أوج المجد: مصر في عهد تحوتمس الثالث، أو الأكبر
عندما تولى هذا الملك عرش مصر، كانت الأطماع تتجه إليها، وكان الطامعون قد أخذوا يتربصون بها حين رأوا قوة مصر الحربية مسالمة متراخية في عهد الملكة «حتشبسوت»، فظنوا بجيش مصر الظنون.
وخَيَّل لهم الوهم أن الملك الشاب تحوتمس الثالث لا يقوى على إحباط مؤامرتهم، وصد تحركاتهم العدائية.
ولم تكن مواهب تحوتمس الثالث الحربية قد تجلَّت بعد وظهرت للعيان؛ لأنه لم يسبق له قبل تولي العرش أن مارس الحرب والكفاح.
وإذ توالت النذر بأن هذا الحلف إذا تُرك وشأنه؛ فإنه لا يلبث أن يكون مصدر خطر على مصر، فقد بادر تحوتمس الثالث إلى مهاجمة هؤلاء الحلفاء في عقر دارهم، واعتزم في أوائل حكمه أن ينازلهم حيث كانوا، فأعدَّ للزَّحفِ عليهم جيشًا مدربًا منظمًا كان هو على رأسه، واستعدَّ للحرب والنضال.
(١) معركة مجدُّو (سنة ١٤٧٩ قبل الميلاد)
تُعد معركة «مجدُّو» من المعارك الفاصلة في التاريخ.
تقدمت قوات أمير «قادش» وحلفائه جنوبًا، واحتلت حصن «مجدُّو» على المنحدر الشمالي لجبل «الكرمل»، واتخذته أول موقع منيع لصد زحف الجيش المصري القادم من سهل مجدُّو.
وحين علم تحوتمس الثالث باحتلال الأعداء هذا الحصن، اتجه إليه بجيشه.
وكان أمامه ثلاث طرق لعبور تلك المنطقة الجبلية، اثنان منها يدوران حول سفح جبل الكرمل، والثالث طريق ضيق صعب المرتقى يصل مباشرةً إلى أبواب مجدُّو.
وعقد تحوتمس مجلسًا حربيًّا، شاور فيه مستشاريه العسكريين في أيِّ الطرق يختار، فأشاروا عليه باجتناب الطريق الضيق واختيار أحد الطريقين الآخرين.
ولكنه أصر على السير في الطريق الوعر؛ لأنه أقرب الطرق وأكثرها استقامة.
وفي فجر يوم الواقعة (١٥ مايو سنة ١٤٧٩ق.م) أمر تحوتمس الجيش بالزحف والهجوم على العدو، واعتلى مركبته الحربية البراقة المصنوعة من خليط الذهب والفضة، وسار على رأس جيشه في الطريق الوعر، فبعث في نفوس جنوده الحماسة والحمية، وشجعهم هو قائلًا: سأسير أمامكم لكي أُظهر لكم الطريق فتقتفوا أثري.
وقد تأججت في نفوس الجنود روح الحرب، وبلغت مشاعرهم ذروتها.
وإذ شاهد أمير قادش هذا الهجوم ألقى بجنوده بين جيش تحوتمس ومجدُّو، فانقض عليهم تحوتمس وهو في مقدمة جيشه شاهرًا حسامه، وأخذ الجيش المصري يَدحَرُهم ويَفتِك بهم.
وعلى أثر هذا الهجوم تقهقر العدو وارتدَّ نحو مجدُّو واحتمَى بها، فحاصرها الجيش المصري وظل على حصارها حتى سلَّمت بعد أن فرَّ منها أمير قادش، وعظمت غنائم الجيش المصري في هذه الموقعة، وكانت نصرًا مبينًا فرحت له نفوس المصريين جميعًا.
وعامل تحوتمس الأسرى من الأعداء معاملة حسنة كريمة.
