدرَ ما استطاعوا، ولكن العرب هزموهم واستولوا على أم دنين بعد مقتلةٍ كبيرة.
وتراجع الرومان إلى حصن بابلون يمتنعون به، وكان موقعه شرقي النيل وتصل إليه السفن.
(٧-٥) فتح الفيوم
وفي انتظار المدد، أرسل يفتح بعض قرى إقليم الفيوم (مايو سنة ٦٤٠م).
ولما تم لعمرو بن العاص فتح هذه القرى عمد إلى حصار حصن بابلون، فرآه ممتنعًا عليه لكثرة تحصيناته وعلو أسواره ووفرة من فيه من جنود الرومان.
(٧-٦) وصول المدد إلى العرب
وفي شهر يونيو سنة ٦٤٠م، وصل أول مدد أرسله عمر بن الخطاب، وعدته أربعة آلاف مقاتل.
فصار عدة جيش العرب اثني عشر ألفًا، وقال له عمر في كتابه: «اعلم أن معك اثني عشر ألفًا، ولن تُغلب اثنا عشر ألفًا من قلَّة.»
وكان الزبير بن العوام هو الأمير على هذا المدد، وهو ابن عمة الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه، وأحد رجال الشورى الستة.
(٧-٧) واقعة عين شمس (يوليو سنة ٦٤٠م)
بعد أن تلقَّى عمرو بن العاص المدد، اتخذ عين شمس وقتًا ما مركزًا لقيادته، وشرع يستعد لمعركة عين شمس، وكان جيش الرومان بقيادة تيودور القائد العام.
فعول تيودور على أن يسير بعشرين ألفًا من جنوده؛ ليزحزح بهم جند العرب عن عين شمس.
فارتاح عمرو لهذه الحركة؛ إذ رأى فيها فرصة سانحة ليشتبك بالرومان في العراء، بخلاف ما إذا كانوا ممتنعين في حصن بابلون.
فزحف تيودور على عين شمس، فوضع عمرو كمينًا في موضع خفي من الجبل الأحمر (شرقي العباسية الآن)، وآخر على النيل قريبًا من أم دنين، ولاقى تيودور بالفريق الأكبر من الجيش، ونشب القتال (يوليو سنة ٦٤٠م)، في منتصف المسافة بين الجيشين تقريبًا (في حي العباسية الآن)، وأيقن الفريقان أن على النجاح في هذا الميدان يتوقف مصير مصر.
فحمى وطيس القتال، ولما بلغ أشده خرجت قوة من العرب من الجبل، وانقضَّت كالصاعقة على الرومان، فاختل نظامهم وتراجعوا إلى الغرب نحو أم دنين، فقابلتهم قوة أخرى من العرب، وأصبحوا بذلك محصورين بين جيوش العرب الثلاثة التي سحقتهم سحقًا، فلم يبقَ منهم سوى جزء يسير سار بعضهم إلى النيل، وذهب البعض الآخر إلى حصن بابلون.
(٧-٨) حصار حصن بابلون واقتحامه (سنة ٦٤٠-٦٤١م)
كان هذا الحصن قديمًا، بناه الفرس بعد غزو مصر وسمَّوه باسم عاصمة دولتهم (بابلون)، ثم جدَّده «تراجان» إمبراطور الرومان، فأقام أسواره الضخمة وزاد في بنائه.
وموقعه شرقي النيل (بمصر القديمة، قصر الشمع الآن)، وكان من أمنع حصون الرومان، وفيه جيش قوي منهم.
(٧-٩) المفاوضات بين عمرو بن العاص والمقوقس
كان قيرس (المقوقس) برغم أنه من الرومان، يميل إلى الصلح مع العرب؛ لشعوره بضعف مركز قومه (الرومان)، وما رآه من توالي هزائمهم أمام العرب في الشام وفلسطين، فخرج ليلة من الحصن وذهب إلى جزيرة الروضة.
وأرسل إلى عمرو وفدًا برئاسة أسقف بابلون؛ لمقابلته واستطلاع رأيه في الصلح.
فلم يبعث عمرو بجواب ما أتوا به، وحبس الرسل عنده يومين حتى يروا حال العرب؛ إذ أبيح لهم أن يسيروا في المعسكر العربي ويروا ما فيه.
وقد رأى قيرس (المقوقس) خطورة الموقف إذا استؤنف القتال، فإن العرب وهذه حالهم من الإيمان والشجاعة لا سبيل إلى ردهم عن قصدهم.
فمالت نفسه إلى الصلح، ورأى العرب تحصرهم حينذاك مياه النيل قبل أن يهبط الفيضان، ثم إذا هبط يتحسن موقفهم ويستطيعون السير أينما شاءوا.
فأرسل إلى عمرو أن يبعث إليه جماعة من ذوي الرأي؛ ليتفاوض معهم على ما عساه أن يكون صلحًا.
