الدفاع عن كيان مصر في عهد خلفاء رمسيس الثاني
أخذ جيران مصر في أواخر عهد رمسيس الثاني يتطلَّعُون إلى انتقاصِها من أطرافها، وخاصةً حين تقدمت به السِّنُّ وضعفت لديه الرغبة في الحرب والهيجاء، على أنهم ظلُّوا ساكتين تهيُّبًا من سطوته وبطشه، فلما مات أخذوا يتحرَّشُون بمصر.
وفي الحق إن خلفاء رمسيس الثاني قد صمَدوا لهذا التحرُّش وما أعقبَه من هجوم، وقاموا بواجبهم في النضال عن كيان الوطن ودافعوا عنه بكلِّ ما أُوتوا من حَول وقوة.
(١) منفتاح
هو ابن رمسيس الثاني، ولم يكن صغير السن حين آل إليه المُلك، بل كان في نحو الستين من عمره.
(١-١) منفتاح يصد الغارات عن مصر
فانبرى لهم «منفتاح» وجرَّد عليهم جيشًا صدَّ هُجومهم، وكسَرهم في غرب الدلتا وأوقع بهم هزيمة كبيرة أسفرَتْ عن قتل عدة آلاف من المغيرين وأَسرِ أخرى منهم، فأمنتْ مصرُ شر الغزو الليبي.
أما من جهة الشرق؛ فلئن ظلَّت العلاقات وُدِّية وقتًا ما بين مصر و«الحيثيين»؛ تنفيذًا لمعاهدة الصداقة التي عُقدت بينهما سنة ١٢٨٠ق.م منذ نحو ست وأربعين سنة؛ فإن هذا الود لم يدُم طويلًا.
فقد تبين أن الحيثيين عاودتهم أطماعهم وعداواتهم القديمة، وساعدوا قرصان بحر الأرخبيل على شنِّ الغارة على مصر.
ولم يكتفوا بذلك، بل أوقدوا نار الفتنة في الأقاليم السورية الخاضعة لمصر، فهبت فيها وفي فلسطين اشتركت فيها قبائل بني إسرائيل.
فانبرى لهم منفتاح في السنة الثالثة من حُكمه وحاربهم وقَمَع هذه الفتنة، وأمَّن حدود مصر الشرقية.
فمنفتاح بالرغم من كِبَر سنِّه أظهر مَضاءً في العزيمة وقوة وصلابة في الكفاح، واستحق الإعجاب لصده الهجمات الأجنبية عن مصر من الشرق والغرب، وماتَ بعد أن حكَم نحو عشر سنوات.
(٢) سيتي الثاني
لم تقع في عهده أحداث تستحقُّ الذكر، ووقعت في البيت المالك انقسامات أودَتْ بالأسرة التاسعة عشرة.
(٣) الأسرة العشرون (١١٩٥–١٠٨٠ق.م)
(٣-١) رمسيس الثالث
اعتبر المؤرخ «مانيتون» رمسيس الثالث مؤسِّسًا للأسرة العشرين.
وقد عُني هذا الملك بإصلاح نظام الجيشِ؛ ليكون عدَّتَه في الدفاع عن البلاد.
وصدَّ غارةً لسُكَّان البحر المتوسط، ونازلهم بأسطوله على شواطئ فينيقية فأوقع بهم، وغرقت سقن كثيرة من سُفنهم، وأنقذ مصر من هذا الغزو الذي كان شبيهًا بغزو الهكسوس لولا أن سحقه رمسيس الثالث، فاستحقَّ الثناء العظيم على شجاعته في ردِّ العدوان الخارجي الغادر.
واستردت مصر بفضل هذا الدفاع نفوذَها في جُزءٍ من سورية وفي فلسطين.
وصدَّ هجومًا آخر لليبيين وحاربَهم وهزَمهم.
وحكم البلاد إحدى وثلاثين سنة.
ويُعتبر آخر الفراعنة العظام من المحاربين في تاريخ الأسرة العشرين.
وتبع رمسيس الثالث في الحكم تسعة من الملوك سُمُّوا باسم رمسيس، من رمسيس الرابع إلى الحادي عشر، ولكن ليس فيهم همة رمسيس الثاني ولا مَضاء عزيمته ولا نَباهة ذِكْره.
(٤) الأسرة الحادية والعشرون
وتبعتها الأسرة الحادية والعشرون، فحكمت نحو مائة وخمسين سنة، وكانت عاصمة البلاد في عهدها تانيس «صان الحجر».