(١-١) نتائج معركة مجدُّو
قررت معركة «مجدو» مصير فلسطين ووطدت سلطة مصر فيها، وفتحت أمام تحوتمس الثالث طريق لبنان وسورية، ووصل إلى منحدرات هذين القطرين، وكانت تحت حكم أمير قادش، فسرعان ما سلَّمتا للمصريين، وقد امتلأت نفوس الأعداء فزعًا من هيبته.
وأخذ تحوتمس ينظم ما أخضعه من البلاد، ويوطد السلم والأمن فيها، ويستبدل بحكامها المعادين آخرين موالين له.
وسمح للحكام الجدد أن يحكموا البلاد بحرية بشرط أن يدفعوا لمصر الجزية، ووصلت سلطته إلى جبال لبنان الشمالية، وتوغَّلَ حتى مدينة دمشق.
وعامل الأهلين بالرفق والعدل، وحبب إليهم العلوم والمعارف، وغرَسَ في قلوبهم حب مصر.
وعاد إلى مصر في أوائل أكتوبر من ذلك العام (١٤٧٩ق.م) ووصل إلى طيبة، فاستقبله الشعب استقبالًا مجيدًا.
وجدد تحوتمس على تعاقب السنين حملاته على الأقطار الأسيوية، حتى وصل إلى الفرات.
وقد رأى بثاقب نظره أن مدينة قادش الواقعة على نهر العاصي (الأورونت)، تقف عقبة أمامه وتحُول دون وصوله إلى وادي الفرات.
فأعد أسطولًا يشترك مع الجيش البري في هذه الحملات، واتخذ من الشواطئ الفلسطينية والفينيقية التي فتحها مواقع لتأمين خطوط جيشه في الزحف.
(٢) سقوط قادش
ووصل تحوتمس الثالث إلى قادش معقل أميرها الذي ناوأه في حملاته، وضرب عليها الحصار وهاجمها حتى سلَّمت، وكان سقوط قادش انهيارًا لآخر صرح للهكسوس.
وأتم إخضاع شاطئ فينيقية (لبنان).
(٣) سقوط قرقميش
وأعد حملة أخرى للوصول إلى بلاد الرافدين (ما بين النهرين) زحف عليها من طريق قادش، وأعد لعبور الفرات سُفنًا حُملت أجزاؤها على عربات، وصُنعت هذه السفن في «جبيل» ونُقلت إلى قرقميش.
وأقام على ضِفَّة الفرات لوحة تذكارًا لانتصاره، وكانت على مقرَبة من اللوحة التي أقامها جده تحوتمس الأول.
وأخذ أمراء ما بين النهرين يُظهرون الولاء والخضوع له، ويدفعون الجزية لمصر وسالمته مملكة ميثاني وبابل ومملكة خيتا (الحيثيين) بآسيا الصغرى، وأرسلت إليه الهدايا.
واستمرت حملات تحوتمس الثالث إلى أن كانت الحملة السادسة عشرة؛ إذ أعلنت مدينة قادش العصيان يساندها ملك ميثاني، فهاجمها من جديد وخضعها وقضى بذلك على كل أثر لمعارضة النفوذ المصري في سورية.
وبلغت قوة مصر البحرية درجة كبيرة خضَع لها ملك قبرس.
وتمكَّن الأسطول المصري من بسط نفوذه على جزيرة كريت، وبقية الجزر الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
(٤) من أعالي الفرات شمالًا إلى الشَّلال الرابع على النيل جنوبًا
وامتدت حدود الدولة المصرية في عهده، فوصلت إلى أعالي الفرات شمالًا وجزر البحر الأبيض المتوسط، ووصلت جنوبًا إلى الشلال الرابع على النيل، وكانت هذه الحدود أقصى ما وصلت إليه مصر القديمة.
وتأسست الإمبراطورية المصرية وبلغت أوجها في عهده، وهو أول عاهل خضع له العالم المتمدن في إفريقيا وآسيا، وأول منشئ عظيم للإمبراطورية في العالم، وأول من سبق الإسكندر ونابليون في هذا المجال.
