الفصل الثاني

الفكرة المهمة الأولى

النموذج الفيزيائي للذرة: رؤية ما لا يُرى

«الكون مليء بالأشياء الساحرة التي تنتظر في صبر أن تزيد حدةُ ذكائنا حتى نكتشفها.»

إيدين فيلبوتس

ستبدأ دراسة العلم في رحاب عالم الأشياء المتناهية الصغر. لنفترض أنك كنت تطهو وجبة شهية (خليط من اللحم أو السمك مع الخضروات) ويجب أن تضيف قطعًا من الجزر طبقًا لوصفة الطهي. ربما تتحمس وتستمر في التقطيع إلى أجزاء صغيرة جدًّا حتى تصل إلى الحجم الذي لا يستطيع معه السكين أن يقطعه أكثر من ذلك. وعندئذٍ يتبادر سؤال إلى ذهنك وهو: هل هناك حد لعملية التقطيع أم يمكن أن تستمر — ولو نظريًّا — إلى ما لا نهاية؟ إنه ليس بالسؤال الجديد.

أرسطو في مواجهة ديموقريطس

استنتج الفيلسوف اليوناني أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) طبيعة الأشياء من خلال مجموعة من المبادئ التي بدت له «بديهية» ولا تحتاج إلى دليل لإثباتها. افترض أن المادة متصلة، أي يمكن أن تنقسم إلى جزيئات أصغر منها إلى ما لا نهاية ودون أي حدود. كان موقفه الأساسي هو أنه لا توجد بنية أولية هي أساس المادة.

fig7
شكل ٢-١: نموذج ديموقريطس للذرة.

ونأتي الآن إلى فيلسوف يوناني آخر، وهو ديموقريطس (٤٦٠–٣٧٠ق.م. تقريبًا) الذي يقال إنه فكر كالآتي: بينما كان يسير على الشاطئ تساءل عما إذا كانت مياه البحر متصلة أم متجزئة. فهو يدرك أن الرمال تبدو متصلة إذا نظرنا إليها من مسافة بعيدة ولكن كلما اقتربنا يتضح لنا أنها ليست إلا «حبيبات» صغيرة جدًّا. وبالمثل، تخيل ديموقريطس أن ماء البحر يمكن أن يتجزأ إلى قطرات مياه أصغر فأصغر، وفي النهاية إلى «حبيبات» مياه. ولهذا آمن بوجهة النظر القائلة بأن المادة متجزئة وليست متصلة، وأن هناك حدًّا لا يمكن أن تنقسم بعده المادة لأكثر من ذلك.

من ثم يوجد — طبقًا لديموقريطس — بنية أولية مكونة للمادة. وأطلق على أصغر وحدة للمادة اسم Atom «ذرة» (مشتقة من اللفظ اليوناني A tomos أي «لا يمكن تقطيعه») وهي وحدة أساسية شعر بأنها غير قابلة للانقسام (لا يمكن تفتيتها إلى جزيئات أصغر). لم يفترض ديموقريطس وجود الذرات فحسب، بل افترض كذلك أشكال تلك الذرات. تخيل ديموقريطس أن ذرات الماء قد تكون كرات دائرية في حين قد يكون لذرات النار حواف حادة. كان الشكل الكروي المبين في الشكل (٢-١) هو أبسط الأشكال الذرية التي عرضها ديموقريطس (وأكثرها تناسقًا) كما أنه هو النموذج الذي سنبدأ بدراسته.

تسوية النزاعات العلمية

fig8

على أي أساس يمكن حل الخلاف الدائر حول قضية اتصال وتجزؤ المادة؟ لم تكن التجارب في عصر أرسطو وديموقريطس تستخدم بأي طريقة منهجية للفصل بين الفرضيات البديلة. كانت الملاحظات تقود إلى صياغة الفرضيات إلا أن الأمر في الغالب كان يتوقف عند هذا الحد. وكانت تساور الفلاسفةَ اليونانيين الشكوكُ حيال التجارب العلمية أو كانوا غير مبالين بها بالمر. إذ كانوا يفضلون تطوير الأفكار عن طريق التفكير العقلي فحسب.

