الفكرة المهمة الثانية
«القيمة الحقيقية للباحث تكمن في بحثه ما لم يخطر بباله أن يكتشفه من تجاربه، بجانب بحثه لما كان يحاول أن يكتشفه من هذه التجارب.»
الأرض والبحار والنسيم والشمس والنجوم وكل شيء آخر يمكن أن تراه أو تلمسه أو يلمسك هو مادة. والمادة يمكن أن تكون صلبة كالحديد أو لينة مثل بركة ماء أو عديمة الشكل مثل غاز الأكسجين في الهواء الذي لا يمكن رؤيته. ولكن بغض النظر عن صورتها، فإن جميع المواد سواء أكانت صلبة أم سائلة أم غازية؛ تتكون من نفس الأجسام الأساسية ألا وهي الذرات. وكما رأيت في الفصل السابق فإن هناك نوعًا من النظام داخل هذه الذرات حيث تحتوي النواة على نيوترونات عديمة الشحنة وبروتونات موجبة الشحنة وإلكترونات سالبة الشحنة توجد في نظام متسلسل من مستويات الطاقة بمكان ما خارج النواة.
فحص العناصر
يحاول كلٌّ من علم الفيزياء وعلم الكيمياء تحليل الذرات، على أن علم الكيمياء لا يُعنى بدراسة بنية الذرات فحسب وإنما يُعنى كذلك بخصائص هذه الذرات؛ أي ما إذا كانت هذه الذرات تتحد مع ذرات أخرى والكيفية التي يتم بها ذلك الاتحاد. يتناول علماء الكيمياء بالدراسة مجموعات من الذرات التي يمكنهم إدراكها بالحواس أي يمكنهم لمسها أو شمها أو فحصها. تسمى مجموعات الذرات المتشابهة «العناصر». وقد اجتهد علماء الكيمياء في اكتشاف خصائص تلك العناصر وكيف تتفاعل في الظروف المختلفة. فقاموا بتسخينها وتبريدها ومزجها وضغطها ثم لاحظوا ما يحدث في كل هذه الحالات. أبدت العناصر استجابات مختلفة لتلك الظروف. فهي تتصرف على سجيتها في الظروف المختلفة. وبعد ملاحظة استجابات هذه العناصر يصوغ علماء الكيمياء الفرضيات حول طبيعتها.
تشبه محاولات علماء الكيمياء اكتشاف طبيعة العناصر محاولتك اكتشاف طبع شخص عرفته لتوك؛ فأنت تلاحظ كيف يتصرف هذا الإنسان في ظل الظروف المختلفة (كالقلق والإرهاق والسعادة … إلخ)، ثم تصوغ بعد ذلك فرضيتك بشأن الطبيعة المحتملة لهذا الإنسان، (كأن تعتبره حكيمًا أو عطوفًا أو متقلبًا أو واثقًا بنفسه … إلخ). وهذه الفرضية سوف توضع موضع الاختبار في كل مرة تتفق فيها توقعاتك أو تنبؤاتك مع سلوك هذا الإنسان.
العناصر الموجودة في كل شيء
وضعت الأنواع المختلفة للعناصر تحت الملاحظة منذ القدم، لكن العناصر بمفهومها الحديث — أي باعتبارها مواد بسيطة تتكون منها بنى معقدة — قد استغرق التوصل إليه وقتا طويلًا. تخيل اليونانيون القدماء أن كل الأشياء في الكون يمكن أن يكون مصدرها عنصر واحد هو أصل كل شيء؛ اعتقد طاليس (٦٢٥–٥٤٧ق.م.) أن هذا العنصر هو الماء. وافترض أناكسيمينيس (٥٥٠ق.م.) أن هذا العنصر هو الهواء. بينما قال هرقليطس (٥٤٠–٤٨٠ق.م.) إن هذا العنصر ليس إلا النار التي تتغير صورتها باستمرار. ثم مزج إمبيدوكليس (٤٩٠–٤٣٠ق.م.) بين كل هذه الفرضيات وأضاف إليها عنصرًا آخر، فقد رأى أن أي مادة في الوجود يمكن أن تتكون عن طريق اتحاد كل من التراب والماء والهواء والنار. استخدم إمبيدوكليس خصائص الخشب كمثال يحاول به إثبات صحة فرضيته فقال إنه صلب كالأرض، ونحصل منه على النار، وعند احتراقه ينبعث منه بخار كالهواء، وبعض هذا البخار يتكثف مكونًا قطرات من الماء. أما أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) فقد أضاف عنصرًا خامسًا وهو «الأثير» الذي قال إنه يشكل كل الفضاء الفارغ في الكون خارج كوكب الأرض.