(٥) نابليون الشرق
ذاعت شهرة تحوتمس الثالث كقائد عظيم، وتجلت مقدرته الحربية في حروبه وحملاته الموفقة التي بلغت سبعة عشرة حملة، كان النصر حليفه فيها جميعًا.
وقد لقَّبه المؤرخون بنابليون الشَّرق.
وصارت طيبة عاصمة العالم المتمدن، وعُرفت لدى الإغريق بالمدينة ذات المائة باب، وجاء ذِكرها بهذا الاسم في أشعار هومير، فأطلق عليها نفس الاسم (المدينة ذات المائة باب) يتسع كل باب لمائتَي رجل، وتخرج منها جيوش فرعون بكامل عُدَّتِها وعَتادها فوق عجَلاتها الحربية.
(٦) بين مصر وسورية
عامل تحوتمس الأهلين في فلسطين ولبنان وسورية بالرفق والعدل، لم يكن جبَّارًا في الأرض ولا متغطرسًا، بل كان حاكمًا قويمًا يحب العدل ويدافع عنه، يكره الانتقام وسفك الدماء، لم ينتقم من الأمراء الذين ساروا في ركاب أمير «قادش»، بل أبقى الموالين منهم في مراكزهم.
وفي سبيل دعم الروابط بين مصر وسورية، أمر بإيفاد بعض أبناء حكام تلك البلاد إلى مصر؛ ليتثقفوا وينهلوا من العلوم والمعارف، وليغرس في قلوبهم حبَّ مصر.
لم يكن يبغي من فتح هذه البلاد تأمين كيان مصر فحسب، بل أراد أن يجمع بين فلسطين وسورية ولبنان ومصر في وحدة شاملة، ففي فُتوحه الآسيوية لم يرهق الأهلين ولا كان يحاربهم، بل كانت حروبه ضد حلف يتزعَّمُه أمير قادش من بقايا ملوك الهكسوس (الرعاة)، ولم يكن أمير قادش من أهل هذه البلاد ولا من المواطنين فيها، بل كان من غزاتها وسليل غزاتها السابقين.
ومن المحقق أن الهيبة التي كانت لتحوتمس في النفوس والتي نتجت عن انتصاراته في ميادين القتال، والقوة الحربية التي اعتمد عليها في بسط سيطرته على تلك الأصقاع، كانت هي الدعامة الأولى للدولة المترامية الأطراف التي أنشأها في آسيا، ولولا تلك القوة لمَا استطاع أن يوطد سلطانه فيها.
(٧) وفاة تحوتمس الثالث
تُوفِّي تحوتمس الثالث سنة ١٤٣٦ق.م؛ بعد أن جلس على عرش مصر أربعة وخمسين عامًا، كانت أوج المجد لمصر القديمة.
(٨) خلفاء تحوتمس الثالث
(٨-١) أمنحوتب الثاني١٢
شقت الأقاليم الآسيوية عصا الطاعة على مصر بعد وفاة تحوتمس الثالث، فانبرى لها ابنه أمنحوتب الثاني، وقد أنشأه أبوه النشأة العسكرية وغرس فيه الشجاعة والفروسية، ودربه على ضروب القتال، وكان ملكًا قويًّا نافذ البصيرة ماضي العزيمة، وقاد الجيش المصري بنفسه كما كان يفعل أبوه وأخمد العصيان.
وتُوفِّي سنة ١٤٢٠ قبل الميلاد، بعد أن حكم حوالي ٢٦ سنة.
(٨-٢) تحوتمس الرابع
هو حفيد تحوتمس الثالث، وقد ذهب على رأس جيشه إلى سورية والفرات لقمع الفتن والثورات، وكان آخر ملوك مصر المحاربين من الأسرة الثامنة عشرة.
وعقد معاهدة صداقة مع «ميثاني» ثم مع «بابل»، وتزوج من ابنة ملك ميثاني؛ ليؤكد الصداقة بين البلدين، ويفتح بين دول الشرق عهدًا جديدًا من الصلات الودية والمصاهرة والتحالف.
