الفصل الأول

الطريق نحو الاكتشاف

منهج العلم

تكوين الافتراضات

التفكير على النحو الذي يفكر به العالم أمر لا يتطلب منطقًا غاية في الدقة أو التعقيد أو خارقًا للعادة. إليك هذا المثال العادي:

منذ بضعة أشهر اشتريت جروًا اسمه دومينو. وخلال تلك الأشهر تعرفت عليه جيدًا. وراقبت سلوكه في الأحوال الجوية المختلفة. إن دومينو يفضل البقاء خارج المنزل معظم الوقت. ولكنك لاحظت أنه قبل هبوب عاصفة بوقت قصير يبدأ في النباح ويريد دخول المنزل. والآن أصبح رد فعلك على هذا النوع من النباح أن تغلق النوافذ أولًا ثم تُدخل كلبك إلى المنزل. ها قد نجح الكلب في تدريبك! ذات يوم، بدأ الكلب ينبح. فافترضت هبوب عاصفة وأغلقت النوافذ، ولكن عندما خرجت من المنزل لفك رباطه فوجئت بأن السماء صافية والرياح معتدلة إلى حد كبير. ولكنك لاحظت أن هناك كلبًا ضخمًا يتسلل الآن مبتعدًا عند ظهورك في المكان. من الآن فصاعدًا ستدرك أن نباح دومينو «قبل العاصفة» بمنزلة جهاز إنذار يتنبأ في أغلب الأحوال بهبوب عاصفة وأحيانًا يومئ بدفاعه عن منطقة نفوذه.

تتشابه طريقتك في فهم تصرفات دومينو مع تلك التي يستخدمها العلماء. ففي بادئ الأمر قمت «بالملاحظة»، وأدركت بحاسة ما (بالنظر أو بالسمع أو بالإحساس أو بالتذوق أو بالشم) نمط سير الأحداث: نباح الكلب دومينو بطريقة معينة في أوقات محددة.

وبعد ذلك قمت بتشكيل «فرضية» متوصلًا إلى تنبؤ عام حول الطبيعة الأساسية للظاهرة التي لوحظت: عندما يبدأ دومينو في نباحه على هذا النحو، تهب العاصفة.

ثم أصبح لك «تنبؤ» إذ تطبق فرضيتك على موقف سيحدث في زمن لاحق: فإذا نبح دومينو بالطريقة التي ينبح بها قبل هبوب العاصفة، إذن فالسماء توشك أن تمطر.

وأخيرًا فإنك قد أجريت تجربة — أو اختبارًا لما سبق أن تنبأت بوقوعه — وذلك بتوقعك الحدوث الفعلي للظاهرة المتنبأ بحدوثها لكي تحدد ما إذا كان التنبؤ صحيحًا أم خاطئًا. ولأن التجربة أسفرت عن نتائج (عدم نزول المطر بعد سماع النباح) وهو ما يختلف عن التنبؤ، فلا بد من مراجعة أو تعديل الفرضية لتوضيح نتائج التجربة، ثم تعيد الخطوات مستخدمًا الفرضية المعدلة (انظر الشكل ١-١).
fig3
شكل ١-١: الطريقة العلمية.

وضع النظريات والقوانين

بمجرد تعديل الفرضية — ينبح دومينو عندما يشعر بالخوف من شيء ما — يمكن وضع تنبؤات جديدة وإجراء تجارب جديدة لاختبار هذه التنبؤات. تكتسب الفرضية المصداقية والثقة في كل مرة تؤيد التجربة فيها التنبؤات. وبعد إجراء عدة اختبارات يتبين فيها صحة الفرضية يمكن أن نطلق عليها حينئذٍ اسم «نظرية» («نظرية دومينو» في هذه الحالة). دائمًا ما تشرح النظريات قانونًا ما، وهو عبارة عن توضيح لبعض صور استدامة حدوث الأشياء في ظل نفس الظروف في الطبيعة. ويمكن أن تفترض النظريات السبب أو الأسباب الكامنة خلف استدامة القانون، مثلما يُفسر قانون عن تكرار نباح الكلب دومينو وتكرار سقوط الأمطار، عن طريق نظرية تقول بأن الكلب ينبح لشعوره بالخوف.