ولم يقَعْ في عَهد هذه الأسرة حادث يستحقُّ الذكر، وخيَّم على البلاد جو من الخمول والتراجع والانتكاس.
(٥) الأسرة الثانية والعشرون (سنة ٩٥٠–٧٣٠ق.م)
وظلت البلادُ تعاني مَرارة الفوضى والانقسام، حتى قام زعيم يُدعى «شيشُنْق» وأسس الأسرة الثانية والعشرين.
وقيام هذه الأسرة راجعٌ إلى ضعف الأسرة الحادية والعشرين، وإلى وَفاةِ آخر ملوكها وانقراض ذريتهم.
(٥-١) شيشنق الأول Sheshonk
هو الذي زعم بعض المؤرخين أنه ليبي، وأنه أسس أسرة ليبية، وأن الليبيين حكَموا مصر في عهده وعهد خلفائه.
والصحيح أنه وإن كان أصله البعيد يرجع إلى ليبيا، لكن أسرته تمصَّرت منذ أن استوطنت مصر من عدة أجيالٍ مضَتْ، وسكنوا أهناسيا المدينة، وصاروا من المواطنين المصريين، وتقلَّدَ كثير منهم مناصب الدولة وأظهروا فيها إخلاصًا لوطنهم.
فلا يصح القول بأن هذه أسرة ليبية وأن الليبيين حكموا مصر، بل الصحيحُ أنها أسرة مصرية اندمجت في المواطنين فصارت منهم، شأنها في ذلك شأن بعض الأسرات المالكة التي تولت الحكم ولا تزال تتولاه في بعض البلاد الأوروبية، ويرجع أصلها البعيد أو القريب إلى سلالة أجنبية، ولم يقل أحد إن هذه البلاد يحكمها الأجانب أو أشباه الأجانب، فما يسري على أوروبا يسري على مصر.
كان تولي «شيشنق» العرش برضا الأهلين، ولم يجد أي معارضة منهم، وقد اتخذ تل بسطة (الزقازيق الحالية) عاصمة لملكه.
حقًّا إن كهنة آمون في طيبة لم يرتاحوا لجلوسه على العرش؛ خوفًا على سلطانهم وامتيازاتهم، ونقموا منه تعيينه أحد أبنائه في وظيفة الكاهن الأكبر لآمون، وغضبوا لذلك، ورحلوا إلى نباتا بالنوبة وأسسوا فيها أسرة حاكمة، ولكن هؤلاء الكهنة لم يكونوا في معارضتهم يمثلون الشعب.
اعتبر مانيتون شيشنق مؤسس الأسرة الثانية والعشرين التي حكمت نحو قرنين ونصف حكمًا حازمًا.
وكان حريصًا على وحدة مصر واستقلالها، عاملًا على رفعة شأنها، وقد أعاد إليها الأمن والنظام، وسعى جاهدًا في أن يسترجع لها عظمتها ومجدَها وهيبتَها في الخارج.
وقد زوَّج ابنه وولي عهده «أوسركون» بابنة آخر ملوك الأسرة الحادية والعشرين، وبذلك خلع عليه الدم الفرعوني.
وأخذ يبسط نفوذ مصر على فلسطين حتى جعل سيادة مصر فيها فعلية، بعد أن تراخت في عهد الأسرة الحادية والعشرين بل منذ وفاة رمسيس الثالث، واستولى على بعض المدن التي كان يحتلها اليهود.
وغزا فلسطين كلها تقريبًا، واستولى على أورشليم (بيت المقدس)، فجدد بذلك عهد فراعنة مصر الأقدمين.
وورد ذكره في التوراة باسم «شيشق» بالإصحاح الرابع عشر، بالآية الخامسة والعشرين.
ومات حوالي سنة ٩٢٠ق.م بعد أن حكم مصر ٢١ سنة.
وخلفه ابنه «أوسركون» الأول فاتبع سياسة أبيه.
وتلاه ملوك آخرون من أسرة شيشنق، إلى أن اضمحل شأنهم وتفككت الجبهة الداخلية في عهد أواخرهم.
وفي أواخر عهد هذه الأسرة ظهر الخطر الأشوري على مصر.
(٦) الأسرتان الثالثة والعشرون والرابعة والعشرون
ناصب كهنة آمون ملوك الأسرة الثانية والعشرين العداء، وأقاموا ملكًا بدلهم، فأسس الأسرة الثالثة والعشرين، وتنازع أمراء البلاد السلطة وضعف شأن الحكم.