ونتيجة لهذا كان قَبول أية فرضية يعتمد على «موثوقية» الفيلسوف. فكانت الفرضية تلقى أكبر قدر من القبول عندما يتمتع صاحبها بمقدرة عظيمة على الإقناع. ولما كان أرسطو يحظى «بموثوقية» تفوق ما يحظى به ديموقريطس، فقد نُظر إلى فرضياته على أنها أفضل من فرضيات ديموقريطس.

وخلال الألفي عام التالية، استمر العلم يرزح تحت سيطرة أصحاب «الموثوقية» الذين لم يحدثوا سوى نذر يسير من التغييرات في منهج العلم إجمالًا. وفي نهاية المطاف، بدأت طريقة تفكير الناس تتحول شيئًا فشيئًا نحو المزيد من الاستقلالية، وأعيد النظر في أعمال أرسطو وديموقريطس. ثم ظهرت في القرن الخامس عشر والسادس عشر المؤسسات العلمية والمجتمعات المثقفة التي مهدت الطريق لحدوث تغيير جذري في الطريقة التي يُطَبَّق بها العلم. عبر فرانسيس بيكون وآخرون في كتاباتهم عن الأساس الفلسفي لهذه الثورة العلمية، وحثونا على عدم أخذ أي مبدأ على أنه شيء بديهي وأن يصبح الإخضاع للتجربة هو المحك الذي تُختبر به مصداقية الفرضية.

دالتون وكرات البلياردو

هذا المنهج القائم على الاختبار استخدمه جون دالتون الكيميائي الإنجليزي الذي استطاع عام ١٨٠٣ أن يقدم دليلًا مؤيدًا بالتجربة على صحة اعتقاد ديموقريطس في الذرات. لاحظ دالتون أن المواد، التي تعرف باسم «المركبات»، تتكون دائمًا من مادتين بسيطتين أو أكثر تعرف باسم العناصر؛ ودائمًا ما تحتوي على هذه العناصر بنفس التناسب في الكتلة، وتكوين هذه العناصر من حيث الكتلة ثابت. وتعرف هذه العلاقة باسم «قانون النسب الثابتة».

تذكر أن النظريات عادة ما تعطي تفسيرًا للقوانين. ولكي يقدم دالتون تفسيرًا لقانون النسب الثابتة، قام بإعادة إحياء مبدأ ديموقريطس إذ قال إن العناصر تتألف من جزيئات غاية في الصغر وغير قابلة للتفتيت أو الانقسام تعرف باسم الذرات. تخيل دالتون أن تلك الذرات تشبه صورة مصغرة من كرات البلياردو.

افترض دالتون بالإضافة إلى ذلك أن ذرة عنصر ما لها كتلتها الثابتة. وتمكن دالتون من خلال نظريته عن الذرات أن يقدم تفسيرًا للعلاقة بين كتل العناصر في المُركب الواحد. استنتج دالتون أنه إذا كان المركب يتميز بأن العناصر المكونة له ذات نسبة كتلة ثابتة، وإذا كانت كل ذرة من ذرات العنصر الواحد لها نفس الكتلة، عندئذٍ لا بد أن تكون نسبة كتل مكونات المركب ثابتة على نحو دائم. (فإذا كان حجم كل وحدة متحدة في تكوين المركب متغيرًا، فهذا يعني أن نسبة الكتلة في المركبات ستكون هي الأخرى متغيرة، أي إنها لن تكون ثابتة).

استغرق الأمر نحو ألفي سنة قبل أن يقبل العلماء بوجود نموذج ذري للمادة. ولا يعني هذا أن نموذج دالتون هو النموذج الذي يتصوره العلماء اليوم؛ حيث إن الذرات على قدر من التعقيد أكبر بكثير من كرات البلياردو.