فبعث عمرو بعشرة رجال أحدهم «عبادة بن الصامت»، وكان أسود شديد السواد، وأمره أن يكون المتكلم في الوفد، وألَّا يجيب الرومان إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الخصال الثلاث.
فركب العرب السفن إلى جزيرة الروضة، فلما دخل عبادة بن الصامت على قيرس (المقوقس) هابه لسواده وفرط طوله، وقال: «نحُّوا عني هذا الأسود وقدِّموا غيره يكلمني.»
فقال العرب جميعًا: «إن هذا الأسود أفضلنا رأيًا وعلمًا، وهو سيِّدنا وخيرنا والمقدَّم علينا، وإنما نرجع جميعًا إلى قوله ورأيه، وقد أمَّره الأمير وأمرنا أن لا نخالف رأيه وقوله.»
فدهش المقوقس من هذا الجواب؛ لأن الرومان قد اعتادوا على التفرقة العنصرية، ودهش من أن العرب لا يفرِّقون بين الأسود والأبيض.
فتكلم عبادة وقال: «إن فيمن خلفت من أصحاب ألفَ رجل أسود كلهم أشدُّ سوادًا مني، وإني بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعًا، وكذلك أصحابي، وذلك إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في الدنيا ولا طلبٍ للاستكثار منها؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلةٌ يأكلها يسدُّ بها جوعه لليله ونهاره، وشملة يلتحفها؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، وإنما النعيم والرخاء في الآخرة.»
فلما وصل الحوار إلى هذا الحد، أراد قيرس (المقوقس) أن يستنزل عبادة بن الصامت عن شيء، أو يجعله يقبل شيئًا مما عرضه عليه، فلم يقدر على شيء، بل وقع قوله على آذان صماء لما يقول، وقال عبادة يرد عليه بعد أن نفِد صبره، ورفع يديه إلى السماء: «لا ورب هذه السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم.»
(٧-١٠) الهدنة
فاجتمع المقوقس بأصحابه فاختلفوا رأيًا، وكان رأي المقوقس الإذعان وقبول الجزية، وكان الجند يرون المقاومة، وعلى رأسهم جورج (الأعيرج).
ثم طلب الرومان أن يهادنهم العرب شهرًا ليردوا فيه رأيهم، فأجابهم عمرو جوابًا قاطعًا؛ إذ قال لهم إنه لن يمهلهم أكثر من ثلاثة أيام.
(٧-١١) استئناف القتال
فما انتهت أيام الهدنة الثلاثة حتى أخذ الرومان في الحصن يستعدون للحرب، وخرجوا إلى العرب فوق أسوار الحصن، فأخذوا جند العرب على غِرَّة، غير أن العرب قابلوا الحرب بالحرب، ووقع قتال شديد بين الرومان والعرب، ارتدَّ الرومان على أثره إلى الحصن.
فعاود المقوقس الحديث عن الصلح، ورأى أن يعيد الاتصال بعمرو بن العاص في شأنه، فعرض عليه أن يختار الجزية، على أن يبعث المقوقس برأيه إلى الإمبراطور هرقل بالقسطنطينية (استانبول)، وأن يبقى الجنود من الطرفين في مواقعهم حتى يرِد الرد من هرقل.
وكانت هذه هدنة قد يطول أمدها.
فسار المقوقس بطريق النيل إلى الإسكندرية، ومن هناك بعث برأيه إلى هرقل.
فرفض هرقل الصلح وأرسل يستدعي المقوقس، ولعل ذلك كان في منتصف نوفمبر سنة ٦٤٠م.
سار المقوقس إلى القسطنطينية (استانبول)، وأصر على رأيه في وجوب الصلح مع العرب، فغضب عليه هرقل، ونفاه من مصر طريدًا.
وجاء الرد إلى مصر قرب نهاية سنة ٦٤٠م، وانتهت الهدنة، وعاد القتال بين العرب والرومان، وهبطت مياه الفيضان وغاض الماء الذي كان يملأ الخندق المحيط بالحصن، فضعف مركز الرومان واستمرَّ القتال بينهم وبين العرب.
(٧-١٢) وفاة هرقل (فبراير سنة ٦٤١م)
وكان حُماة الحصن ينتظرون أن يصلهم المدد من القسطنطينية، فلم يجدوا أثرًا له.
ورأوا أن القدر قد خيَّبَ آمالهم؛ إذ بلغهم أثناء الحصار نبأ وفاة هرقل إمبراطور الرومان، فخارت لذلك نفوسهم.
وكان وفاة هرقل في فبراير سنة ٦٤١م/٢٠ﻫ؛ أي قبل فتح حصن بابلون بشهرين.
(٧-١٣) فتح الحصن عنوة (أبريل سنة ٦٤١م)
وبقي الحصن بعد ذلك شهرًا لا يسلِّم، فلما أبطأ الفتح، تقدَّم الزبير بن العوام ووهب الله نفسه، واعتزم أن يقتحم الحصن اقتحامًا.
