ثورة الشعب على الهكسوس وإجلاؤهم عن مصر سنة ١٥٧٠ قبل الميلاد
رُزئت البلاد في القرن الثامن عشر قبل الميلاد بالغزو الهكسوسي.
والهكسوس أو الرعاة قوم من قبائل مختلفة لا تربطهم رابطة، يرجع أصلهم إلى أواسط آسيا، وقد انحدروا غربًا يقصدون النهب والسلب أو الاستعمار والغصب، فنزحوا إلى بلاد الرافدين، ثم استقروا وقتًا ما في سورية ولبنان وفلسطين وحكموها دون أن يكونوا من أهلها، ثم حدثتهم أنفسهم بأن يضموا إلى البلاد التي غزوها بلادًا أخرى طمعًا في خيراتها وهي مصر.
ولقد كانت حالة مصر الداخلية في عهد الأسرة الثالثة عشرة مغرية للهكسوس بأن يهاجموها ويغزوها، فالاضطراب كان يسودها في عهد هذه الأسرة، والجبهة الداخلية مفككة متخاذلة، والنزاع على السلطة يفرِّق بين أبناء الوطن الواحد، والحالة الاقتصادية والاجتماعية في تدهور.
فمصر كانت تمر بفترة انحلال وضعف قومي يسهِّل على الأجنبي المغير أن ينالَ منها.
أضِفْ إلى ذلك أن الهكسوس كانوا يستخدمون في هجومهم سلاحًا جديدًا بالنسبة لذلك العصر، وهو سلاح العرَبات التي تجرُّها الخيل في ساحة الوغَى، ولم يكن هذا السلاح مألوفًا ولا معروفًا وقتئذٍ لدى المصريين القدماء، فكان تميزًا للهكسوس في نضالهم ضد مصر.
فهذا الوصف يدل على أنه لم يكن هناك معارك جدِّية أدت إلى غلبة الهكسوس، بل كان غزوًا فجائيًّا نُكبت به البلاد على حين غِرة، وكان تخاذل الجبهة الداخلية أول الأسباب لوقوعه.
تخاذلت الأسرة الثالثة عشرة ثم الرابعة عشرة أمام الهكسوس، فحكموا شرق الدلتا حكمًا مباشرًا وعاثوا فيها فسادًا، وكانوا قومًا مخرِّبين، فعصفوا بكل مظاهر الحضارة المصرية واضطهدوا الأهلين.
وبقيت الأسرة الرابعة عشرة تحكم غربي الدلتا موالية للاستعمار، أما أمراء الوجه القبلي فقد احتفظوا بشبه استقلال ذاتي مع دفع الجزية للهكسوس، وهذا معناه أن الهكسوس كانوا يحكمون شرقي الدلتا حكمًا مباشرًا، وكانت لهم السيادة على غربيها وجزء من مصر الوسطى، أما الوجه القبلي فكان له شبه استقلال ذاتي ولم يستطع الهكسوس إخضاعه لحكمهم المباشر.
ولم يطمئن الهكسوس يومًا على سيطرتهم ونفوذهم في مصر؛ ولذلك اتخذوا عاصمتهم في «أواريس»، وهي بلدة تقع في الشمال الشرقي من الدلتا، اختاروها لكي لا يُحاط بهم إذا تغلغلوا في الدلتا، أو الوجه القبلي وليكونوا على اتصال بمعاقلهم في فلسطين.
وقع الغزو الهكسوسي حوالي سنة ١٧٣٠ قبل الميلاد كما أسلفناه، وتحرَّرتْ منه البلاد حوالي سنة ١٥٧٠ق.م.
وهذان التاريخان هما أرجح الآراء عن مدة بقاء الهكسوس في مصر إلى طردهم منها؛ أي أن احتلالهم دام قرابة قرن ونصف قرن من الزمان.
