الدولة الوسطى
(١) الأسرة الحادية عشرة (سنة ٢١٣٤–١٩٩١ قبل الميلاد): بداية الدولة الوسطى
هي أسرة من طيبة، وقد اتخذتها عاصمة للدولة.
(١-١) منتوحتب الثاني وإعادة الوحدة القومية
وهو من أهم ملوك هذه الأسرة، وقد بقي في الحكم نحو نصف قرن، وعمل على رَأْبِ الصَّدْع وتثبيت سلطة العرش، وقد نجَحَ في إعادة الوحدة القومية بعدما اعتراها من التفكُّكِ والتخاذل وسُمي موحدَ الأرضين، وكان انتصاره على معارضيه وتوحيد مصر جميعها تحت سلطانه بدايةَ مرحلة جديدة في تاريخ مصر القديم، وكانت مدة ملكه عهد استقرار وطمأنينة ونهضة.
وأهم عمل للأسرة الحادية عشرة أنها عملت على توحيد البلاد ثانيةً، بعد أن كانت مفككة الأوصال.
ولكنها لم تصل إلى هذا التوحيد كاملًا إذ كان حُكَّام الأقاليم ينازعونها السلطة، وظلت الأمور غير مستقرة، ولعل عهدها كان تمهيدًا للأسرة الثانية عشرة التي استقرت في عهدها إعادةُ الوحدة القومية.
(٢) الأسرة الثانية عشرة: أسرة أمنمحات (سنة ١٩٩١–١٧٧٨ قبل الميلاد)
أسرة أمنمحات هي من أعظم الأسرات في تاريخ مصر القديمة ومن أجلِّها شأنًا.
أسسها أمنمحات الأول، وكان كما أسلفنا رجلًا عصاميًّا برز من صفوف الشعب، وأوصلته مواهبه وحكمته إلى منصب الوزارة في عهد منتوحتب الخامس، وتولى العرش بعد وفاة هذا الأخير.
وتمتاز أسرة أمنمحات عامة بأنها نزلت قليلًا عن السلطة القدسية التي كانت لملوك الدولة القديمة.
وتقربت إلى الشعب بإقامتها منار العدل، وبالعديد من الإصلاحات والأعمال الاقتصادية والعمرانية التي زادتْ من رخاء الشعب، وتجلت هذه الناحية في تاريخ أمنمحات الأول والثاني والثالث.
وميزة أخرى لهذه الأسرة، وهي أنها قضَتْ على حكم الإقطاع في الأقاليم وجعلتْ ولاتها عمالًا خاضعين لسلطة الملك بعد أن كانوا منذ أواخرِ عهد الدولة القديمة شبه ملوك مستقلين.
وفي عهد أسرة أمنمحات — أي في مدَى مائتَي عام تقريبًا — تقدمت البلاد تقدُّمًا عظيمًا في شتى النواحي.
ويُعرف هذا العصر عند الأثريين بعصر «الآداب» لأنها بلغت فيه أعظم شأوه، فالشعر والنثر بلَغَا الذروة من حيث المتانة والجودة، وارتقى فن الحفر والعمارة بدرجة تسترعي النظر، وفاقَت المصنوعات الفنية مثيلاتها في العصور الغابرة.
وزادت خيرات البلاد كثيرًا لعناية الحكومة بشئون ضبط النيل وإقامتها مشروعات الري في الفيوم، واستصلاحها أقاليم شاسعة من الأراضي الزراعية، مما عاد على البلاد بالخير العميم.
وكانت مصر في عهدها أقوى دولة في الشرق الأدنى.
(٢-١) أمنمحات الأول
كانت أمه من أصل نوبي، وكان ملكًا عادلًا خيِّرًا، حكيمًا حازمًا، أعاد الأمن والنظام والطمأنينة إلى البلاد ونظَّم أمورها الداخلية، وتحبب إلى الشعب بأعماله العمرانية، فاهتمَّ بإقليم الفيوم لتنظيم الريِّ والاستفادة من بحيرة موريس (بحيرة قارون)، وإن كان الفضل في تنفيذ مشروعات الري في الفيوم يرجع إلى أمنمحات الثالث.