فجاء إلى الحصن تحت جنح الليل ومعه جماعة من خيرة رجاله الفدائيين، وكان الخندق قد جف ماؤه وطُمَّ جزء منه، فاتفق معهم على أنه سيضع سُلَّمًا على السور ويصعد عليه إلى أعلى الحصن، وواعدهم أن يتبعوه إذا سمعوا تكبيره.
ولما وصل البطل العربي إلى أعلى السور، أخذ يكبِّر وسيفُه في يده.
وتحامل الرومان عليه من داخل الحصن، غير أن السهام أمطرتهم من العرب من الخارج.
فعندئذٍ أدرك المقوقس أن العرب قد اقتحموا الحصن، ولم يعُد من سبيل إلى ردِّهم عنه، فعرض على عمرو أن يسلِّم الحصن على أن يُؤمِّن مَن كانوا به من الجند على أنفسهم.
فقبِل عمرو هذا العرض على أن يخرج الرومان من الحصن في ثلاثة أيام، ويتركوا ما به من الذخائر وآلات الحرب.
واستولى العرب على الحصن وما فيه، في أبريل سنة ٦٤١م/ربيع الثاني سنة ٢٠ﻫ.
فكأنه استمرَّ يقاوم الحصار سبعة أشهر.
فتح سقوط حصن بابلون أمام العرب طريق الإسكندرية، وطريق الوجه القبلي.
فبدءوا بالزحف على الإسكندرية عاصمة البلاد وقتئذٍ، وسار عمرو بجيشه على الشاطئ الغربي للنيل.
(٧-١٤) في طريق الزحف على الإسكندرية
ثم عاد عمرو إلى الشاطئ الغربي للنيل، وتابع الزحف إلى الإسكندرية.
وقاومهم الرومان في كوم شريك فهزمهم العرب، وقاوموهم أيضًا في «سلطيس» جنوبي دمنهور فهزموهم.
ثم صمد لهم تيودور في الكربون، وكانت آخر سلسلة من الحصون التي بين بابلون والإسكندرية، وجرت بها موقعة كبيرة ارتد عن أثرها الرومان إلى الإسكندرية.
وبعد الاستيلاء على الكربون انفتح الطريق إلى الإسكندرية.
(٧-١٥) حصار الإسكندرية وفتحها (٦٤١-٦٤٢م)
بلغ العرب الإسكندرية وكانت قوة الرومان فيها أكبر من قوتهم في حصن بابلون.
هذا إلى ما كانت عليه الإسكندرية من المنعة، وأسوارها من الضخامة، وحصونها وأبراجها من القوة.
وكان يساعدهم فيها أن عددهم كان وفيرًا، وكانوا على اتصال بالبحر، بخلاف ما كان عليه حماة حصن بابلون.
بدأ حصار الإسكندرية في يونيو سنة ٦٤١م، وأخذ عمرو حين قدم الإسكندرية يحمل على أسوارها، فلم ينل منها منالًا.
ورمت مجانيق الرومان من فوق الأسوار على جنده بوابل من الحجارة الضخمة، فارتدُّوا مُبتَعدين عن مدى رميِها وانتظروا حتى يخرج إليهم الرومان من خلف الأسوار، فلم يخرجوا.
ولم يكن الحصار محكمًا على الإسكندرية كما كان الشأن في حصن بابلون، فإن البحر كان يمدها بالحرية والمئونة.
ولم يكن للعرب سفن تهاجم الإسكندرية من جهة البحر.
واستمر حصار الإسكندرية أربعة عشر شهرًا.
وفي سبتمبر سنة ٦٤١م عاد المقوقس إلى الإسكندرية، وكان الأمر بنفيه من مصر صار كأن لم يكن بعد وفاة هرقل.
واستمسك برأيه السابق في أنَّ الخير في مُصالحة العرَب.
(أ) تسليم الإسكندرية (نوفمبر سنة ٦٤١م)
وبفتح الإسكندرية وجلاء الرومان عنها دانت البلاد للفتح العربي، وأذعن الصعيد للعرب دون قتال.
(٧-١٦) فتح بعض المدن والقرى
منذ واقعة عين شمس وجَّه عمرو بن العاص كتائب من الجند لفتح البلاد المجاورة، ففتحت أثريب (بنها) ومنوف.
وفي أثناء الزحف على الإسكندرية، وحصارها فُصلت كتائب أخرى، وسارت إلى سخا وفتحتها.
ووجَّه عمرو بن العاص كتائب أخرى إلى إخنا وبلهيب والبرلس ودمياط وتانيس (صان الحجر) وتونه ودميره وشطا ودقهلة وبنا وبوصير، فأخضعوها ولم تحدث مقاومات في معظم هذه البلاد إلا من الحاميات الرومانية.