(١) الغزو الهكسوسي والاحتلال الإنجليزي ومدة كليهما
ولا تهولنَّك هذه المدة ولا تجعلها موضع الدهشة والاستغراب لطولها، فإذا عقدنا مقارنة بين احتلال الهكسوس في العصر القديم، واحتلال الإنجليز مصر في العصر الحديث، نجد أن الاحتلال الإنجليزي بدأ سنة ١٨٨٢ ميلادية ولم ينتهِ إلا سنة ١٩٥٦م، أي إنه بقي أربعًا وسبعين عامًا جاثمًا على صدر البلاد، في الوقت الذي ارتقى الشعور الوطني والوعي القومي في مصر الحديثة، فلا تُلام مصر القديمة على بقاء الاحتلال الهكسوسي فيها ضِعف هذه المدة، فالأمر كما ترى قريب من قريب.
على أنه في كلا الاحتلالين كان ولاء الأسرة الحاكمة للاحتلال والاستعمار الأجنبي هو السبب الجوهري لوقوعه ولبقائه ردحًا طويلًا من الزمن، والناس على دين ملوكهم أو زعمائهم.
ويبدو حسن استعداد المصريين لكفاح الاستعمار أنه لم تكد حرب التحرير تبدأ في «طيبة» حتى لبَّى الشعب نداء «سقنن رع» ملك طيبة المجاهد.
وتملكت المواطنين الروح القومية الوثابة، وانضووا تحت علَم الثورة حتى جلا المستعمر عن البلاد سنة ١٥٧٠ قبل الميلاد.
تعاقبت على البلاد الأسرات الرابعة عشرة والخامسة عشرة والسادسة عشرة، ولم تبدأ حرب الاستقلال إلا على يد الأسرة السابعة عشرة.
ومن المحقق أن ملوك الأسرتين الخامسة عشرة والسادسة عشرة كانوا من صميم الهكسوس.
فلا يصح إحصاؤهم ضمن الأسرات المصرية، ومن أهم ملوكهم «خيَّان»، وآخر ملوكهم «أبو فيس».
وبقي الأمراء الوطنيون في مناطقهم شبه مستقلين يدفعون الجزية للهكسوس، ثم تزعمت طيبة حركة التحرير.
بدأت حرب التحرير على يد «سقنن رع» ملك طيبة من ملوك الأسرة السابعة عشرة، وكان أبو فيس الملك الهكسوسي يتحرش بسقنن رع ويتحداه ويريد إذلاله، ولكن سقنن رع سارع إلى إعداد العدة لمحاربة المحتل الغاصب وأعلن الحرب على الهكسوس، فحاربهم بمعاونة الشعب في كفاحه.
وما زال «سقنن رع» يحارب الهكسوس حتى سقط شهيدًا في ميدان الجهاد.
واستخدم المصريون السلاح الذي حاربهم به الهكسوس من قبل، سلاح العربات التي تجرها الخيل، كما تذرعوا بالشجاعة والصبر والإيمان.
فما زالوا يجاهدون الهكسوس حتى ارتدُّوا إلى «أواريس» التي اتخذوها من قبل عاصمة لهم كما أسلفنا، فحاصرهم فيها المصريون وحملوا عليهم فيها ثلاث حملات، حتى استسلمت سنة ١٥٧٠ قبل الميلاد.
كانت حرب التحرير ضد الهكسوس حربًا ضروسًا، تجلَّتْ فيها بطولات كتائب التحرير المصرية، سجَّل أحد الضباط الشبان «أحمس بن أبانا» على جدران مقبرته نصوصًا، قال فيها: «أمضيت صدر شبابي في مدينة الكاب، وكان أبي ضابطًا في جيش الملك سقنن رع، ولما تُوفِّي أبي دخلت الجندية وأصبحت ضابطًا على سفينة من سفن الملك في عهد أحمس، وكنت شابًّا لم أتزوج بعد، فلما تزوجت وصارت لي أسرة نُقلت إلى أسطول الشمال تقديرًا لشجاعتي وإقدامي.» ثم يقول إنه نُقل من البحرية إلى الجيش وأنه تولى قيادة الحرس الملكي، وأنه كان يتبع الملك «أحمس» في سيره حينما أقلَّتْه عربته، وأشار إلى أنه أظهر بسالة رائعة في القتال، وقد كافأه الملك أكثر من مرة بالذهب، ورقَّاه إلى قيادة سفينة كبيرة اسمها «ضوء منف»، يبدو أنها ساهمت في حصار مائي يعلي أواريس، وتحدَّث عن سُقوط المدينة ورحيلِ الهكسوس عنها.