وبذل همته في استغلال المناجم والمحاجر، وتسهيل وسائل التجارة، ووضع حد لغارات البدو على الحدود الشرقية والحدود الغربية.
وبنى سلسلة من التحصينات في كلتيهما، ونقل عاصمة البلاد إلى مقربة من منف، ووجَّه عنايته إلى بلاد النوبة وعمِل على ضمِّها إلى مصر، وأخضع حكام الأقاليم وأخذهم بالحزم والحكمة فأبقى منهم أكثرهم ولاءً له واتباعًا لأوامره، فتمكَّن بهذه السياسة الرشيدة من جعلهم معاونين له ومساعدين، ولما تقدمت به السن أشرك معه في إدارة شئون الدولة ابنه «سنوسرت»، وظل يحكم البلاد نحو ثلاثين عامًا.
وقد تُوفِّي أمنمحات الأول سنة ١٩٦١ق.م.
(أ) خلفاء أمنمحات الأول: سنوسرت الأول Senousret
هو ابن أمنمحات الأول، وفي عهده توسعت مصر في بلاد النوبة.
وعُني عناية كبيرة باستغلال المناجم في الصَّحراء يستخرجون منها الذهبَ والنحاس، ويستخرجون من محاجر النوبة الأحجارَ الممتازة.
وكان ملِكًا حازمًا يحب العدل، وإداريًّا يقظًا، يراقب رجاله مراقبة شديدة يضمن بها استقامتَهم ورعايتهم للصالح العام.
ولا شك أن هذه التصريحات تعبِّر عن المثل الأعلى في الحكم والاستمساك بالعدالة الاجتماعية ورعاية الفقراء والحدب عليهم، ومهما قيل عنها من المبالغة في الوصف والإطناب في محامد أميني، فإنها تدل على أن مثل هذا التقرير يقيد في السجلات العامة ويطَّلع عليه الملك، فواضعه وكاتبه قد اختار الصفات التي ترتاح إليها نفس الملك العادل وتطمئنُّ إليها نفوس المواطنين.
جامعة عين شمس
كانت مدينة «أون» — عين شمس — وقتًا ما مدينة العلم والنور، كانت عاصمة البلاد الفكرية والدينية.
جاءها أفلاطون لينهل من علومها وفلسفتها، وينقل من علومها.
وكانت هذه المدرسة الجامعة أشهر مدارس مصر القديمة كمدرسة منف ومدرسة طيبة.
مسلة عين شمس
وقضى سنوسرت في الحكم نحو أربعة وأربعين عامًا، وهو من أعظم ملوك مصر.
(٢-٢) أمنمحات الثاني
هو ابن سنوسرت الأول، وكانت أيامه أيام هدوء وطمأنينة، وقد أرسل البعوث الاقتصادية إلى سيناء والنوبة في مناطق التعدين وإلى الصُّومال (بلاد بونت) للتجارة، وكان الوصول إلى هذه البلاد أمرًا شاقًّا عسيرًا في ذلك العصر لبُعد المسافات بينها وبين مصر، وهذا يدلنا على الهمة ومَضَاء العزيمة في النهوض باقتصادياتِ البلاد.
(٢-٣) سنوسرت الثاني
لم يزد حكمه على تسعة أعوام، وامتاز عهده بحُسنِ العلاقات بين مصر والأقاليم الآسيوية.
(٢-٤) سنوسرت الثالث٨
هو الفاتح الكبير، زادت مدة حكمه على ثمانية وثلاثين عامًا، وامتاز عهده بقضائه التام على نفوذ حكام الأقاليم وعلى نظام الإقطاع، ثم بأعماله الحربية في النوبة وفي فلسطين وسورية.
