الدولة الحديثة: من الأسرة الثامنة عشرة إلى الأسرة الثلاثين
يعتبر المؤرخون بداية الدولة الحديثة من الأسرة الثامنة عشرة.
ومؤسس هذه الأسرة هو أحمس الأول، محرر مصر من الهكسوس.
وللأسرة الثامنة عشرة شأن عظيم في تاريخ مصر.
وقد امتدَّتْ حدودها في عهدها إلى أقصى ما وصلت إليه في ذلك العصر.
(١) الأسرة الثامنة عشرة (١٥٧٠–١٣٠٤ قبل الميلاد)
(١-١) أحمس الأول
هو مؤسس الأسرة الثامنة عشرة.
ومع أنه يُعتبر من الأسرة السابعة عشرة لأنه ابن «سقنن رع» من ملوك هذه الأسرة، وقد سبق الحديث عنه، ولكن المؤرخ المصري «مانيتون» وضعَه على رأس الأسرة الثامنة عشرة؛ لأنه وقد حرر مصر من الهكسوس جدير بأن يكون على رأس أسرة جديدة.
وحسنًا فعل مانيتون؛ لأن تحرير البلاد من الهكسوس حادث تاريخي هام يحق أن يكون بداية لأسرة جديدة، بل لعصر جديد.
وفي الحق أن الأسرات الأولى للدولة الحديثة تمثِّل مصر الكبرى، وقد بلغتِ البلاد في عهدها أرفع درجات الحضارة والمتعة.
(أ) حروب قومية دفاعية
ولا غرو فإن غزو الهكسوس قد استثار في نفوس المصريين الشعور القومي والتعلق بالحرية، وحفزهم وملوكَهم إلى الجهاد في سبيل الذَّود عن الاستقلال، وتمَّ لهم ما أرادوا.
ثم إنهم فطِنوا إلى أن تأمين الاستقلال لمصر لا يكون بتحصين حدودها فحسب، بل لا بد لها من بسط نفوذها على البلاد المجاورة التي جاء منها الغزو الأجنبي.
ولقد كان «أحمس» أول من طبَّق هذه السياسة الحكيمة، فإنه بعد أن حرر البلاد من الهكسوس تعقَّبهم في جنوب فلسطين وحاربهم وحاصرهم في شاروهين حتى استسلمت.
ولكنه لم يقضِ عليهم القضاء التام، فإن ملك الهكسوس قد فرَّ منها قبل أن تستسلم، وظل وقومه يدبرون المكايد في فلسطين وفينيقية «لبنان» وسورية.
فكانت سياسة مصر في الدولة الحديثة أن تحارب بقايا الهكسوس في تلك البلاد.
ولم تكن في سياستها معتدية أو باغية، ولم تكن هذه الحرب هجومية هدفها الفتح والغزو والاستعمار، بل كانت حربًا دفاعية اقتَضَاها الدفاع عن النفس وتأمين حرية مصر واستقلالها.
هذا، ولم تكن مصر تحارب أهل هذه البلاد، بل حاربت الهكسوس الذين استعبدوها واتخذوا منها قواعد لمهاجمة مصر كلما سنَحت لهم الفرصة، ولقد نفَّذ هذه السياسة الدفاعية القومية ملوك مصر وخاصةً «تحوتمس الثالث» و«رمسيس الثاني»، كما سيجيء بيان ذلك فيما يلي.
ووجَّه ملوك مصر عنايتهم إلى تقوية الجيش المصري وإذكاء الروح الحربية في نفوس المصريين ليطمئنوا على سلامة الوطن وحريته.
كان عهد «أحمس» دور اليقظة من سبات عميق، وتقوية للمواهب القومية الدفينة في الأمة المصرية، ولا غرو فقد كان هو مثال الشجاعة والجد والحكمة والدهاء، قويُّ الإرادة، ماضي العزيمة، فهابه الجميع واحترموه، وحكم البلاد اثنتين وعشرين سنة، وكانت وفاته حوالي سنة ١٥٥٧ق.م، وهو واضع اللبنة الأولى في صرح الإمبراطورية المصرية في مصر القديمة.
(١-٢) خلفاء أحمس الأول
(أ) أمنحوتب الأول Amenhotep
هو ابن أحمس الأول، وقد حافظ على عهد أبيه، وكانت النوبة قد انتقضت على مصر فغزاها أمنحوتب ووصل إلى حد الدولة الوسطى بجهة الشلال الثاني.
وحارب الليبيين حين حدثتهم أنفسهم بالعدوان على غرب الدلتا فصدهم وهزمهم، وحكم البلاد نحو عشرين عامًا.
(ب) تحوتمس الأول
وخلفه تحوتمس الأول، وفي عهده وَصَلت مصر إلى الشلال الرابع على النيل جنوبًا، إذ كان على رأس حملة وطَّدَتْ سلطة مصر في بلاد النوبة.