(٢) أبطال الاستقلال من الرجال والنساء
أودُّ أن أذكر في هذا الثبت أسماءَ أبطال الاستقلال البارزين من الرجال والنساء الذين امتازوا ببطولتهم في الثورة على الهكسوس وتحرير مصر من احتلالهم؛ لأن أقل ما يجب علينا نحوهم أن نخلِّد ذكراهم المجيدة.
(٢-١) سقنن رع
هو أول ملوك طيبة الذين أثاروا الشعب على الهكسوس، وحملوا علَم الجهاد ضدهم، فهو بطل من أبطال الجهاد القومي، وقد قُتل في ساحة الوغى ولم يتجاوز الثلاثين من عُمره.
ومومياؤه محفوظة بالمتحف المصري بالقاهرة، وفيها آثار الجراح القاتلة التي أصابته في صدره ورأسه.
وطيبة هي المدينة التي بدأت فيها حرب الاستقلال، وانبعثت منها الشرارة الأولى للثورة على الهكسوس.
(٢-٢) الملكة تتي شري Tetisheri
وهي أُم سقنن رع، وكانت من صميم الشعب، أي لم تكن من سلالة ملكية، وقد غرَسَتْ ولا ريب في ابنها روح البطولة والتضحية، وكانت بطلة أم بطل، وجدة بطل «الملك أحمس».
(٢-٣) الملكة إياح حوتب
هي زوجة سقنن رع وأم الملك أحمس، وهي التي بثَّتْ في ابنها روح الاستمرار في الجهاد بعد مقتل أبيه سقنن رع، وهي من الملكات الخالدات، جاهدت مع زوجها، وجاهدت مع ولديه: كامس، وأحمس.
(٢-٤) كامس
ابن سقنن رع، حمل لواء الثورة بعد أبيه واستمر يجاهد ويُتم رسالته، وقُتل هو أيضًا في حرب التحرير.
(٢-٥) أحمس
هو ابن سقنن رع وأخو كامس، وقد خلفه في قيادة حرب التحرير، واستمر يحارب الهكسوس حتى قضى عليهم واستولى على عاصمتهم «أواريس»، وتعقَّبهم في فلسطين، وقضى على فلولهم في «شاروهين» وفروا إلى سورية.
(٢-٦) نفرتاري
(٣) تمجيد البطولة وتخليدها
إن بطولة المصريين في حرب التحرير من الهكسوس جديرة بأن تكون مُخلَّدة في ملاحم من الشعر تحوي وقائع هذه البطولة وأسبابها ومراحلها وأطوارها، والشعر أول ما يعنى بتخليد هذه البطولات.
(٣-١) ما هي الإلياذة؟ وما هي الأوديسة؟
الملاحم أقدم قصائد الأدب اليوناني، وأعظم شاعر نظمها هو هومير، وطروادة مدينة ذات أسوار منيعة كانت تقع قرب بوغاز الدردنيل بالشمال الغربي لآسيا الصغرى.
وأشهر الملاحم التي نظَمها هومير هو الإلياذة والأوديسة، وهما صورة واضحة المعالم للمجتمع اليوناني في عصر الأبطال.
عاش هومير في النصف الثاني من القرن التاسع قبل الميلاد، وأشهر أشعاره الإلياذة والأوديسة.