وبالطبع، في يوم ما قد يصدر هذا النوع من النباح نتيجة إصابة دومينو بخدش من شظية بارزة في بيته الخشبي! وعندئذٍ لا بد من إجراء تعديلات طفيفة للفرضية لكي تتناسب مع الاكتشاف الجديد. إذن ما النتائج التي يمكن استخلاصها من فرضية الكلب دومينو؟

يبدو الأمر كما لو أنك …

تراقب ما يحدث طوال الوقت. وتلاحظ على وجه خاص بعضًا من الأمور التي تراقبها لأنها تبدو متلازمة بعضها مع بعض بطريقة أو بأخرى. وهذا النموذج أو التفسير أو العلاقة الواضحة هي الفرضية التي تدور حول الظاهرة محل الدراسة. إن الفرضية ليست مؤكدة بطبيعتها: فيبدو الأمر كما لو أنه كلما نبح دومينو بهذه الطريقة، تهب العاصفة.

أراهن أنه …

بينما تبدو الفرضية مقبولة في وقتها إلا أنها لا بد أن تخضع للاختبار عن طريق وضع تنبؤ يتعلق بحدث مستقبلي. والتنبؤ هو نوع من الرهان على أن الحدث المستقبلي سيتطابق مع الفرضية: أراهن أنه عندما ينبح دومينو في المرة القادمة بهذه الطريقة، فسرعان ما ستمطر السماء. وإذا فزت بالرهان فإن الجائزة تكون زيادة مصداقية الفرضية. وإذا خسرت الرهان فإنك تنال جائزة أيضًا، إذ تكون قد ازددت تبصرًا بآلية عمل الكون.

عندما تتنبأ وتختبر صحة تنبؤك فهذا يعني المجازفة وخصوصًا أن الفرضية يمكن أن يثبت خطؤها. ومع ذلك فإن لم تضع التنبؤات وتختبرها، فأنت حينئذٍ ستجازف بأن تؤمن بأفكار خاطئة. إذن فالمجازفة لا بد منها لتطور العلم، والتنبؤ هو المجازفة التي تحافظ على استمرارية تطور العلم.

من المهم تذكُّر أن التنبؤات التي تظهر صحتها لا تُثبت (بل لا تستطيع إثبات) صحة الفرضية. تقدِّم هذه التنبؤات فحسب تأييدًا إضافيًّا للاعتقاد في صحة الفرضية. تذكَّر مثال الشظية التي خدشت دومينو فأدت إلى نباحه.

يُعْرَف هذا التسلسل العام للأحداث — كما هو موضح بالشكل (١-١) — بالطريقة العلمية أو المنهج العلمي.

هل يوجد منهج بالفعل؟

يرى البعض أنه لا يوجد منهج واحد منفرد للعلم، ويقولون بأن مثل هذه المناقشات تجعل الأمر يبدو كما لو كان المرء يمكنه بسهولة تطبيق هذه الخطوات بالترتيب للتوصل إلى اكتشافات وحل أي مشكلة علمية. ومما لا شك فيه أن العمل الذي يقوم به العلماء في الواقع لا يُتمسَّك كثيرًا بمثل هذه الشكليات. فلا يُنجز دائمًا بطريقة منظمة ومنطقية واضحة. وهو عمل يتضمن إبداعًا فكريًّا وخلق صور عقلية لما لم يوجد من قبل قط وكذلك استنباط واختبار المشاعر الحدسية التي تؤكد صحة فكرةٍ ما دون أي دليل يثبتها.

ولهذا فمن فضلك لا تتصور أن المنهج العلمي عبارة عن نوع من الإجراءات الآلية. بالرغم من أن أنصار الذكاء الاصطناعي يأملون في اختراع آلة يمكن أن تبرمج اختيار الملاحظات المناسبة أو الفعل التخيلي المتضمن في تكوين الفرضية، بينما يقول آخرون إن ثمة شيئًا ما في نشاط المخ يتجاوز ذلك الموجود في أية آلة.