وكان على دمياط أمير اسمه «الهاموك»، يقال إنه من أخوال المقوقس، استعد لقتال العرب، فلما جاءه المقداد بن الأسود قاتله وقتل ابنه، فانهزم وعاد إلى دمياط، واستشار قومه فنصحه رجل حكيم بمصالحة العرب، فلم يأخذ بنصيحته.
وسُميت بلدة شطا باسم شطا بن الهاموك (وهو ابن آخر للهاموك)، انضم إلى العرب وعاونهم وقُتل شهيدًا في معركة دارت لفتح تانيس.
واستمرت المقاومة في المنزلة إلى ما بعد فتح الإسكندرية.
(٧-١٧) فتح برقة (سنة ٦٤٣م)
وفتح طرابلس في ذات السنة، ثم استأذن الخليفة عمر بن الخطاب أن يستمر في زحفه غربًا.
فنهاه عن ذلك، وأمره بالوقف عند هذا الحد.
(٨) محاولة الرومان استرداد الإسكندرية وفشلهم (سنة ٦٤٥م)
عاودت الرومان المطامع في استرداد الإسكندرية؛ إذ قد نمى إلى قسطانز إمبراطور الرومان أن قوة العرب قد تضعضعت فيها.
فأنفذ عمارة بحرية كبيرة قصدت الإسكندرية، وكانت سيادة البحر لا تزال ملكًا للرومان.
فنزلت الحملة إلى الإسكندرية سنة ٦٤٥م/٢٥ﻫ يقودها الجنرال منويل.
ولكن عمرو بن العاص هزم الرومان، وفتح المدينة مرة أخرى، وهدم أسوارها.
(٩) مسألة حريق مكتبة الإسكندرية، ونفيه عن العرب
لاكت ألسنة بعض المؤلفين الإفرنج مسألة حريق مكتبة الإسكندرية؛ إذْ زعموا أنها أُحرقت في أوائل الفتح العربي، ونسبوا إلى عمر بن الخطاب أنه أمر عمرو بن العاص بإحراقها فأحرقها.
وتلك لعمري تهمة لا تثبت أمام التحقيق العلمي، ولا يلبث أن يبين بطلانها بقليل من البحث المجرد عن الهوى.
أول ما وردت هذه القصة في كتاب لأبي الحسن القفطي عن «تاريخ الحكماء»، ونقلها عنه أبو الفرج بن العبري في كتابه «مختصر تاريخ الدول»، وكلاهما عاش في القرن الثالث عشر للميلاد؛ أي: بعد أن مضى أكثر من خمسة قرون على الفتح العربي لمصر ووقائعه.
فانقضاء هذه القرون الطويلة قبل اختراع هذه القصة يجعلها ولا شك بعيدة عن الثقة، إذ لو كان لها ظل من الحق لورد ذكرها على لسان شاهد عيان من المؤرخين المعاصرين للفتح العربي، أو ممن نقلوا عنهم في أعقاب هذا الفتح مباشرةً.
وخلاصة هذه القصة كما أوردها أبو الفرج بن العبري: أنه كان في وقت الفتح العربي رجل اسمه «حنا النحوي» من أهل الإسكندرية ومن قسوس الأقباط، وأُخرج من عمله لِما نُسب إليه من زيغٍ في عقيدته، وكان عزله على يد مجمع من الأساقفة، وأن هذا الرجل أدرك الفتح العربي للإسكندرية، واتصل بعمرو بن العاص فلقي عنده حظة، فلما آنس الرجل من عمرو هذا الإقبال قال له يومًا: «لقد رأيت المدينة كلها وختمت على ما فيها من التُّحف، ولست أطلب إليك شيئًا مما تنتفع به، بل شيئًا لا نفع له عندك، وهو عندنا نافع.»
فقال له عمرو: «ماذا تعني بقولك؟» فقال: «أعني بقولي ما في خزائن الروم من كُتُب الحكمة.» فقال له عمرو: «إن ذلك أمر ليس لي أن أقطعَ فيه برأي دون إذن الخليفة.»
ثم أرسل كتابًا إلى عمر بن الخطاب يسأله رأيه، فأجابه عمر قائلًا: «وأما ما ذكرت من أمر الكتب، فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجةَ لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيه، وأحرقها.»
فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو بن العاص، أمر بالكتب فوزعها على حمامات الإسكندرية فأحرقوها في ستة أشهر.
ثم قال المؤلف بعد أن روى هذه القصة: «فاسمع وتعجَّب!»
ولم يذكر أبو الحسن ولا أبو الفرج المصدر الذي أخذا عنه هذه القصة، مع انقضاء أكثر من خمسة قرون على فتح الإسكندرية.
ويمنع من تصديقها أنها لم ترِد إطلاقًا في أي كتاب وُضع في خلال هذه القرون الخمسة.