نموذج البودينج لطومسون

قدم عالم الفيزياء الإنجليزي جوزيف جون طومسون — الذي كان يعمل في مختبر كافينديش الشهير بجامعة كامبريدج — عام ١٨٩٨ الدليل على وجود بناء ذري أكثر تعقيدًا. قام طومسون بعدد من «الملاحظات» بعد استخدامه أنابيب تفريغ الغاز (وهي أنابيب زجاجية يُفرغ معظم الهواء بها وتحتوي على قطبين معدنيين في طرفيها). كان يحاول فهم طبيعة الشعاع المتوهج الغريب الذي ينبعث داخل الأنبوبة عند توصيل التيار الكهربائي. وقد أطلق على هذه الأشعة اسم «أشعة المهبط» لأن مصدرها هو القطب السالب في الأنبوب الذي يعرف بالمهبط.

لاحظ طومسون أن الأشعة تنجذب إلى السطح المعدني ذي الشحنة الموجبة وتتنافر مع السطح الآخر ذي الشحنة السالبة، ولذلك استنتج أن الأشعة تحمل شحنة سالبة. (فالشحنات المختلفة تتجاذب، والشحنات المتشابهة تتنافر). حسب طومسون كتلة هذه الجزيئات المتحركة سالبة الشحنة (التي تعرف الآن باسم الإلكترونات)، وتوصل إلى أنها أصغر نحو ألفي ضعف من حجم كتلة أخف ذرة معروفة، ألا وهي ذرة الهيدروجين. وهكذا تكون الإلكترونات من مكونات الذرة وليست ذرات مشحونة فحسب. ولأن الإلكترونات تنبعث من الأقطاب المعدنية المصنوعة من مجموعة من المواد على قدر كبير من التنوع، استنتج طومسون أن «كل» هذه المواد لا بد وأن تحتوي على إلكترونات.

استنتج طومسون وجود وحدات أصغر للمادة. وهو بهذا الاستنتاج يؤيد فكرة ديموقريطس القائلة بأن المادة غير متصلة، ويعارض وجهة نظر أرسطو القائلة بأن المادة متصلة. وطبقًا لنموذج أرسطو لا ينتج عن انقسام المادة سوى وحدات أصغر وأصغر من نفس المادة، ولكن هذا الانقسام لن ينتج عنه أبدًا جسيم بسيط كالإلكترون. كما استنتج طومسون كذلك أن الذرات ليست كما افترض ديموقريطس غير قابلة للانقسام. فالذرات يمكن أن تنقسم إلى جزيئات أصغر وبالتحديد إلى إلكترونات، فذرات الذهب تختلف عن ذرات الفضة ولكن كلاهما يحتوي على إلكترونات.

استنتج طومسون أنه إذا كانت المادة بوجه عام لا تحمل شحنات كهربائية مع أن الإلكترونات تحمل شحنة سالبة؛ فلا بد إذن من وجود مادة «موجبة الشحنة» في مكان ما داخل الذرة لكي تعادل شحنة الإلكترون السالبة. ولم يكن طومسون على علم بمكان هذه الشحنة الموجبة بالتحديد ولكنه قرر المحاولة، وقام بصياغة «فرضيته» التي عرفت فيما بعد باسم نموذج طومسون للذرة الشبيه بالبودنج: فالذرة في هذا النموذج كروية الشكل وتتكون من سحابة رقيقة من مادة موجبة الشحنة تتناثر بداخلها بعض الجسيمات السالبة الشحنة تعرف بالإلكترونات بحيث تشبه في تناثرها الزبيب المتناثر في حلوى البودنج، كما هو موضح بالشكل (٢-٢).
fig9
شكل ٢-٢: نموذجا طومسون وديموقريطس.

لاحظ أن نموذج طومسون للذرة أبقى على أحد سمات نموذج ديموقريطس وهي الشكل الكروي للذرة. وقد استمر مبدأ البساطة المعروف باسم نصل أوكام بسبب غياب أي دليل تجريبي يثبت العكس. وهكذا بقيت فكرة الشكل الكروي، وهو أكثر المجسمات الهندسية ثماثلًا.