يرى البعض أن العلم لا ينطلق من الملاحظات أو «الحقائق»، إنما من المشكلات. صحيح أن العالِم قد لا يلاحظ حقيقةً ما إلا إذا كان يفكر بشأن مسألة بعينها. لكن على الجانب الآخر، فإن ملاحظةً أو حقيقة واحدة قد تكون غير مألوفة إلى درجة تجعلها تجبر العين ألا تخطئها، وبهذا «تنشأ» المشكلة. وبالإضافة إلى ذلك فإن ما يُلاحظ لا يعتمد فحسب على ما سوف يُرى وإنما أيضًا على ما رآه الملاحظ من قبل.

وبالرغم من أن هذه الآراء فيها شيء من الوجاهة، فإن المنهج العلمي سيُستخدم طوال هذا الكتاب ليصف التقدم العلمي وصفًا دقيقًا وعلى نحو منطقي. إنه لمن النادر — إن لم يكن مستحيلًا — التوصل إلى الاكتشافات العلمية — بالرغم من ضخامة عدد تلك الاكتشافات — بتطبيق مجموعة من القواعد المنطقية على حقائق معروفة، ودائمًا يصبح من الممكن «بعد» التوصل إلى الاكتشاف ربط الأمور بعضها ببعض لرسم الطريق المنطقي الذي قاد إلى الاكتشاف.

ولنضرب لك هذا المثال: يقول الدكتور روبن كوك — مؤلف رواية «الغيبوبة» الرائجة: إن استخدام المنهج العلمي قد قاده إلى تحقيق النجاح لأول كتبه وأفلامه. يقول كوك: «خططت للأمر برمته سواء فيما يخص نُسخ الكتاب ذات الأغلفة المجلدة أو النسخ ذات الأغلفة الورقية أو الفيلم.» فهو قد قرر أن يؤلف كتابًا يحظى بقدر الإمكان باستحسان أوسع قاعدة من القراء. قام «بملاحظة» قائمة الكتب الأكثر مبيعًا التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز خلال عشر سنوات، ثم درسها، ثم قرر في النهاية أن الكتب التي تحتوي على الإثارة والغموض يبدو أنها تحقق أفضل مبيعات. بدأ بعد ذلك في قراءة الكتب التي بلغ عددها مائتي كتاب. فحص الدكتور كوك وحلل ودوَّن العديد من الملاحظات ثم توصل في النهاية إلى «فرضية» بشأن المقومات الأساسية لكتاب يكون من بين أعلى الكتب مبيعًا. طبق كوك معادلته على نحو منهجي حيث «تنبأ» أن المقومات الأساسية التي نسج بها روايته «الغيبوبة» ستسفر عن كتاب يكون من بين أفضل الكتب مبيعًا. أما عن نتيجة تجربته فقد كانت نجاحًا قُدرت قيمته بعدة ملايين من الدولارات.

النماذج والصناديق السوداء

يمكن أن تأخذ الفرضية شكل «النموذج» الذي يعتبر بمنزلة التصوير أو التمثيل لحقيقة ما، إذ يُخترع النموذج لتفسير ظاهرة ملاحظة. على سبيل المثال، تعد نماذج الطائرات ونماذج السكك الحديدية ونماذج السيارات ونماذج القوارب أمثلة لنماذج مادية تتشابه مع مثيلاتها في العالم الواقعي وإن كانت تختلف عنها في الحجم والمادة والتعقيد وما إلى ذلك. ويُلاحَظ أن النماذج المادية تتباين في الدرجة التي تحاكي فيها أشكالها الحقيقية. فعلى سبيل المثال يمكن تمثيل زورق طوربيد بحبة من حبات الفول السوداني تطفو في قناة مائية أو بنموذج مصغر يُتحكَم فيه لاسلكيًّا.

وفي غالب الأمر، تُبتكر النماذج للأشياء التي لا يمكن ملاحظة محتوياتها. علي سبيل المثال لمعرفة ما إذا كانت امرأة حامل ستضع طفلًا واحدًا أم توءمًا. كان المرء — قبل اختراع الأشعة بالموجات فوق الصوتية — يتنصت ويسمع ضربتين منفصلتين من ضربات القلب، ثم يتصور نموذجًا أو صورة لما في داخل رحم الأم. وقد تعرض أحد مؤلفي هذا الكتاب لمثل هذا الموقف عندما كان الأطباء والممرضات يتراهنون فيما بينهم — حتى اللحظة الأخيرة — على ما إذا كان سينجب طفلًا واحدًا أم أكثر من طفل. وقد أنجب طفلًا ذكرًا واحدًا.