ولو أنها وقعت لمَا فات أصحابها أن يدونوها، ووُلد حوالي زمن الفتح العربي مثل «حنا النقيوسي»، المؤرخ المصري الذي عاش في النصف الثاني من القرن السابع للميلاد، ووضع كتابه بعد الفتح العربي بنحو خمسين عامًا، وسعيد بن البطريق (أوتيخوس) الذي عاش في القرن التاسع وتحدَّث عن الفتح العربي، وكلاهما مسيحي.
ولم يشر إليه قدماء المؤرخين، كابن عبد الحكم والبلاذري والطبري والكندي واليعقوبي، على أهمية هذا الأمر وخطره.
على أن المؤرخين السابقين على الفتح العربي بعدة قرون، يذكرون أن حريق مكتبة الإسكندرية حدث في سنة ٤٨ قبل الميلاد حين حضر «يوليوس قيصر» في ذلك العام إلى الإسكندرية.
أي إن المكتبة أُحرقت قبل الفتح العربي بستة قرون.
- (١)
أن قصة إحراق العرب لها لم تظهر إلا بعد نيف وخمسمائة عام من وقت الحادثة التي نذكرها.
- (٢)
أننا فحصنا القصة وحلَّلنا ما جاء فيها، فألفيناه سخافات مستبعدة يُنكرها العقل.
- (٣)
أن الرجل الذي تَذكُر القصة أنه أكبر عامل فيها (حنا النحوي)، مات قبل غزو العرب بزمن طويل.
- (٤)
أن القصة قد تشير إلى واحدة من مكتبتين: الأولى مكتبة المتحف (دار العلم؛ الموزيون)، وهذه ضاعت في الحريق الذي أحدثه يوليوس قيصر، وإن لم تتلف عند ذلك كان ضياعها فيما بعد في وقت لا يقل عن أربعمائة عام قبل الفتح العربي، وأما الثانية وهي مكتبة السرابيوم فإما أن تكون قد نُقلت من المعبد عام ٣٩١م، وإما أن تكون قد هلكت أو تفرقت كُتبها وضاعت، فتكون على أي حال قد اختفت قبل الفتح العربي بقرنين ونصف قرن.
- (٥)
أن كُتَّاب القرنين الخامس والسادس للميلاد، لا يذكرون شيئًا عن وجودها، وكذلك كُتَّاب أوائل القرن السابع.
- (٦)
أن هذه المكتبة لو كانت لا تزال باقية، عندما عقد قيرس (المقوقس) صلحه مع العرب على تسليم الإسكندرية، لكان من المؤكد أن تُنقل هذه الكتب، وقد أبيح ذلك في شرط الصلح الذي يسمح بنقل المتاع والأموال في مدة الهدنة التي بين عقد الصلح ودخول العرب في المدينة، وقدر ذلك أحد عشر شهرًا.
- (٧)
لو صح أن هذه المكتبة قد نُقلت أو لو كان العرب قد أتلفوها حقيقةً لمَا أغفل ذكر ذلك كاتب من أهل العلم كان قريب العهد من الفتح العربي، مثل «حنا النقيوسي»، ولمَا مر على ذلك بغير أن يكتب حرفًا عنه.
هذا، ومن العلماء المحققين الذين نفوا هذه الفرية عن العرب جستاف لبون، وأرنست رنان، وجبون، ورينوود، وسديو، ويقول سديو: إن هذه القصة وضعها كُتَّاب معادون للعرب والإسلام؛ إبان الحروب الصليبية.
(١٠) عمرو بن العاص يتولى شئون مصر
بعد أن تمَّ لعمرو بن العاص فتح الإسكندرية تحوَّل إلى الفسطاط التي أُنشئت بعد الفتح، ومن هناك تولى شئون مصر بأمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وكان بدء ولايته سنة ٢٩ﻫ قبل فتح الإسكندرية.
فكان خير والٍ لشئونها، وعُرف بالحكمة والعدل ولين الجانب وإطلاقه الحرية الدينية للمواطنين، والسعي في إقامة أعمال العمران التي عادت على البلاد بالخير، وأحبه أهل مصر لما رأوا فيه احترام حرية العقيدة الدينية وتخفيف وطأة الضرائب، ومن السماحة بعد الغلظة التي كانوا يشهدونها من الولاة الرومان.
وظل يتولى شئون مصر حتى وُلي الخلافة عثمان بن عفان سنة ٢٤ﻫ، فعزله سنة ٢٦ﻫ وولى بدله عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وكان ولاية عمرو بن العاص على مصر نحو خمس سنوات.
ثم وليها في زمن معاوية.
(١٠-١) إعادة البطريق بنيامين
ومن أعماله التي أكسبته حب المواطنين تأمينه البطريق «بنيامين»؛ فقد كتب أمانًا له وردَّه إلى كرسي البطريركي، وأعاد له سلطته بوصفه بطريقًا للأقباط بعد أن ظل مبعدًا عن منصبه أكثر من عشر سنوات، ودخل بنيامين الإسكندرية دخول الظافر.