رذرفورد ونموذج المجموعة الشمسية

من أجل اختبار نموذج طومسون للذرة الشبيه بالبودنج، كان لا بد من إجراء تقييم قائم على التجربة لبعض التنبؤات التي قامت على أساس النموذج. ولتحقيق هذا الهدف كان لا بد من توافر مسبار تجريبي يمكنه اختراق الذرة. ثم يمكن بعد ذلك التنبؤ بما يجب أن يحدثه المسبار من تأثير، ثم بعد ذلك يمكن إجراء التجربة لمعرفة ما سيحدث بالفعل. ولم يكن تحقيق ذلك بالأمر الهين؛ فالذرة صغيرة جدًّا بحيث يصعب وجود مسابير صغيرة تناسب هذه المهمة.

حُلت هذه المعضلة بواسطة اكتشاف آخر من اكتشافات ذلك العصر (تقريبًا عام ١٩٠٠) وهو اكتشاف النشاط الإشعاعي. تبين أن بعض المعادن تُطلق عدة أنواع من الأشعة من تلقاء نفسها، وأن إحدى هذه الأشعة المنطلقة من المواد المشعة تحمل شحنة موجبة. إذ إنها تتكون من مجموعة من الجزيئات الموجبة التي تعرف باسم «جسيمات ألفا». قرر خليفة طومسون في مختبرات كافينديش وهو اللورد «ايرنست رذرفورد» استخدام تلك «الطلقات» دون الذرية في محاولة اختراق ذرات الذهب الموجودة في صفيحة رقيقة من الذهب. وباستخدام نموذج البودنج الذي وضعه طومسون، تنبأ رذرفورد (نحو عام ١٩١١) بأن جسيمات ألفا — التي هي أثقل من الإلكترونات بمقدار ٧٤٠٠ ضعف — سوف تخترق دون أي انحراف رقاقة الذهب وفقًا لنموذج البودنج الذي قدمه طومسون، بحيث تتوزع الإلكترونات في رقاقة الذهب بالتساوي تقريبًا وتكون أقل تقاربًا فيما بينها، ثم تنير جسيمات ألفا شاشة (شبيهة بشاشة التلفاز) وضعت على الطرف الآخر من الجهاز الذي أجريت عليه التجربة. ثم قام هو ومعاونوه بإعداد الجهاز وإجراء التجربة.

كما هو متوقع اخترقت أغلب جزئيات ألفا الصفيحة، لكن عددًا فاق المتوقع من تلك الجزيئات انحرف وارتد بعضها؛ أي إن تلك الجزيئات انعكست. علق رذرفورد على ما حدث قائلًا:

«لقد كان هذا هو أغرب ما تعرضت له طيلة حياتي. فقد كان بمثابة إطلاق قذيفة من عيار ١٥ بوصة على ورقة رقيقة فلم تنفذ خلالها وإنما ارتدت إليك.». يوضح الشكل (٢-٣) تنبؤات رذرفورد وتجربته.
fig10
شكل ٢-٣: النتيجة المتنبأ بحدوثها والنتيجة الفعلية لتجربة رذرفورد.

لا تتسبب التجارب التي تسفر عن نتائج غير متوقعة في إفساد التخطيط العلمي لفترة طويلة. إذ يعاود العلماء صياغة الفرضية من جديد. وكما اهتم رذرفورد كثيرًا بمسألة تصحيح ما توصل إليه سلفه، كان مجبرًا على صياغة فرضية جديدة. ولكن تُرى أي النماذج يتوافق مع نتائج رذرفورد التجريبية؟