وقد عمل منذ توليه الملك على ضمِّ النوبة نهائيًّا إلى مصر، فشقَّ لأسطوله طريقًا بين صخور الشلال الأول، وأنشأ مهندسوه هذا الطريق المائي في أصعب مناطق الشلال الجرانيتية لمسافة مائتَين وستين قدَمًا بعرض أربعةٍ وثلاثين قدمًا وعمق ستة وعشرين قدمًا، وحمل على النوبة عدة حملات وُطِّدت فيها السلطة المصرية.
(أ) قناة سنوسرت الثالث التي تصل النيل بالبحر الأحمر
يرجع إلى سنوسرت الثالث عمل من أجلِّ الأعمال العمرانية، وهو وصل النيل بالبحر الأحمر بواسطة قناة مائية تيسر المواصلات التجارية.
وهذه القناة قد أعاد حفرها الملك «نيخاو» الثاني، ثم الإمبراطور الروماني تراجان.
ورُدمت بعد ذلك إلى أن أعاد حفرها عمرو بن العاص بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، وسُميت «خليج أمير المؤمنين».
ففي عهد سنوسرت الثالث اتصل النيل لأول مرة في التاريخ بالبحر الأحمر، وعُرفت هذه القناة في التاريخ بترعة سيزوستريس، وهو الاسم الذي أطلقه الإغريق على سنوسرت، أو ترعة الفراعنة.
وكانت هذه القناة تبدأ عند ضواحي بوبسطة، وتأخذ مياهها من فرع النيل التانيسي (نسبة إلى مدينة تانيس وهي صان الحجر الحالية)، وتصل إلى البحيرات المرَّة ثم إلى خليج السويس.
(ب) مصر والبلاد الآسيوية
وسنوسرت الثالث يشبه في مواهبه الحربية «تحوتمس الثالث» الذي سيردُ الكلام عنه في الفصل السادس.
(٢-٥) أمنمحات الثالث
هو ابن سنوسرت الثالث وأعظم ملوك الأسرة، ومن أعظم الملوك في تاريخ مصر القديمة.
ومن أعماله الهامة مشروعات الري العظيمة التي نفذها، والتي عادت على البلاد بالرخاء والرفاهية.
كان محبًّا لصالح الشعب بمختلف طبَقَاته، ولما تولى الملك وسَّع نطاق المناجم في سيناء لاستخراجِ كنوزها، وذلَّل عقبات كئودًا كان يشكو منها العمال هناك وأهمها أمور سكناهم، فقد أسَّسَ لهم بيوتًا ثابتة بدل المساكن المؤقتة التي كانوا يأوون إليها بحيث لا تبقى أكثر من بضعة أشهر.
وانصرفت جهوده إلى مختلف نواحي الإنشاء والتعمير، فأرسل عدة بعثات إلى سيناء لاستخراج المعادن منها.
(أ) أعمال الري والعمران
كان أمنمحات الثالث أكثر ملوك مصر اهتمامًا بشئون الري وضبط مياه النيل وخاصةً مشروعات الفيوم.
وقد بدأ التفكير في هذه المشروعات في عهد أمنمحات الأول، ولكن تنفيذها كان على يد أمنمحات الثالث.
وأنشأ مقياسًا للنيل في «سمنة» بالنوبة عند الشلال الثاني، لتسجيل ارتفاع النيل وليطمئن على حالة الفيضان، وكانت أنباء مقاسات هذا المقياس ترسل لموظفي مكتب الوزير بالوجه البحري، وكانوا يقدِّرون كمية الحبوب التي يمكن إنتاجها على ضوء هذه البيانات في السنة المقبلة.
(ب) خزان بحيرة موريس
وهذه الفكرة شبيهة بالفكرة التي أدَّتْ إلى إنشاء خزان أسوان في العصر الحديث.
وتفصيل ذلك أن مياه النيل كانت تتدفَّقُ في بحيرة «موريس» قرابةَ ستة أشهر في العام.
وكان بحر يوسف كفرع من فروع النيل القديمة يصب فيها.
وكانت توجد فتحة بسلسلة جبال ليبيا بجهة الفيوم، تصل النيل بإقليم الفيوم المنخفض عن سطح البحر، وتُسمَّى هذه الفتحة «ممر اللَّاهون».
