إخناتون وثورته الدينية (١٣٧٠–١٣٤٩ق.م)
كانت مصر في حاجة بعد وفاة أمنحوتب الثالث إلى ملك قوي الشكيمة مثل تحوتمس الثالث، يصد عنها هجوم الطامعين فيها ويقفهم عند حدهم، ويقمع الفتن التي يديرونها في بعض الأصقاع الآسيوية.
ولكنها وجدت من إخناتون (أمنحوتب الرابع) ملكًا مسالمًا، وفيلسوفًا هادئًا، منصرفًا إلى دعوة دينية.
حقًّا إن دعوته هي اقتراب من رسالة التوحيد.
فلقد فكَّر طويلًا في تبسيط العقيدة الدينية، ورأى من تعدد المعبودات ما يتنافى مع التبسيط الذي ينشده، كما رأى في استفحال سلطان كهنة المعابد وتدخُّلهم المستمر في شئون الدولة خطرًا على أداة الحكم، فناوأهم وناوءوه، ودعا إلى توحيد الآلهة، وجعل من القوة الكامنة في الشمس (آتون) رمزًا للإله الواحد.
كل هذا لا شبهة فيه، فدعوته وقتئذٍ كانت سليمة، وكان تفكيره تقدميًّا.
ولكن الواجب الأول على رئيس الدولة أن يعمل على حفظ كيانها؛ لأن المحافظة على كيان الوطن أول واجب مفروض عليه بل على كل مواطن، وهو واجب مقدم على الأبحاث الفلسفية والدينية.
أما «إخناتون» فقد صرف كل همه إلى الثورة الدينية في وقت كان فيه الوطن في خطر، ومن هنا كانت المآخذ على شخصيته وسياسته.
ففي عهده حرك الحيثيون الفتن في سورية واستولوا على مدنها الشمالية، وانتقضت مدن عديدة في فينيقية وفلسطين، وسرى الانحلال إلى أطراف الدولة، فلم يحرك «إخناتون» ساكنًا ومضى في تأملاته ودعوته الدينية.
وفي نحو السنة السادسة من حكمه أعلن دعوته، وجاهر بها على ملأ الناس، وخاصم من أجلها الكهنة ورجال الدين كافة.
كانت دعوته قريبة من التوحيد، ولكنها لم تصل إلى الكمال الذي وصلت إليه الرسالات السماوية.
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
فالقارئ لهذا الدعاء يرى في واضعه سعة الأفق وعمق التفكير، وإحاطته بالكثير من أسرار الكون بالنسبة للعصر الذي ظهر فيه إخناتون، أي في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
ولعلك تلحظ في حديثه عن رأفة الله بشعوبه، أنه ذكر سورية والنوبة قبل مصر في تعداد الشعوب، وهذا يدل على أن تأملاته الفلسفية قد طغَتْ على النظرة القومية الجديرة بملك مصر، بل بكل مواطن من أهلها.
(١) التوحيد عند قدماء المصريين
ويبدو من المحاضرة التي ألقاها علينا العلَّامة المؤرخ أحمد كمال باشا سنة ١٩٠٧م بنادي المدارس العليا، أن عقيدة التوحيد كانت معروفة لدى المصريين القدماء قبل إخناتون، وقبل عصر الأسرات الملكية، فقد قال في هذه المحاضرة تحت عنوان «التوحيد عند قدماء المصريين»:
«قال تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، هذه هي صيغة التوحيد عند المسلمين، وهي موافقة تقريبًا للصيغة التي كان يدين بها المصريون قبل عصر الأسرات الملكية، ويدلنا على ذلك رسوم هيروغليفية، وُجدت في أوراق البردي القديمة وترجمتها:
«الله وحده لا ثاني له، يودع الأرواح في الأشباح، أنت الخالق، تَخلق ولا تُخلق، خالق السموات والأرض.»
وتيمَّن باسم آتون فغيَّر اسمه، وسمَّى نفسه «إخناتون» أي سرور آتون، بعد أن كان اسمه أمنحوتب.