فسر رذرفورد النتائج التي توصل إليها من خلال نموذج المجموعة الشمسية للذرة. استمر وصف الذرة في هذا النموذج على أنها تأخذ الشكل الكروي. إذ اعتبر أن الذرة تتكون من نواة مركزية صغيرة نسبيًّا تحتوي على كل الشحنة الموجبة ومعظم الكتلة، في حين تتوزع الإلكترونات في معظم الحيز الذي تشغله الذرة وتدور حول النواة (مثلما تدور الكواكب حول الشمس). اعتقد رذرفورد أن الإلكترونات لا بد أن تدور بسرعة حول هذه النواة من الخارج؛ فإذا لم تكن هذه الإلكترونات تتحرك، فسيؤدي الجذب الكهربائي للنواة موجبة الشحنة للإلكترونات السالبة الشحنة إلى اقتراب الإلكترونات من النواه حتى تلتحم بها وهو ما سيؤدي إلى تدمير الذرة. ونظرًا إلى أن معظم الحيز في هذا النموذج تشغله الإلكترونات الضعيفة نسبيًّا، فإن معظم الجزيئات التي أطلقت على الذرات كان من المتوقع أن تمر بأكملها في مسار مستقيم بعيدًا عن النواة الصغيرة. أما تلك الجزيئات القليلة العدد والتي يتصادف أن تلمس النواة وهي في طريقها أو تصطدم بها فسوف تنحرف عن مسارها بزوايا كبيرة. يظهر الشكل (٢-٤) مقارنة بين نموذجي طومسون ورذرفورد.
fig11
شكل ٢-٤: مقارنة بين نموذجي طومسون ورذرفورد.

بور يرى الضوء

أيضًا لم يستمر نموذج المجموعة الشمسية لرذرفورد طويلًا، وذلك بسبب وجود «ملاحظة» لم يستطع أن يقدم تفسيرًا لها، ألا وهي الضوء الذي تشعه الذرات التي تثيرها عمليات التفريغ الكهربي أو التي تستمد طاقتها من مصادر أخرى. ومما لا شك فيه أنك تألف مثل هذه الأنواع من الإشعاع؛ فهو يستخدم في إضاءة لافتات النيون التي هي عبارة عن أنابيب زجاجية مليئة بغاز النيون. وعند سريان التيار الكهربائي، تتزود ذرات النيون بالطاقة ثم تعيد جزءًا من هذه الطاقة في صورة ضوء ذي لون مميز.

fig12

لم يقدم نموذج المجموعة الشمسية أية آلية تفسر انبعاث مثل هذا الضوء؛ ولذا تحتم إجراء تعديل لهذه الفرضية. وفي عام ١٩١٣، قام نيلز بور وهو أحد تلاميذ رذرفورد بصياغة فرضية بوسعها تفسير الإشعاع الضوئي. اعتقد بور أن الإلكترونات في الذرات مقيدة بالدوران في مدارات «محددة» حول النواة، بحيث يتناسب كل مدار من هذه المدارات المسموح للإلكترونات بالدوران فيها مع مستوى الطاقة الذي يدور فيه الإلكترون. وبالنسبة إلى ذرة الهيدروجين التي هي أبسط ذرة إذ تتكون من نواة وإلكترون واحد فقط، كانت «الفرضية» التي صاغها بور كالآتي: للإلكترون عدد من المدارات المحددة يسمح له بالوجود فيها ومستويات طاقة محددة مسموح له بالدوران فيها. وعندما تحصل الذرة على الطاقة من مصدر طاقة خارجي — مثل تيار كهربائي — فإنها لا تقبل سوى المقدار المضبوط من الطاقة الذي تحتاجه لإرسال إلكترون من أحد مداراته ذي الطاقة الأقل إلى مدار آخر ذي طاقة أعلى. يتوقف الإلكترون مؤقتًا في المدار ذي الطاقة الأعلى ويبدو كما لو أنه لا يريد أن يتركه، ثم يبدأ بعد ذلك في القفز إلى أسفل بين مستويات الطاقة الأقل حتى يصل في نهاية الأمر إلى أقل مستوى من مستويات الطاقة. والطاقة التي يفقدها الإلكترون وهو يقفز إلى أسفل تنطلق في شكل ضوء يعتمد لونه على فجوة الطاقة التي يمر بها الإلكترون.