ومن أعماله أنه أتم إقامة المسلة التي تركَها جدُّه تحوتمس الثالث بمدخل الكرنك الجنوبي. وارتفاع هذه المسلة الشاهقة مائة وخمسة أقدام، وهي أكبر مسلة باقية إلى الآن.
وقد نُقلت إلى إيطاليا، حيث لا تزال منصوبة بروما.
(٨-٣) أمنحوتب الثالث١٣
هو ابن تحوتمس الرابع من زوجته الميثانية.
وفي عهده تنافست بابل وآشور وميثاني وقبرص في اكتساب صداقة مصر، ويُعتبر هذا أول مظهر سياسي دولي في تاريخ الممالك المعروفة وقتئذٍ.
وقد سمَّى «موريه» النظام الذي أنشأه ملوك الأسرة الثامنة عشرة في البلاد الآسيوية نظام حماية مقرونًا بالاتجاهات الحرة والرفق بالأهلين.
تزوج أمنحوتب الثالث من فتاة مصرية من صميم الشعب تُدعى «تي».
كان أبوها كاهنًا، وأمها إحدى سيدات القصر المشرفة على الملابس.
وكانت «تي» في عهده لها النفوذ الكبير باعتبارها ملكة مصر، وكانت على جانب كبير من الذكاء والجمال، وكانت لها في نفسه منزلة كبيرة.
ومن دلائل حبه لها أن أمر بحفر بحيرة تلهو بها في قارب من خشب الأبنوس مصفح بالذهب بجوار قصرها، وبلغ طول هذه البحيرة نحو ١٨٠٠ متر وعرضها ٣٥٠ مترًا، وكان حفره لهذه البحيرة تلبيةً لرغبة عابرة لها.
ثم تزوج عليها من أخت دشراتا ملك ميثاني، وكان يُكثر من الزوجات والجواري.
على أن «تي» ظلت زوجته المفضَّلة، واستمرت على نفوذها وسيطرتها على الملك وعلى شئون الدولة.
وقد أرسل «دشراتا» ملك ميثاني إلى أمنحوتب الثالث (صهره) خطابًا يدلُّ على الود بينهما، ويدل على السذاجة في التفكير، وعلى أن مصر كانت مطموعًا في ثرواتها وخيراتها حتى ممن كانوا يرتبطون بها بصِلاتِ الودِّ والمصاهرة.
قال: «إلى أخي وصهري الذي يحبني وأحبه أمنحوتب الثالث الملك المعظم وفرعون مصر.
فمملكة ميثاني في شمال العراق ربطتها بمصر روابط التحالف والود والمصاهرة، ولكن مملكة الحيثيين بالأناضول ناصبتها العداء، فاستنجد ملكها بمصر فأمده أمنحوتب الثالث بنجدة ساعدته، فحنق ملك خيتا (الحيثيين) على مصر وألب عليها عناصر الشغب في سورية.
وفي آخر عهده ظهرت بوادر الهجوم من جانب «الحيثيين» فلم يذهب إليهم على رأس جنده؛ ليرد هجومهم كما فعل تحوتمس الثالث وأمنحوتب الثاني وتحوتمس الرابع، بل اكتفى بإرسال جيش لمحاربتهم.
وكان أمنحوتب الثالث متراخيًا في شئون الدولة العليا، فتخلخل الحكم المصري في آسيا، وظهرت المؤامرات في سورية يدبرها أمير قادش وملك خيتا (الحيثيين).
ولم يكن ميالًا إلى الحرب والهيجاء، وركن إلى حياة الدعة والاستمتاع.
وتُوفِّي بعد أن حكم البلاد نحو ست وثلاثين سنة.
وبعد وفاته خلفه ابنه أمنحوتب الرابع (إخناتون) من زوجته «تي»، وكان قد اشترك في الملك مع أبيه أمنحوتب الثالث عدة سنين قبل وفاته.