ولقي من عمرو الحفاوة والتقدير حتى قال عنه لأصحابه: «إني لم أرَ يومًا في بلد من البلاد التي فتحها الله علينا رجلًا مثل هذا بين رجال الدين.»
وعادت لبنيامين زعامته الدينية بين الأقباط.
قال بتلر في هذا الصدد:
وظل في منصب البطريق، حتى وفاته سنة ٦٦٢م.
(١٠-٢) وصف مصر بقلم عمرو بن العاص
كان عمرو بن العاص من أبلغ كُتَّاب العرب، وقد وصف مصر في كتاب بعث به إلى عمر بن الخطاب إذ طلب الخليفة ذلك منه، قال: «ورد إليَّ كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يسألني عن مصر. اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تُربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكتنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر له أوان، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا عجَّ عجاجه، وتعظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في خفاف القوارب، وصغار المراكب، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطمى في ذروته، فعند ذلك يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه، يبذرون الحب، ويرجون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق وأشرف، وسقاه من فوقه الندى، وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، وإذا هي زبرجدة خضراء، فتعالى الله الفعَّال لما يشاء، والذي يُصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، أن لا يُقبل قول خسيسها في رئيسها، ولا يُستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يُصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبدأ والمآل.»
(١٠-٣) عمرو بن العاص يؤيد تحديد النسل
كان عمرو بن العاص بعيد النظر، واسع الأفق، يعالج المسائل الاجتماعية بحكمة وحصافة؛ فمن خُطبة له يوم الجمعة يحث الناس على القصد والاعتدال، ويرغِّبهم عن كثرة العيال ويؤيد تحديد النسل، قال:
(١٠-٤) إنشاء الفسطاط عاصمة مصر
أراد عمرو بن العاص أن يسكن الإسكندرية ويتخذها عاصمة البلاد؛ إذ رأى أن بيوتها مشيدة، وأنها الأجدر بأن تظل الصدد: «مساكن قد كفيناها.»
فكتب إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في ذلك، فسأل عمر الرسول: «هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟»، قال: «نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل»، فكتب إلى عمرو: «إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلًا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا في صيف.»
ولم يكن للعرب قوة بحرية في ذلك الحين، ولذلك خشي الخليفة عمر بن الخطاب أن يحول البحر بين أجزاء الدولة العربية.
وتقوم في الضفة المقابلة للنيل، على بُعْد أميال جنوبًا، مدينة «منف» العظيمة عاصمة مصر القديمة.
وكان الشروع في تخطيط الفسطاط سنة ٢١ﻫ/٦٤٢م، بعد هزيمة الرومان في الإسكندرية.
(أ) تحديد الفسطاط
حدد الأستاذ يوسف أحمد في كتابه «الفسطاط»، بأنها تقع في المنطقة التي حول جامع عمرو، والتي تمتد شرقًا إلى سفح جبل المقطم، وشمالًا إلى جهة «مسجد أبو السعود»، وغربًا حتى النيل، وجنوبًا حتى ساحل أثر النبي (وتُعرف الآن بمصر القديمة).
(١٠-٥) جامع عمرو بن العاص
شرع عمرو بن العاص في بناء المسجد الذي عُرف باسمه، منذ عودته من فتح الإسكندرية.
وبدأ في بنائه سنة ٢١ﻫ/٦٤٢م بعد تخطيط الفسطاط.
وكان يسمى الجامع العتيق، أو جامع الفتح، أو تاج الجوامع، وهو أقدم جامع أنشئ في مصر ويقع شمالي حصن بابلون (قصر الشمع).
وكان طوله في بداية عهده خمسين ذراعًا وعرضه ثلاثين ذراعًا (٢٩ × ١٧ مترًا)، وله ستة أبواب.
وكانت تقام فيه الصلوات وتُلقى فيه الدروس الدينية، فصار مع الزمن معهدًا علميًّا ودراسيًّا لمختلف طبقات الشعب، هذا إلى أنه كان مقرًّا لمجالس القضاء ومكانًا لبيت المال.
(١٠-٦) خليج أمير المؤمنين
وكان هذا الخليج يبتدئ من شمال حصن بابلون، ويمر بمدينة عين شمس ثم يسير في وادي الطميلات حتى بحيرة التمساح، ومن جنوب هذه البحيرة يتابع جريانه خلال البحيرات المُرة، حتى يبلغ السويس.
فكتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يقول: «أما بعد، فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك مِن أهلك، أن أهلك أنا ومَن معي؛ فيا غوثاه ثم يا غوثاه!»
فكتب إليه عمرو بن العاص يقول: «يا لبيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بِعِيرٍ (قافلة) أولها عندك وآخرها عندي.»