وهكذا فإن الإلكترون في ذرة الهيدروجين يتصرف كما لو كان معرضًا لقيود تماثل تلك القيود التي تشعر بها عند استخدامك للمصعد. فعندما تستقل مصعدًا من الطابق الأرضي وتضغط على الزر يندفع بك إلى الطابق الذي حددته بالضغط على رقمه. ثم يهبط المصعد ثانية متوقفًا عند طوابق أخرى إذا ضُغط على زر آخر، ولكنه لا يتوقف أبدًا «بين الطوابق». وفي نهاية المطاف يعود المصعد من جديد إلى الطابق الأرضي. يوضح الشكل (٢-٥) نموذجَي رذرفورد وبور.
fig13
شكل ٢-٥: نموذجا رذرفورد وبور لذرة الهيدروجين.

تبدو هذه الفرضية غريبة بعض الشيء بما تعرضه من قيود بأن هناك بعض المدارات ومستويات الطاقة هي المسموح بها دون غيرها. قال بور نفسه: «اتفقنا جميعًا على أن النظرية غريبة. ولكن السؤال الذي اختلفنا فيه هو: هل هي غريبة إلى الحد الذي يجعل هناك مجالًا لأن تكون صحيحة؟» وبرغم غرابتها، فقد بدت الفرضية صحيحة على الأقل في حالة ذرة الهيدروجين. وقد أتاحت الأجزاء الرياضية لهذه الفرضية عمل «تنبؤات» فيما يخص ألوان الضوء المتوقع انبعاثه عندما تفقد الإلكترونات في ذرات الهيدروجين الطاقة وهي تقفز من كل مستوى طاقة أعلى إلى كل مستوى طاقة أقل. وعندما أجريت «التجارب»، شوهدت الألوان المتوقعة. وهكذا أثبتت فرضية بور صحتها في حالة ذرة الهيدروجين. ولكن ماذا عن كل الأنواع الأخرى من الذرات؟

ميكانيكا الكم تخفت الضوء

بُذِلَت المحاولات لتوسيع نطاق «فرضية» بور لتشمل ذرات أخرى بجانب ذرة الهيدروجين. ووُضعت التنبؤات حول ألوان الضوء المتوقعة وأُجريت التجارب المتعلقة بهذا الشأن. لكن للأسف، لم يُتوصل إلى الألوان المتوقعة.

وتحتم ثانية «إعادة صياغة» الفرضية العلمية. استبدلت في نهاية الأمر بفرضية بور فرضية أخرى أكثر تعقيدًا طورها عدد من الفيزيائيين على مر عدة عقود. وتعرف باسم «نموذج ميكانيكا الكم للذرة». يشير مصطلح «الكم» إلى أصغر كمية طاقة يسمح للإلكترون باكتسابها أو فقدها عند المستوى الذري. وتقدم ميكانيكا الكم وصفًا رياضيًّا لخصائص الإلكترون عندما يتحرك كموجة أو على شكل منحنى وليس كجسيم.

ألغت فرضية ميكانيكا الكم مبدأ المدارات المحددة في فرضية بور واستبدلتها بهيكل رياضي أكثر تعقيدًا يشتمل على الاحتمالات بدلًا من الأماكن المحددة للإلكترونات. يرى النموذج الميكانيكي الكمي أن الذرة تتكون من نواة مركزية تحتوي على كل من البروتونات (وهي الجسيمات موجبة الشحنة التي اكتشفت عام ١٩١٩) والنيوترونات (وهي الجزيئات متعادلة الشحنة التي اكتشفت عام ١٩٣٢) بالإضافة إلى الإلكترونات الموجودة بمكان ما خارج النواة ولها قدر محدد من الطاقة مسموح لها به ولكن ليس لها مدارات محددة تدور فيها حول النواة.