يقال على الشيء الذي لا تراه العين إنه موجود «داخل صندوق أسود». فهدايا أعياد الميلاد نماذج رائعة للصناديق السوداء. فقبل فتحها تُهز، ويُضغط عليها، وتُوزن لمعرفة مدى ثقلها وذلك كله من أجل المساعدة في صياغة فرضية بشأن محتويات الهدية. «تبدو وكأنها كرة بيسبول؛ فهي تدور مثلها، ولها نفس الوزن … كلا، إنها كرة من الجبن!»

المعلمة والقزم

نضرب الآن مثالًا آخر لفرضيات مختلفة عن محتويات صندوق أسود. يتعامل معظم الناس مع تلك الآلة الشيطانية المعروفة باسم الماكينات الأوتوماتيكية لبيع القهوة. ويرجع استخدام الناس ألفاظًا وتعبيرات بذيئة عندما يتحدثون عنها إلى أن هذه الأشياء اللعينة لا تنفذ الأوامر كما تُعْطى لها. فمثلًا تضع داخل الآلة ثلاثة أرباع دولار لتحصل على كوب من القهوة قيمته خمسة وستون سنتًا. في بعض الأحيان يمر كل شيء على ما يرام فتضع ثلاثة أرباع دولار داخل الآلة ثم تسمع أصواتًا تحرك التروس وتُخرج لك الآلة باقي نقودك في نفس الوقت الذي يخرج فيه الكوب، وتسمع صوت تدفق القهوة كما تفضل أن تتناولها، بنفس كمية الحليب والسكر دون زيادة أو نقصان، وتملأ الكوب إلى حافته. أما في الأحيان الأخرى فيبدو وكأن الآلة لها آراؤها وقراراتها الخاصة، فتجدها قد أخذت نقودك ولا يحدث شيء بعد ذلك، أو قد تُخرج لك الحساء بدلًا من القهوة أو تُرجع لك عشرين سنتًا بدلًا من عشرة سنتات (وهذا نادرًا ما يحدث).

figure

إن الفرضية المقبولة بوجه عام فيما يتعلق بطبيعة ماكينات بيع القهوة هي: يوجد بالماكينة مجموعة من التروس والأنابيب والأدوات، موضوعة بطريقة ما تسمح للعملات المعدنية بتنشيط عملية يخرج بموجبها الكوب من الماكينة ثم يمتلئ. ولن تستطيع وضع فرضية بشأن محتويات الماكينة إذا لم تفتحها، ولذلك فهي تعتبر — بهذا المعنى — صندوقًا أسود.

لنتأمل المحاولة الأكاديمية التالية لحل هذا اللغز:

المعلمة : النموذج الذي أفترضه للماكينة الآلية لبيع القهوة التي وصفتها الآن هو أن هناك قزمًا يعيش داخلها. والعملات المعدنية تنشطه بطريقة ما. وتذكر أن هذه الآلة صندوق أسود، من ثم لا يمكنك النظر بداخلها.
الطالب : حسنًا، ولكن هذا هراء. لن يقبل أحد هذه الفرضية. فلو أن هناك قزمًا بداخلها فسيشعر بالجوع بعد حين.
المعلمة : حسنًا، عندما يتضور من الجوع، لا يكون أداؤه على نفس المستوى المطلوب كما لاحظت. ولكن الشركة نظرت إلى هذه النقطة بعين الاعتبار وتأكدت من تزويده بذلك الطعام الذي يتناول مثيله رواد الفضاء وبالكمية الكافية من القهوة التي يمكن أن يشربها.
الطالب : سوف أفصل مقبس الكهرباء وأرى ما إذا كانت الآلة ستواصل عملها أم لا. يجب أن يستطيع القزم الموجود داخل الآلة تشغيلها بنفسه.
المعلمة : دون وجود ضوء الكهرباء، سيكون الظلام دامسًا بداخل الآلة، وهكذا من دون الكهرباء لن يكون هناك قهوة. ولكن ستبقى فرضيتي صحيحة.
الطالب : ما سأقوله سيبدو غريبًا، ولكن تذكري أنكِ من بدأ هذه المناقشة. سوف أحقن الغاز المسيل للدموع في فتحة إدخال العملات المعدنية. سيسعل القزم عندئذٍ.
المعلمة : إن القزم مزود بقناع واقٍ من الغازات المسيلة للدموع.
الطالب : سأقوم بعزف موسيقى نشاز تجعله يصرخ طالبًا النجدة.
المعلمة : إنه أصم.