جرى التوصل إلى كل ما سبق — كما رأينا في الصفحات السابقة — دون إجراء تجارب وإنما عن طريق تأمل الإغريق وتفكرهم فحسب. وبعد مرور عدة قرون، بدأ المصريون القدماء — وهم شعب يتسم بالنزعة العملية — بإجراء التجارب التي ساعدت على فهم طبيعة المادة. قام المصريون بتسخين الصخور باستخدام الفحم من أجل استخلاص المعادن، وصنعوا الزجاج من الرمل، وصنعوا الطوب من الطين. ويحتمل أن تكون كلمة كيمياء مشتقة من كلمة «كيم» وهو الاسم الذي كان أطلقه المصريون القدماء على أرضهم. وكانت كلمة «كيميا» تستخدم لتشير إلى عملية معالجة المعادن لتغيير طبيعتها.
وفي القرن الثاني قبل الميلاد حاول العالم بولس ابن مدينة مينديس المصرية أن يجمع بين معرفة المصريين العملية وفرضيات اليونانيين القدماء حول العناصر الموجودة في كل شيء. وقد «لاحظ» أنه يمكن مزج المواد (مثل النحاس والزنك) للحصول على مادة جديدة تشبه الذهب (هذه المادة هي النحاس الأصفر، وهي سبيكة تتكون من مزيج من المعادن). وانطلاقًا من الفرضية اليونانية — التي تقول إن المادة عبارة عن اتحاد العناصر الموجودة في كل شيء — «تنبأ» بأنه يمكن الحصول على الذهب — أغلى المعادن ثمنًا — عند مزج هذه العناصر الشاملة بالنسب الصحيحة.
الخيمياء: فشل كبير ونجاح أكبر
وبعد مرور قرون من جهود العالم المصري بولس، صاغ علماء الخيمياء، وهم علماء الكيمياء في القرون الوسطى، عدة طرق للحصول على الذهب وأجروا «التجارب» المتعلقة بهذا الشأن. ولكن هؤلاء العلماء أصابتهم خيبة الأمل إذ لم تثبت صحة تنبؤات بولس مطلقًا. فلم تتم أي عملية تحويل ولم يتحول أي عنصر إلى آخر عن طريق مزج المواد بعضها ببعض. (وإن كنت سترى بعد قليل أن هذه العملية قد تحققت عن طريق تغيير نوى الذرات.) على أن هذه التجارب التي كانت أشبه بطهي الطعام — من حيث إضافة المواد بعضها إلى بعض — لم تفشل فشلًا تامًّا. فقد أسهمت تلك التجارب في تقدم العلم عن طريق تطوير أساليب علمية جديدة ومواد مستحدثة. أما النتائج التي توصل إليها علماء الخيمياء فقد استُخدمت فيما بعد باعتبارها ملاحظات أسفرت عن المزيد من الفرضيات الصحيحة.
الكتل الذرية للعناصر
بينما كان علماء الفيزياء في القرن التاسع عشر يفحصون العمل الداخلي للذرة كان ما يشغل بال علماء الكيمياء هو تصنيف سلوك أكبر قدر ممكن من العناصر المختلفة بمجرد أن يكتشفوها. وبحلول عام ١٨٩٦، اكتُشِف ما يقرب من ستين عنصرًا. وأجريت الدراسات التي تناولت خصائصها الفيزيائية مثل درجة الغليان ودرجة الانصهار والكثافة … إلخ. كما تناولت أيضًا بالدراسة الخصائص الكيميائية مثل كيفية تفاعل تلك العناصر مع العناصر الأخرى. لاحظ علماء الكيمياء أن بعض هذه العناصر تتفاعل بسرعة بينما يتفاعل بعضها ببطء، في حين بدا على بعض هذه العناصر أنها لا تتفاعل بالمرة، أي إنها مثل البشر! وبالإضافة إلى ذلك فقد أصبحت بعض الأنماط واضحة إذ وجد أن هناك مجموعات من العناصر لها خصائص كيميائية متشابهة؛ فعلى سبيل المثال فإن العناصر في مجموعة بعينها سوف تتفاعل جميعًا مع عنصر محدد منتجة نفس النوع من المركب.
ليثيوم ()، ٧ | ألومنيوم ()، ٢٧ |
بريليوم ()، ٩ | سيليكون ()، ٢٨ |
بورون ()، ١١ | فوسفور ()، ٣١ |
كربون ()، ١٢ | كبريت ()، ٣٢ |
نيتروجين ()، ١٤ | كلور ()، ٣٥ |
أكسجين ()، ١٦ | بوتاسيوم ()، ٣٩ |
فلور ()، ١٩ | كالسيوم ()، ٤٠ |
صوديوم ()، ٢٣ | تيتانيوم ()، ٤٨ |
ماغنيسيوم ()، ٢٤ |
إلخ.