يعني عدم وجود المدارات المحددة أن موقع وسرعة الإلكترون لا يمكن تحديدهما. وهكذا فإن الإلكترونات يمكن وصفها فحسب على أساس وجود مناطق ذات احتمالية كبيرة في احتوائها على الإلكترونات. ومن أجل تبسيط تخيل صورة «المنطقة التي بداخلها يوجد احتمال كبير للعثور على شيء ما»، يمكنك تخيل أن الكلب دومينو الذي ينبئ نباحه بسقوط المطر مقيد بحبل طويل مربوط في وتد بمنتصف حديقة منزلك. ستجد الكلب دائم الحركة لأنه يشعر بالضيق عند تقييده. ولكي تعثر على الكلب ينبغي أن يكون لديك طريقة مناسبة لملاحظته. ويمكنك ملاحظته عن طريق استخدام كاميرا فوتوغرافية تصور لقطات له من مكان مناسب فوق سطح الحديقة. لنفترض أنك حصلت على نيجاتيف الأفلام مجمعة بعضها فوق بعض بدلًا من أن تحصل على النيجاتيف المنفصل لكل فيلم. وإذا عجزت عن فصل تلك الأفلام فستحصل على صورة مجمعة لترى مزيجًا من الأماكن التي وجد بها دومينو. كلما بقي بمكان محدد مدة أطول، زادت درجة ملاحظة صورته الكاملة في هذا الموقع وزاد معها احتمال وجوده في هذه المنطقة.

مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج

فُسر التخلص من فكرة المدارات المعروفة والمحددة للإلكترونات بأن هناك حدودًا لما يمكن ملاحظتها، وهي حدود لا تعتمد على منهج الملاحظة بل هي حدود متأصلة في طبيعة المادة نفسها. وطور هذه الفكرة عالم الفيزياء الألماني فيرنر هايزنبرج عام ١٩٢٧. ينص مبدأ «عدم اليقين» لهايزنبرج على أن هناك حدودًا للدقة التي يمكن بها معرفة بعض خصائص أي جسيم، وأنه ما من طريقة توجد لابتكار منهج لتحديد الموقع الدقيق للإلكترونات في الذرات دون التضحية ببعض الدقة فيما يخص تحديد سرعة تحرك تلك الإلكترونات.

fig14
وبالرغم من أن الجانب العشوائي الذي يستعصي فهمه لهذه النظرية يمكن أن يكون صعبًا من الناحية الفلسفية فإننا نجد أن العلماء تمسكوا بها إلى أن فشلوا في تدعيم تنبؤاتها بأدلة تجريبية. إن مقياس الحكم على النموذج الميكانيكي الكمي هو: «هل يجدي هذا النموذج نفعًا؟» والإجابة نعم؛ فألوان الضوء التي يتنبأ بها النموذج الميكانيكي الكمي تتحقق رؤيتها فعلًا بإجراء التجارب. يوضح الشكل (٢-٦) نموذجي بور وميكانيكا الكم.
fig15
شكل ٢-٦: نموذجا بور وميكانيكا الكم للذرة.

أنصتوا، أنصتوا، إنه الكوارك!

بداية من ثلاثينيات القرن العشرين، تسبب اكتشاف المزيد من الجسيمات دون الذرية في أن يصبح النموذج الذري لميكانيكا الكم أكثر تعقيدًا. ولم يمضِ وقت طويل حتى اكتشفت أعداد كبيرة من الجسيمات «الأولية» بحيث كان لكل جسيم منها جسيم مضاد.