وجاء عمرو إلى حيث قابل عمر بن الخطاب، بعد أن وصلت العير إلى الحجاز، وسع بها الخليفة على الناس، فاقترح عليه الخليفة أن يحفر قناة تصل بين النيل والبحر الأحمر؛ لتيسير نقل المئونة والتجارة إلى الحجاز.
صدع عمرو بالأمر، فأنشأ سنة ٦٤٣م/٢٣ﻫ القناة التي سُميت خليج أمير المؤمنين، وتبدأ من الفسطاط وتسير في نفس التخطيط الذي كان لقناة الفراعنة الأقدمين، أي قناة سنوسرت الثالث التي عُرفت بقناة نيخاو ثم رُدمت، وجددها الإمبراطور الروماني تراجان، ثم رُدمت.
فلم يأتِ الحول، حتى أتم عمرو بن العاص حفر هذا الخليج.
(١٠-٧) وفاة عمرو بن العاص
استمر عمرو بن العاص على ولاية مصر، حتى وُلي الخلافة عثمان بن عفان.
فعزله عنها سنة ٢٦ﻫ/٦٤٦م، وولاها عبد الله بن سعد بن أبي السرح (وهو أخو عثمان في الرضاعة)، وكانت ولاية عمرو بن العاص على مصر نحو خمس سنوات.
ثم تولاها ثانيةً في خلافة معاوية سنة ٣٨ﻫ/٦٥٨م، حتى وفاته.
وتُوفِّي في ولايته الثانية في نحو السبعين من عمره.
وكانت وفاته في ديسمبر ٦٦٣م/٤٣ﻫ في خلافة معاوية، ودُفن بسفح المقطم، ولم يُعرف قبره على وجه التحقيق.
وقيل: إنه مدفون مع عُقبة بن عامر بمسجده القائم إلى اليوم.
(١١) بماذا قوبل الفتح العربي
إن أول حقيقة يجب أن نضعها نُصْب أعيننا في هذا البحث أن الحرب في الفتح العربي لم تكن موجهة ضد المصريين، بل ضد الروم (الرومان) المغتصبين لمصر.
والحقيقة الثانية أن العرب لم يسيئوا إلى المصريين قط.
وقد تكون معاملة العرب الحسنة للمصريين راجعة إلى أنهم كانوا في ذاتهم أهل مروءة ونجدة، وخاصةً حين هذَّب الإسلام نفوسهم.
هذا إلى ما اتصف به عمرو بن العاص من حبه للعدل والرفق بالأهليين، وما كان يوصيه به عمر بن الخطاب من حسن معاملتهم، اعتبر ذلك في الكتاب الذي بعث به إليه وقال فيه:
والأمثلة على إنسانية العرب عديدة، وقد وجد أهل العراق وفلسطين والشام مثل هذه الإنسانية.
فمن ذلك أنه في أوائل الفتح العربي حين فتح عمرو بن العاص «بلبيس» كانت بها ابنة المقوقس (أرمالوسة)، وقد نقل المقريزي عن الواقدي أن المقوقس زوَّجها لقسطنطين بن هرقل، فأكرمها عمرو وأرسلها معزَّزة مكرمة ومعها جميع مالها حتى التقت بأبيها.
فسُرَّ المقوقس من هذه المروءة، وكان لها ولا ريب أثر كبير في نفسه.
ولما أزمع عمرو الزحف على الإسكندرية بعد فتح حصن بابلون أمر الجند أن ينزعوا خيمته (الفسطاط)، فوُجد في أعلاها عش يمامة باضت عليها، فأمر عمرو أن تُترك خيمة القائد مكانها، وقال في هذا الصدد: «لقد تحرَّم هذا اليمام منا بمتحرم، فأقروا هذا الفسطاط في موضعه حتى يفرخ ويطير.»
وعيَّن على الفسطاط (الخيمة) حارسًا يمنع تلك اليمامة أن يمسَّها أحدٌ بأذى.
فإذا كانت الإنسانية قد بلغت هذا الحد، وشملت الطير الذي اتخذ خيمة القائد العام عشًّا له، فإن هذا المثل جدير بأن يُكسب العرب محبة المصريين وتقديرهم.
وبعد أن دانت البلاد للفتح العربي، وجلا الرومان عنها، رأى المصريون عمرو بن العاص يمنع الاضطهاد الديني، ويعلن ألَّا إكراه في الدين، وأن حرية العقيدة مبدأ مقدس.
فأدرك المصريون الفارق الجوهري بين عهد الرومان وعهد العرب.
كما شاهدوا عمرو بن العاص يخفف عنهم وطأة الضرائب، ويساوي بين الناس في أدائها، لا فرق بين كبير وصغير، وقوي وضعيف، ومسلم وكتابي.
وشاهد المصريون من تسامح العرب الديني، ما ذكَّرهم بالشدائد التي لاقوها من أباطرة الرومان، سواء منهم من كانوا على الوثنية أو بعد اعتناقهم المسيحية، فقد اضطهدوا المصريين المسيحيين اضطهادًا دينيًّا.