العمليات المكررة
في السنوات التي سبقت عام ١٨٦٩، حاول علماء الكيمياء إيجاد علاقة بين الكتل الذرية والخصائص الكيميائية، ولكن هذه المحاولات لم تسفر إلا عن نجاح محدود. نشر «جون دوبرينر» في عام ١٨١٧ وعام ١٨٢٩ مقالات تناول فيها فحص خصائص مجموعات العناصر التي أطلق عليها اسم «الثلاثيات» (مثل الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم). تشترك عناصر كل ثلاثية من هذه الثلاثيات في نفس الخصائص الكيميائية وتكون الكتلة الذرية للعنصر الثاني في الثلاثية مساوية تقريبًا لمتوسط الكتلتين الذريتين للعنصرين الآخرين. على أن هذه المحاولة لم تفلح في تقديم إطار يشمل جميع العناصر. ثم في الفترة من عام ١٨٦٣ إلى عام ١٨٦٦، وضع جون نيولاندز قانون ثمانيات نيولاندز. رأى نيولاندز أنه عند ترتيب العناصر وفقًا للتدرج التصاعدي في كتلها الذرية، يتشابه العنصر الثامن في خصائصه الكيميائية مع العنصر الأول، والعنصر التاسع مع العنصر الثاني … وهكذا. أي إن الأمر يشبه تتابع الدرجات الثمانية في السلم الموسيقي. وفي الحقيقة، فقد بالغ نيولاندز في استخدام هذا التشبيه الاستعاري إذ إن العلاقات الفعلية بين العناصر ليست بهذه البساطة. ولم يأخذ بعض علماء الكيمياء أعمال نيولاندز مأخذ الجد.
ظهرت العناصر في الجدول الذي وضعه مندليف في صفوف أفقية أو دورات أفقية تبعًا لزيادة كتلها الذرية. وتتشابه مجموعات عناصر الصف الرأسي الواحد في الخصائص الكيميائية. وعند ترتيبها بهذا الشكل يظهر نمط ما وهو أن الخصائص الكيميائية للعناصر تتكرر على نحو دوري. فبعد أن تبدأ الدورة بعنصر الليثيوم وتنتهي بعنصر الفلور، نجد أن الخصائص الكيميائية لعنصر الليثيوم تتكرر مع عناصر الدورات التالية وهي الصوديوم والبوتاسيوم، وتتكرر الخصائص الكيميائية لعنصر البريليوم (مثل تفاعله مع الأكسجين لتكوين مركب أبيض صلب يتفاعل ببطء مع الماء) مرة أخرى مع عنصري الماغنيسيوم والكالسيوم وهكذا.
سد الفجوات
وبمرور الوقت مُلئ الكثير من الفجوات التي تركها مندليف في الجدول الدوري للعناصر. وكانت تنبؤاته حول خصائص تلك العناصر المفقودة تتسم بالدقة الشديدة مما جعلها تضفي المزيد من المصداقية على فرضيته.
ولم يكن مندليف هو أول من لاحظ أنه عند ترتيب العناصر ترتيبًا تصاعديًّا تبعًا للكتلة الذرية، فإن العناصر المتشابهة في نفس الخصائص الكيميائية تظهر على مسافات منتظمة. ولكنه كان أول من يتخلى عن «التمسك الصارم» بالفرضية التي تعتبر الخصائص الكيميائية للعناصر تتغير دوريًّا تبعًا لكتلها الذرية.
الأعداد الذرية تنقذ مندليف
توسيع الجدول
وفي حقيقة الأمر فإن القانون الدوري أصبح من الأفكار المهمة بسبب قدرته الفائقة على الشرح والتنبؤ. فلم يستخدم الجدول في التنبؤ بوجود العناصر التي يمكن أن تملأ الفراغات الموجودة داخل الجدول الدوري فحسب وإنما استخدم أيضا في التنبؤ بالعناصر التي تزيد أعدادها الذرية عن العناصر التي نعرفها في وقتنا الحالي.
ونوعًا ما، توجد فجوة كبيرة في ذيل الترتيب الدوري للعناصر. ويتنافس العلماء من مختلف أرجاء الكرة الأرضية من أجل تحديد العناصر التي تسد هذه الفجوة. فيضعون القانون الدوري تحت الاختبار في كل مرة يُركبون فيها عنصرًا جديدًا ثم يدرسون خصائص هذا العنصر الجديد بالنسبة إلى ترتيبه في الجدول.
إعادة تدوير العناصر
يلاحظ أن مجموع الأعداد السفلية المكتوبة على الجانب الأيسر من السهم (٦ و١) هو نفسه العدد السفلي المكتوب على الجانب الأيمن من السهم (٧) وأن مجموع الأعداد العلوية على الجانب الأيسر من السهم (١٢ و١) هو العدد العلوي على الجانب الأيمن من السهم (١٣).
ومع ذلك، فلن تمتلئ الأسواق بالذهب الذي نحصل عليه بهذه الطريقة نظرًا إلى التكلفة الهائلة التي يتطلبها إنتاجه، إلى جانب أن سعر البلاتين أغلى من سعر الذهب!
لعبة الأسماء
حتى وقت قريب، كان حق تسمية أي عنصر يرجع إلى أول مجموعة تنجح في تخليقه.
وبذلك تحول سباق التسلح إلى سباق نحو تسمية العناصر، فيا له من تقدم!
مجلدات الأفكار
(١٦) النظائر المشعة باعتبارها عناصر مقتفية للأثر
(١٧) الكيمياء العضوية مقابل الكيمياء غير العضوية