وفي ستينيات القرن العشرين، طرح علماء في الفيزياء نظرية تنص على أن الكثير من هذه الجزيئات تتكون من «بذور أو وحدات أولية» أصغر تسمى الكواركات. ثم في أواخر عقد الستينيات، تأكدت صحة هذه النظرية بعد إجراء تجربة تتشابه مع تجربة رذرفورد التي تناثرت فيها جزيئات ألفا. وكما لم يكن رذرفورد «يبحث عن» النواة، لم يكن «البحث عن» الكواركات هو هدف أي من علماء الفيزياء هنري كيندال وجيروم فريدمان وريتشارد تيلور. أطلق هؤلاء العلماء الثلاثة الإلكترونات على البروتونات في ذرات الهيدروجين. ونظرًا إلى اعتقادهم بأن الشحنة الكهربائية موزعة بانسيابية داخل البروتون، تنبئوا بحدوث تناثر للإلكترونات بسهولة عن البروتونات موضع الهدف، كسهولة اختراق طلقة الرصاص لقطعة من الخبز. على أن نتائج التجربة كانت مفاجأة بجميع المقاييس حيث اكتشف تناثر الإلكترونات مرارًا على زوايا عريضة كما هو موضح بالشكل (٢-٧). كما لو كانت الإلكترونات تواجه ثلاث قطع صغيرة ولكنها في غاية الصلابة. وفي نهاية المطاف عرفت هذه القطع الصغيرة باسم الكواركات (عدد ٢ كوارك «علوي» وكوارك واحد «سفلي»).
fig16
شكل ٢-٧: التصادم مع الكواركات.

ثم ما لبث أن اقتُرِح وجود أربعة أنواع أخرى من الكواركات. وتبعًا لأحدث نموذج للذرة الذي يعرف باسم النموذج القياسي، يوجد اثنا عشر جزيئًا أساسيًّا للمادة، وهي الأنواع الستة من الكواركات إلى جانب ستة جسيمات يطلق عليها اسم ليبتونات وهي فئة تضم بداخلها الإلكترونات.

fig17
شكل ٢-٨: تطور نماذج الذرات.
وكما رأينا فقد تغيرت صورة الذرة تغيرًا كبيرًا عن تلك الصورة التي وضعها ديموقريطس. ومع ذلك فلا يوجد ما يدعونا إلى الثقة في أن الكواركات والليبتونات لا تتكون بدورها من جزيئات أصغر. يوضح الشكل (٢-٨) تطور النماذج الفزيائية بالترتيب.

التحيز للعلم وليس للعلماء

بدأ اكتشاف الذرات بمنافسة بين موثوقية أرسطو وموثوقية ديموقريطس. في المنهج العلمي الحديث، لا تمنح الثقة بناء على الأشخاص، وإنما على تفسير الأدلة القائمة على التجربة. فعلى الرغم من أن العلماء قد يظهرون بمظهر الثقات لأنهم ببساطة يعرفون الكثير عن بعض الظواهر بعينها ولأن الكثير من الناس يتركون أمر إجراء التجارب للمتخصصين في مجال معين في العلوم، فإن الفرضيات لابد من أن يستطيع أي شخص دارس دراسة كافية التثبت من صحتها.

ولعل جوهر المنهج العلمي يكمن في أن الناس غير مضطرين لتصديق قول العالم فيما يخص آراءه العلمية دون إجرائهم مزيدًا من الفحص لها. وهكذا لم تعد المرجعية النهائية عملية تعتمد على شخص بعينه وإنما على عملية منطقية.

مجلدات الأفكار

(٥) الإشعاع الكهرومغناطيسي وتفاعله مع المادة

(٦) النموذج الموجي مقابل النموذج الجسيمي للضوء

(٧) الذرة المكبرة: ذباب يحوم حول كرات بلياردو

(٨) قطة شرودنجر: تجربة ذهنية

(٩) مبدأ عدم اليقين عند هايزنبرج

(١٠) المادة والمادة المضادة

(١١) مجهر المسح النفقي: «رؤية» الذرات

(١٢) القوى الأربع الكبرى في الطبيعة

(١٣) الكهرباء والمغناطيسية: توءمان سياميان

(١٤) قوانين نيوتن للحركة والجاذبية

(١٥) نظريتا النسبية العامة والخاصة لأينشتاين

fig18

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