وناصرَه قلة من قومه، ولكن كهنة المعابد، كهنة آمون، حاربوه حربًا شعواء، وانضمت إليهم غالبية الشعب، فكان عهده عهد ثوران في الخواطر وتبلبل في الأفكار.
على أنه عُني بتقدم الفنون الرفيعة، فكان عهده ممهدًا للشأو الرفيع الذي بلغته في عهد صهره توت عنخ آمون.
وجاء تراجع الدولة وتفككها في عهده، وتغلغل الحيثيين في الولايات السورية، وسكوت إخناتون عنهم، وامتداد العصيان إلى فلسطين، فكانت هذه الأحداث مضعضعة لدعوته الدينية.
ولا غرابة في ذلك، فإن المصير السياسي للدول له الشأن الأول في النجاح أو الإخفاق الذي يُصيب الدعوات الدينية أو السياسية أو الاجتماعية فيها، فلا عجب أن أخفقت دعوة إخناتون؛ لأن كيان الدولة السياسي قد تصدَّع في عهده، ومات بعد أن حكم نحو تسعة عشر عامًا.
(٢) خلفاء إخناتون
ولم يُرزق منها بأولاد ذكور، وأنجبت له بنات.
(٢-١) سمنخ كارع
ولما تُوفِّي إخناتون خلفه على العرش صهره وأخوه «سمنخ كارع»، ولم يدم ملكه طويلًا.
(٢-٢) توت عنخ آمون
وبعد وفاته خلفه «توت عنخ آمون»، وهو صهر آخر لإخناتون، وقد حكم نحو عشر سنوات.
وتقدمت في عهده الفنون والهندسة والعمارة ومظاهر الثراء والحضارة الرفيعة، ومات في سن مبكر إذ لم يتجاوز العشرين من العمر.
وهو الذي اكتُشف مقبرته وكنوزه سنة ١٩٢٢م، ذلك الاكتشاف الذي دوَّى صداه في العالم، وجعل اسم توت عنخ آمون في الخالدين، وصار على تعاقب السنين حديث الناس في شتى أقطار المعمورة لما بدا على ذخائره من الروعة والعظمة، وتجلى فيها مبلغ ما وصلت إليه مصر القديمة من الحضارة والتقدم في الفنون الرفيعة، وفي أساليب المعيشة وقوة العقيدة.
(٢-٣) آي
انقطع نسل ملوك الأسرة الثامنة عشرة بوفاة توت عنخ آمون من غير عقب من الذكور.
واعتلى العرش بعده الكاهن «آي» فترة وجيزة؛ إذ كان موظفًا كبيرًا في القصر الملكي، وكان شيخًا كبيرًا طاعنًا في السن فأهَّلَتْه هذه الظروف مجتمعة إلى اعتلاء العرش.
(٢-٤) حور محب
ومرت فترة ضعف واضطراب بدأت من أواخر عهد إخناتون.
وكادت البلاد تقع في هاوية الانقسام الداخلي والانحلال، لولا أن قيَّض الله لها زعيمًا من عامة الشعب، أهَّلَتْه مواهبه وشخصيته لتسلُّم زمام الأمور وإنقاذ الوطن، وهو «حور محب» الذي كان من ضباط الجيش في عهد إخناتون، وقائد الجيش في عهد توت عنخ آمون.
ثم شغل المركز الذي شغله من قبل أمنمحات الأول، فلقد برز أيضًا من صفوف الشعب وأنقذ مصر من الفوضى والانحلال، وكلاهما كان عصاميًّا، وكلاهما أسس ملكًا عظيمًا.
و«حور محب» من إقليم المنيا، ولم يكن طامعًا ولا راغبًا في أن يؤسِّس أسرة ملكية ولا أن يكون هو ملكًا؛ ولذلك يُعد من الأسرة الثامنة عشرة، وإنما مهَّد الأسرة التاسعة عشرة التي كان لها في تاريخِ مصر القديمة شأنٌ كبير.