وحارب بقايا الهكسوس في فلسطين وسورية، فإنهم ما فتِئُوا يلوذون بهذه النواحي بعد هزيمتهم في شاروهين.
وفي عهده خضعت لحكم مصر الأقاليم الآسيوية في تلك الأَصقاع، ووصل إلى نهر الفرات شمالًا وأقام على ضِفَّته لوحة تذكارًا لهذا الحادث التاريخي.
وبلغت مدة حكمه ثلاثين سنة، وهو من أعظم ملوك مصر.
(ﺟ) تحوتمس الثاني
هو ابن تحوتمس الأول، وقد تزوج من أخته لأبيه «حتشبسوت»، وكانت سيدة طموحًا إلى المُلك فانفردت به، واستسلم لها زوجها.
وبقي على العرش نحو عشرين عامًا.
(د) الملكة حتشبسوت Hatshepsout
ولما مات تحوتمس الثاني آل المُلك إلى «حتشبسوت» ابنة تحوتمس الأول بالاشتراك مع تحوتمس الثالث (ابن أخيها)، وتجدد النزاع على مَن ينفرد بالحكم.
واستطاعت «حتشبسوت» بتأييد أنصارها في الدولة أن تنفردَ به نحو سبعة عشر عامًا، تولَّت فيها الوصاية على العرش إذ كان تحوتمس الثالث لا يزال صبيًّا، وكذلك ابنتها «نفرورع».
وسكت «تحوتمس الثالث» على هذا الوَضْع، ولم يُثِرْ أي شقاق أو نزاع حرصًا على وحدة الصفِّ، وبرهن منذ الساعة الأولى على بُعْد نظره، وما تذرَّع به من الحكمة والأناة.
وكانت «حتشبسوت» سيدة عظيمة، وملكة عظيمة، وقد صُورت على بعض آثارها مرتدية زيِّ الرجال، وكان لها من النشاط ما يفوق نشاط كثير من الرجال، على أنها لم تكن محاربة، ولم تكن تميل إلى امتشاق الحسام.
فصرفت همتها في الإصلاح والتعمير بعد التخريب الذي أصابَ البلاد، أثناء حكم الهكسوس.
وقد أقامت مسلتين كبيرتين بساحة الكرنك، وتُعتبران أعلى الآثار المصرية التي يرجع تاريخها ولم تكن فيإلى تلك العصور؛ لأن ارتفاع كل منهما بلغ حوالي سبعة وتسعين قدمًا ونصفًا، أما زنة كل منهما فتقرب من ٣٥٠ طنًّا، ولا تزال إحداهما شاخصة في مكانها الأصلي إلى الآن تَسترعي أنظارَ الزائرين كل حين، وبلغ عدد المسلات التي أقامتها ستًّا.
حملة بحرية إلى الصومال
وأوفدت «حتشبسوت» حملة بحرية كبيرة إلى بلاد الصومال (وكانت تُسمى بونت)؛ لتبادل المتاجر معها.
وكانت حملة سلمية ودية، مؤلفة من خمس سفن شراعية.
وقد أقلعت هذه السفن من طيبة على النيل، واتجهت شمالًا حتى بلغت وادي الطميلات، وسارت في القناة التي حُفرت في عهد سنوسرت الثالث حتى بلغت البحيرات المرة، فالبحر الأحمر.
وحملت السفن إلى الصومال كثيرًا من مختلف الجواهر والمعادن والحلي والأطعمة والأشربة والسلاح، وعادت بالكثير النفيس من حاصلات تلك البلاد ومنتجاتها، كشجر المر والبخور والصمغ والأبنوس والتبر والعاج والحيوان، وكانت هذه الحملة من أهم أعمالها العمرانية.
وأرسلت البعثات إلى سيناء لاستثمار ما فيها من المناجم، ونهضت بمصنوعات البلاد وزادت من ثروتها، وكان عهدها عهد سلام وازدهار ورخاء للشعب.
فلما تُوفِّيت انفرد تحوتمس الثالث بالملك، ومحا اسمها من الآثار التي خلفتها.
(ﻫ) تحوتمس الثالث (١٤٩٠–١٤٣٦ قبل الميلاد)
هو ابن تحوتمس الثاني وابن أخي حتشبسوت.
ووالدته تُدعى «إيزيس»، وهي زوجة ثانوية لأبيه (من الجواري)، ومن حقها أن تفخر بأنها أنجبت لمصر البطل العظيم تحوتمس الثالث.
ولما تُوفِّي أبوه كان تحوتمس لا يزال صبيًّا لم يبلغ الحلم بعد، فتولت حتشبسوت وقتًا ما الوصاية عليه وعلى ابنتها نفرورع، ثم انفرد بالحكم بعد وفاة حتشبسوت.
وهو أعظم ملوك مصر قاطبة، كما سيجيء في الفصل التالي.