وقبل حكم الأسرات الملكية كان فيضان النيل يغمر إقليم الفيوم محوِّلًا إياه إلى بحيرة كبيرة.
فلما جاء ملوك الأسرة الثانية عشرة فطِنوا إلى تخزين كميةٍ عظيمة من المياه في تلك البحيرة، وتصريفها وقت التحاريق.
فشيدوا على الفتحة سالفة الذكر سدًّا عظيمًا مزوَّدًا بفتحات لخزن المياه في بحيرة موريس، تاركين في الوقت نفسه مساحة كبيرة من الأرض للزراعة.
وقد بدأ الملوك الأُوَل من الأسرة الثانية عشرة في تصميم هذا المشروع، ولكن الفضل الأكبر في تنفيذه يرجع إلى أمنمحات الثالث الذي نظَّمَ السدَّ العظيم، ووفر مياه الري لأراضي الوجه البحري.
وقال في موضع آخر: «ولعمر الحق إن الأسرات الملكية الفرعونية التي جاهدت في سبيل حماية البلاد من عدويها اللدودين «الشَّرَق والفيضان»، وكفلت سعادة رعاياها في تلك الأزمان لجديرة بالثناء العاطر والذكر المجيد.»
ويقول «هيرودوت» الذي زار مصر حوالي سنة ٤٤٥ قبل الميلاد في عهد الاحتلال الفارسي: إن فيضان النيل كان يغمُر تلك البحيرة العظيمة عن طريق الفتحة الموجودة بجبال ليبيا، وإن المصريين كانوا يروون أرضهم زمن التحاريق من مياه هذه البحيرة الواسعة.
وشاهد «استرابون» محال مراقبة المياه الداخلة والخارجة من إقليم البحيرة المذكورة.
(ﺟ) قصر اللابيرنت
وقد شاهد «هيرودوت» هذا القصر وقال عنه: إنه يفوق الوصف وإن عمارته منقطعة النظير، ولا يفضل عليه عمارة الهرم الأكبر.
وظل أمنمحات الثالث على العرش قرابة خمسين عامًا، كانت من خير السنين في تاريخ مصر القديمة.
(٢-٦) أمنمحات الرابع
وقد خلفه على العرش ابنه أمنمحات الرابع، ولم يكن على غرار أسلافه في الهمة والكفاية، وحكم نحو تسع سنوات.
(٢-٧) الملكة سبك نفرو
وكان آخر ملوك هذه الأسرة الملكة «سبك نفرو» ابنة أمنمحات الثالث، وقد حكمت نحو ثلاثة أعوام، ثم انقطع نسل هذه الأسرة، وهوى نجمها.
(٣) الأسرتان الثالثة عشرة والرابعة عشرة
بعد أن انتهى حكم الأسرة الثانية عشرة خلفتها الأسرة الثالثة عشرة، وكانت عاصمة ملكها «منف».
وفي عهدها ضعفت الجبهة الداخلية لتنازع الطامعين في الحكم.
وتدهورت الحالة الاقتصادية في البلاد.
فبعد أن كان نظام الري يُنفَّذ في أنحائها تحت إشراف الملك، انعدم نظامه واضطربت شئونه، فقلَّت الحاصلات والمصنوعات، ثم عمد حكام الأقاليم إلى استعمال الشدة والظلم مع المواطنين. ففرضوا عليهم الضرائب والإتاوات الباهظة وأثقلوا كاهلهم، وجاءت هذه الأحداث هادمة لنهضة البلاد ورخائها اللذين كانا مبعث عناية أسرة أمنمحات في مدى مائتَي سنة تقريبًا.
وليس معروفًا على وجه التحقيق كيف تبوأت الأسرة الثالثة عشرة عرش مصر، وقد يكون للضعف الذي أصاب جبهتها الداخلية دخل في قيامها.
(٤) الأسرة الرابعة عشرة
وأعقبتها الأسرة الرابعة عشرة، وكلتا الأسرتين تخاذلت أمام الغزو الهكسوسي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.