تولى حور محب الملك؛ لأن الظروف دفعته إلى ذلك دفعًا لإنقاذ البلاد من الهاوية التي تردت فيها، فقد دخل طيبة زعيمًا لمصر وقائدًا لجيشها، وتُوج فيها ملكًا عليها.
فعاد إلى مصر الاستقرار الداخلي.
ولم يكن مؤيدًا لدعوة إخناتون الدينية، ووقف في صف كهنة آمون، فأيدوه وناصروه.
ومع أنه نشأ نشأة عسكرية وكان قائدًا للجيش، فإنه قدَّم توحيد الجبهة الداخلية على خوض غمار الحرب.
على أنه حارب الحيثيين.
وعقد مع ملك «خيتا» معاهدة ضمنت له استقرار الأمور مؤقتًا على الحدود، وتفرَّغ للإصلاح الداخلي حتى تستعيد البلاد قوتَها وهيبتَها.
فنظَّم شئون الجيش، وسنَّ القوانين الصالحة لمحاربة الرشوة والفساد في دواوين الحكومة، وأصلح المحاكم ومنع الاختلاس والتهريب عند دفع الضرائب، وطاف في أنحاء البلاد باحثًا عن الأشخاص الأكفاء الذين يمكن أن يأتمنهم على شئون الحكم والعدل والقضاء بين المواطنين، وعاد الأمن وعادت الطمأنينة إلى البلاد، ومات بعد أن حكم ثلاثين عامًا.
كتب عنه الدكتور أحمد بدوي بعنوان «حور محب أبو الشعب وصديق الفلاح» ما يلي ضمن ما قال:
«كان يؤذيه ما رأى من حال الشعب، فالفلاح المسكين قد أُهمل حاله واشتد بؤسه بعد أن تجرع مرارة العيش قبل أيام «حور محب» فشرب منها بالكثير وبالصغير …، فارتاع من حال الشعب، وعزم على إصلاح شأنه وتأمين رزقه، وتوفير سعادته، فعمد إلى إصدار قانون ينظِّم حياة الأمة أملاه بنفسه على كُتَّابه.
ثم فرض على من يخالف القانون أشد أنواع العقاب وآلمها، يستوي في ذلك لديه كبراء الأمة ومن كان صغيرًا، فهو يحمي الفلاح من قسوة رجال الإدارة حين جمع الضريبة، وحماه من أداء الضريبة مرة أخرى إن هي فُقدت في طريقِها إلى دواوين الدولة، ونظم تحصيل الضرائب المفروضة على محاصيل الخضر المنزرعة في أرض التاج، وتحصيل الضرائب من أرزاق الأرض وغَلَّاتها جميعًا، كما حدد القانون شروط تعيين القضاة في محاكم الدولة، فاختارهم من أحسن الناس سيرة وأكرمهم خُلقًا، وأَجْرَئِهم قلبًا، وأطهرهم لسانًا، وأعفهم يدًا، وحرَّم على القضاة أن يُصادقوا أحدًا من الناس، أو يتهادوا مع الناس، أو تكون بينهم وبين الناس معاملات مالية. وهكذا كان حور محب رجل حزم وعزم، لا يلين في الحق، ولا تأخذه في تنفيذه لومة لائم، ردَّ على القوانين المصرية حرمتها وجلالها، فجنَّب البلاد شر الظلم، وطهَّرها من آثار العبث، وصفَّاها من شوائب الباطل، وليس أدل على حزم الرجل وصدق وفائِه لشعبه من تصريحه حين إصدار القانون إذ يقول: «إني قد وضعته لضمان رفاهية شعبي»، ثم يخاطب رجال حكومته آمرًا، فيقول: نفِّذوا أوامري في تطبيق مواد هذا القانون، فإني قد رأيت في هذه البلاد ظلمًا شديدًا، ومن ذلك يتضح لنا أن حور محب كان مصلحًا ومشرعًا وقيِّمًا على تنفيذ ما أصدر من قوانين حريصًا على تطبيقها بالعدل.