ويمكن الاستمرار أكثر وأكثر في نقاش كهذا. هل يمكنك إقناع المعلمة بتغيير فرضيتها؟ هيا فلتحاول. لاحظ أن المعلمة اضطرت إلى إجراء عدد من التعديلات على فرضيتها الأصلية. وستلاحظ إدخال مثل هذه التحسينات على الفرضية مرة تلو الأخرى خلال مناقشة أي من الأفكار المهمة.

وعند هذا الحد، لن يكون لديك دليل تجريبي حاسم بوسعه مساعدتك في تحديد ما إذا كان النموذج الميكانيكي المحض أكثر ملاءمة أم النموذج الميكانيكي الذي يديره القزم الأصم الذي يتناول طعام رواد الفضاء والمزود بقناع ضد الغازات المسيلة للدموع.

نصل أوكام

تختبر الفرضية اختبارًا إضافيًّا — في حالات مثل حالة آلة القهوة الأوتوماتيكية — للتبسيط، يعرف باسم نصل أوكام نسبة إلى الفيلسوف الإنجليزي وليام الأوكامي، إذ ينص هذا الاختبار على أن «الفرضية المقبولة لا بد أن تكون أبسط فرضية تفسر أية ظاهرة محل الدراسة.» ومع ذلك يمكن تبرير وجود التعقيد ولكن هذا لا يجب أن يحدث إلا بالدليل التجريبي المناسب. وإذا طبقنا هذا الاختبار على آلة القهوة، فسنجد أن القزم الأصم الذي يتناول طعام رواد الفضاء والمزود بقناع ضد الغاز المسيل للدموع افتراضٌ في غاية التعقيد.

وإدراكًا لأوجه القصور في منهج العلم والميل إلى التبسيط الذي تعبر عنه نصل أوكام، ربما يجوز للمرء أن يتوقع أن تكون الأبحاث العلمية هشة وغير أكيدة وربما تكون مفرطة في التبسيط. حقًّا، إن الوصول إلى فهم كامل لطريقة عمل الكون بأكمله يظل هو الهدف الذي يصعب على العلم تحقيقه. ولكن الفهم الجزئي الذي تحقق حتى الآن قد شجع التطور التكنولوجي الذي أدى بدوره إلى تغيير شامل وجذري للثقافة على كوكب الأرض، وأعاد تشكيل سطحها في مئات الأعوام الماضية.

مجالات العلم

ستختبر في هذا الكتاب ما يعد أكثر الفرضيات أهمية في العلوم. وقبل التوغل في هذا الأمر، يجب عليك اكتساب المقدرة على وزن الأمور بدقة فيما يتعلق بمختلف المجالات العلمية من خلال دراسة مجموعة من الأجسام التي درسها العلماء.

figure

إن العالَم المألوف بالنسبة إليك هو العالم الذي تدركه بحواسك، أي هو العالم الذي يكون بوسعك فيه أن تسمعه وتشمه وتتذوقه وتراه وتشعر به. ولتقوية وزيادة قدرات حواسك يمكنك الاستعانة بأدوات مختلفة تساعدك على إجراء الملاحظات على أجزاء من هذا العالم. على سبيل المثال، جعلت الميكروسكوبات الضوئية رؤية الأجسام المتناهية الصغر أمرًا ممكنًا. على أنه يوجد حد لحجم الجسم الذي يمكنك رؤيته بواسطتها. أما الميكروسكوبات الإلكترونية فقد ساعدت على رؤية أجسام ذات حجم أكثر تناهيًا في الصغر إلا أنها لا تستخدم ضوءًا مرئيًّا ولهذا فإنك لا «ترى» تلك الأجسام بالمعنى الحقيقي لكلمة رؤية. يوجد عالَم الأجسام المتناهية في الدقة فيما وراء هذه الحدود، ونقصد بهذه الأجسام الذرات الفردية والجسيمات دون الذرية. وإذا كان من غير الممكن رؤية هذه الأجسام، فربما تتساءل: (١) كيف يمكن للمرء أن يعلم بوجود تلك الأجسام؟ و(٢) كيف يمكن للمرء معرفة أي شيء حول طبيعتها؟ وكيف يؤمن الناس بوجود أشياء يستحيل عليهم رؤيتها؟