(٦-١) قانون بوخوريس Bochoris
ولما تولى الحكم بوخوريس بن تفنخت مؤسس الأسرة الرابعة والعشرين لم يحكم سوى أربع سنوات وقد وضع قانونًا يُسمى «قانون بوخوريس» عام ٧٤٠ق.م. أدخل فيه كثيرًا من الإصلاحات والتعديلات على القانون القديم وأتى فيه بجديد، وأخرج قواعد القانون عن دائرتها الدينية وأضفى عليها طابعًا مدنيًّا.
ويُعتبر هذا القانون المرحلة الأخيرة التي وصل إليها تطور القانون المصري في عهد الفراعنة، وقد أشاد الإغريق بمكانة بوخوريس من هذه الناحية، واعتبروه أحد عظماء المشرِّعين في مصر القديمة.
ومن أهم اصطلاحات بوخوريس أنه نظَّم المعاملات على أساس حرية التعاقد، ولم يبقَ فيها أثر للشكلية القديمة.
وفي الأحوال الشخصية ساوى بين الرجل والمرأة ومنحها حقوقًا لم تتمتع بها المرأة اليونانية ولا الرومانية، وبقي الطلاق من حق الزوج، وأصبح للزوجة بحكم مبدأ حرية التعاقد أن تشترط أن يكون لها الحقُّ في فسخ عقد الزواج أو ما يدرأ عنها خطر الطلاق، كأن تحصل على إقرار من الزوج بمبلغ معيَّن يلتزم به كنفقة حين الطلاق، أو تتفق معه على شرط جزائي فيقوم الزوج بدفع مبلغ من المال إذا طلق زوجته.
(٧) الأسرة الخامسة والعشرون
(٧-١) بعنخي Biankhi
كانت البلاد في حاجة إلى منقذ يستخلصها من الفوضى والانقسامات، ويعيد إليها وحدتها.
لم يكن هذا المنقذ سوى الشاب «بعنخي» الذي أنفذ من «نباتا» على الشلَّال الرابع جيشَه؛ لاستخلاصها من الهاوية التي تردت فيها.
و«بعنخي» هذا هو الذي زعم بعض المؤرخين الأجانب أنه إثيوبي، وأنه أسس أسرة إثيوبية، وأن إثيوبيا حكمت البلاد في عهده وعهد أسرته.
والصحيح أنه من النوبة، والنوبة جزء لا يتجزأ من مصر، وكانت ثقافتها مصرية، وديانتها مصرية من عهد الفراعنة الأقدمين، هذا إلى أن أصل أسرته من كهنة «طيبة» الذين هاجروا إلى الجنوب.
وكانت «نباتا» حصنًا من حصون مصر الجنوبية في زمن «أمنحوتب الثاني»، وكان لكهنة آمون الكلمة النافذة فيها، وسبق أن أسَّسُوا بها أسرة حاكمة.
حارب بعنخي جيش الأمير «تفنخت» حاكم بلدة سايس (صا الحجر الحالية)، بمركز كفر الزيات الآن الذي ادَّعَى أنه الأحق بالملك، وذهب بنفسه إلى طيبة ليقود جيشه، وسار منها شمالًا حوالي سنة ٧٢١ق.م، واستولى على صعيد مصر، ودانت له مدنُه مدينةً تلو الأخرى.
وتابع السير حتى بلغ منف، فاستعصت عليه أولًا، ثم حاصرها حتى استسلمت.
وجاءه أمراء الدلتا واعترفوا به ملكًا على مصر، وسار منها شمالًا حتى بلغ أثريب (بنها)، فجاءه بقية الأمراء واعترفوا له بالملك.
وإذ رأى الأمير تفنخت الذي كان يطمع في الملك أن أمراء البلاد قد اعترفوا ببعنخي ملكًا استسلم له هو أيضًا، ودانت مصر كلها شمالها وجنوبها لبعنخي مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين.
وساس بعنخي البلاد سياسة حكيمة، وظل على العرش واحدًا وعشرين عامًا.
وفي عهده بدأ عصر النهضة والإصلاح الذي ينسبه بعض المؤرخين إلى «أبسماتيك» الأول، وهو في الواقع قد بدأ في عهد الأسرة الخامسة والعشرين أي من عمل بعنخي وخلفائه.
فقد نهضوا بالبلاد نهضة شاملة، وأعادوا لها بعض مجدها القديم.