وحتى بعد أن اعتنقوا المسيحية اضطهدوا المصريين؛ لإكراههم على اتباع مذهبهم الرسمي، بل خرَّب هؤلاء وأولئك كثيرًا من الآثار المصرية القديمة.
فلما جاء العرب رعوا حرية العقيدة واحترموها، كما احترموا آثار الفراعنة ولم يمسوها بسوء، ولم يفعلوا مثلما فعل الرومان أو الفرس أو الآشوريون.
فلا غرو أن أقبل المصريون، وقساوستهم على عَهد العرب مبتهجين.
وكان من نتائج الحرية الدينية التي أقرَّها العربُ أن انتهى كثير من المصريين على توالي السنين إلى قبول الإسلام، فدخلوا فيه أفواجًا.
ولم يكن دخولهم فيه كَرهًا أو عن ضغط واضطهاد، فإن المبدأ الذي اتبعه العرب هو حرية العقيدة.
وقال لمناسبة الصلح الذي عُقد على تسليم الإسكندرية للعرب:
هذا، وإن ما شاهده المصريون أو استذكروه من مظالم البطالمة، ثم مظالم الرومان، ومن قبلهم ظلم الفرس والآشوريين، قد أنار بصائرهم وزاد من وعيِهم، وجعلهم يعتقدون بحق أن الحكم الأجنبي لا يمكن الاطمئنان إليه؛ فلقد رأوا الإسكندر بادئ الأمر منقذًا لهم من ظلم الفرس ثم ما لبث خلفاؤه البطالمة أن اتخذوا مصر مستعمرة لهم، ثم رأوا من ظلم الرومان شرًّا مما رأوا من البطالمة.
فهذه التجارب التي استمرت عدة قرون جعلتهم يفكرون في أن لا بد لهم من اتجاه جديد في الروابط الدولية، يجعلهم آمنين على حياتهم وعقائدهم ومستقبلهم واستقلالهم.
فاعتزموا، وقد ساءت ظنونهم في المجموعة الأوروبية، أن ينضموا إلى الكتلة العربية الشرقية؛ إذ وجدوا فيها العدل والإنسانية والفضائل القومية، فانضمت مصر إلى المجموعة العربية.
وفي الحق إن المستعمرين من الإغريق والرومان أو الأعاجم من الشرقيين، قد بَرهَنوا على أنهم أقوام قساة القلوب، غلاظ الأكباد، لم تعرف الإنسانية إلى قلوبهم سبيلًا، وهذا ما جعل المصريين ينظرون إلى الفتح العربي كمنقذ لهم من ظلم الرومان واليونانيين، ومن قبلهم ظلم الأعاجم من الشرقيين كالفرس والآشوريين.
قد لا يكون هذا الاتجاه نتيجة تمحيص وتحقيق، بل هو إلهام للشعوب في الساعات الفاصلة في تاريخها، وخاصةً في ظروف الانتقال، وهو بالنسبة لمصر دليل على ما فُطر عليه الشعب المصري من إرهاف للحس، وحسن بَصَر في الأمور، فالشعب المصري بماضيه في الحياة القومية والحضارة المجيدة، قد أحس أنه أقرب للعرب جوارًا وصلات روحية وثقافية، فاتجهت نفسه بفطرته السليمة إلى أن يكون جزءًا من الكتلة العربية، بدلًا من الكتلة الأوروبية أو الشرقية الأعجمية.
أضف إلى ذلك ما كان من تأثير عامل اللغة في هذا التطور، فإن انتشار اللغة العربية في مصر على تعاقب السنين قد مهَّد لجعل المصريين عربًا؛ لأن اللغة هي ولا ريب من أقوى الروابط بين الأمم والجماعات، بل هي من أركان القوميات.
وزاد في تأثير لغة الضاد أن اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) قد تراجعت وتقلصت قبل الفتح العربي بعدة قرون، وحل محلها اللغة الديموتيقية أي اللغة العامية لغة الجمهور، وجاء البطالمة وأحلوا محل اللسانين لغتهم اليونانية، وجعلوها لغة الدولة الرسمية وظلوا كذلك ثلاثة قرون متوالية، وجاء الرومان من بعدهم فأبقوا على اللغة اليونانية، واتخذوها أيضًا لغة الحكومة ولغة التعامل في مصر، فلما جاء الفتح العربي وجدت اللغة العربية أن المجال ممهد لانتشارها بين المصريين.
ولقد تم هذا الانتقال في يسر وسهولة؛ إذ كان وليد الفطرة والحس المرهف.
وهذا ما جعل الشعب المصري يتطور من ناحية اللغة والثقافة والتفكير إلى حيث صارت مصر مع الزمن الدولة العربية الكبرى، قاعدة العروبة وعلَمها الخفَّاق، ومصدر الإشعاع العربي للبلدان القريبة والبعيدة.