وبالرغم من هذا فهم يؤمنون بوجود هذه الأشياء التي لن تُرى على الإطلاق يومًا ما. يتماثل هذا الإيمان مع الإيمان بآلية العمل الداخلية للماكينة الأوتوماتيكية لبيع القهوة أو بهدية عيد ميلاد لم تُفتح بعد. تُعتبر الذرة نموذجًا للصندوق الأسود الذي يمكن وصف محتواه الداخلي بمساعدة بعض الملاحظات المناسبة والمبتكرة، كما سيتضح بعد قليل في هذا الكتاب.

وعلى الجانب الآخر من مقياس الحجم توجد الأشياء الهائلة الضخامة، إلى حد أن المرء يعجز عن فهمها بسهولة، إذ لا يمكن إدراكها إدراكًا مباشرًا. إنها أشياء في غاية الضخامة أو البعد عنا مما يحد بشدة من إمكانية ملاحظتها أو إجراء التجارب عليها. فهذا الكون الشاسع توجد به كواكبُ ومجموعاتٌ شمسية، ونجوم، وثقوب سوداء، ومجرات أخرى. وإذا لم يكن بوسع المرء أن يقترب منها بالقدر الذي يمكِّنه من إجراء الملاحظات المفصلة أو التجارب المطلوبة، فكيف سيتمكن من صياغة فرضيات مقبولة؟ بالكثير من الشك!

fig6

يعتمد الإيمان بوجود نماذج محددة للنظام الشمسي والنجوم والمجرات بل والكون نفسه على الملحوظات التي أجريت باستخدام تلسكوبات قوية وأدوات أخرى تزيد من قدرات البشر — عن طريق إرسال مجسات فضائية — وباستخدام طرق أخرى. ثم صيغت بعد ذلك الفرضيات التي تتلاءم مع ما لوحظ. وقد تتلاءم أكثر من فرضية مع الملحوظات. وفي ظل توافر المزيد من المعلومات يمكن اختيار فرضية بعينها أو صياغة فرضية جديدة.

ولهذا فعلى الرغم من أن هناك كونًا واحدًا فقط يمكن دراسته (هل يمكن أن يكون هناك أكثر من كون؟) فيمكن اكتشافه ابتداءً بدراسة عالم الذرات المتناهي في الصغر وانتهاءً بالكون نفسه بجنباته الفسيحة.

لكي تكتسب المقدرة على وزن الأمور بدقة فيما يتعلق بالمجالات التي تدرس الأفكار الخمس الكبرى، يجب عليك ملاحظة الآتي:
  • يهتم علم الفلك على نحو أساسي بدراسة الكون بأكمله.

  • يبحث علم الفيزياء كل شيء بدءًا بعالم الجزيئات دون الذرية وحتى الدور الذي تقوم به النجوم والمجرات.

  • يبحث علم الكيمياء الذرات وتفاعلاتها وإن كانت هذه التفاعلات توجد في جميع أرجاء الكون.

  • يستمد علم الجيولوجيا اكتشافات من فروع العلوم أخرى، ربما على نحو يفوق غيره من العلوم، ويستخدم الإدراك المباشر للحواس بالإضافة إلى الفحص الدقيق لما يتجاوز قدرات حواس البشر.

  • يدرس علم الأحياء الحياة أينما وجدت سواء على كوكب الأرض أو في غيره من الأماكن في الكون (حال وجدت).

مجلدات الأفكار

(١) الافتراضات الفلسفية المسبقة للعلم

(٢) الاكتشاف بطريق الصدفة وتطور العلم

(٣) تفعيل نظرية نصل أوكام: المسافرون عبر الزمن القادمون من الماضي

(٤) الأشياء الكبيرة والصغيرة

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