وصف في ملحمة الإلياذة حوادث حرب اليونان ضد طروادة حوالي القرن الثاني عشر ق.م. في مرحلتها الأخيرة.
فحكم بأن «أفروديتا» أعظمهن جمالًا.
وقد ساء أثينا وهيرا هذا الحكمُ، وعوَّلتا على الانتقام من مدينة طروادة بالانضمام إلى اليونان في حربهم ضدَّها.
وأوحت أفروديتا إلى باريس بالذهاب إلى اليونان؛ ليخطف هيلينا زوجة الملك منيلاوس شقيق أجاممنون، وقد أغرتها الآلهة بالرحيل معه إلى طروادة.
فغضبت المدن اليونانية وصمم أهلها على غسل هذه الإهانة.
فأجمعوا أمرهم على حرب طروادة وتدميرها، وأعدوا جيشًا أبحر تحت قيادة أجاممنون سيد الإغريق عامة؛ ليستردوا هيلينا رمز الجمال ويدمروا طروادة.
واستمرت الحرب بين الفريقين عشرة أعوام، وصف الشاعر هومير حوادث الأسابيع الأخيرة منها.
وقد انتهت الحرب بانتصار اليونانيين.
وكان «أخيل» أعظم بطل في المعسكر الإغريقي.
وتقع الإلياذة في خمسة عشر ألف وخمسمائة وثلاثين بيتًا.
ويُعد «أخيل» بطل الإلياذة الأول.
ونظم هومير في الإلياذة ما وقع بين اليونانيين وأهل طروادة من الحروب، وما ظهر من اليونانيين من السياسة والشجاعة في هذه الحروب.
ويُجمع النقاد على أن هذه الملحمة حوت أحسن ما يمكن في ذلك العصر أن يأتي به خيال شاعر، في تمجيد الأبطال ووصف عواطف النفس وخطرات الأفئدة.
لقد ذهب «أوديسيوس» مع غيره من أبطال اليونان واشترك في حرب طروادة، وأثناء عودته ضلت سفينته طريقَها وحاصرتها الأمواج، فألقت به على شواطئ محفوفة بالمهالك، ولكن «أوديسيوس» صارع الأهوال عدة أعوام و«بنيلوبي» تنتظره وفية له إلى أن عاد إليها زوجها وحبيبها.
وأجمع النقاد القدماء والمحدثون على أن الإلياذة والأوديسة هما أجمل ما نُظم في شعر الملاحم، وأن بعض أجزائها تُعد من أجمل ما ظهر في عالم الشعر.
والإلياذة والأوديسة فيهما تمجيد للبطولة، وتصوير لها في أشعار خالدة، تغرس في النفوس حب البطولة والفداء.
ومن طريف ما يُذكر عن تأثير الإلياذة أنها أثرت تأثيرًا بالغًا في نفس الإسكندر الأكبر، فقد كان يتلوها المرة بعد المرة، واتخذ بطلها أخيل مثالًا يحتذيه، ولعل إعجاب الإسكندر الأكبر بشعر هومير في الإلياذة كان نتيجة لإعجاب أستاذه الفيلسوف «أرسطو» بها؛ فقد كتب شرحًا وافيًا لها وأشاد بها في كتاب «فن الشعر».
(أ) هل لنا في هومير الثورة على الهكسوس؟
فهل لنا أن نأمل في تخليد بطولة المصريين في حرب التحرير ضد الهكسوس، وأن تُمجد هذه البطولة في ملحمة من نظم شاعر عربي يشيد بالروح الوثَّابة التي انبعثت في الشعب المصري القديم، وجعلته يكافح الهكسوس من أجل حرية الوادي واستقلاله؟
هل نجد في شعرائنا هومير الثورة على الهكسوس؟
إننا نأمل ونرجو.
ويقول موريه Moret في كتابه «مصر الفرعونية» ص٢٨٧: إنها تقريبًا في مكان بيلوز. والرأي الراجح أنها «قنتره» الحالية مركز فاقوس الآن.