الفصل الثالث

الفكرة المهمة الثانية

القانون الدوري في الكيمياء: تصنيف العناصر

«القيمة الحقيقية للباحث تكمن في بحثه ما لم يخطر بباله أن يكتشفه من تجاربه، بجانب بحثه لما كان يحاول أن يكتشفه من هذه التجارب.»

كلود بيرنار

الأرض والبحار والنسيم والشمس والنجوم وكل شيء آخر يمكن أن تراه أو تلمسه أو يلمسك هو مادة. والمادة يمكن أن تكون صلبة كالحديد أو لينة مثل بركة ماء أو عديمة الشكل مثل غاز الأكسجين في الهواء الذي لا يمكن رؤيته. ولكن بغض النظر عن صورتها، فإن جميع المواد سواء أكانت صلبة أم سائلة أم غازية؛ تتكون من نفس الأجسام الأساسية ألا وهي الذرات. وكما رأيت في الفصل السابق فإن هناك نوعًا من النظام داخل هذه الذرات حيث تحتوي النواة على نيوترونات عديمة الشحنة وبروتونات موجبة الشحنة وإلكترونات سالبة الشحنة توجد في نظام متسلسل من مستويات الطاقة بمكان ما خارج النواة.

فحص العناصر

يحاول كلٌّ من علم الفيزياء وعلم الكيمياء تحليل الذرات، على أن علم الكيمياء لا يُعنى بدراسة بنية الذرات فحسب وإنما يُعنى كذلك بخصائص هذه الذرات؛ أي ما إذا كانت هذه الذرات تتحد مع ذرات أخرى والكيفية التي يتم بها ذلك الاتحاد. يتناول علماء الكيمياء بالدراسة مجموعات من الذرات التي يمكنهم إدراكها بالحواس أي يمكنهم لمسها أو شمها أو فحصها. تسمى مجموعات الذرات المتشابهة «العناصر». وقد اجتهد علماء الكيمياء في اكتشاف خصائص تلك العناصر وكيف تتفاعل في الظروف المختلفة. فقاموا بتسخينها وتبريدها ومزجها وضغطها ثم لاحظوا ما يحدث في كل هذه الحالات. أبدت العناصر استجابات مختلفة لتلك الظروف. فهي تتصرف على سجيتها في الظروف المختلفة. وبعد ملاحظة استجابات هذه العناصر يصوغ علماء الكيمياء الفرضيات حول طبيعتها.

تشبه محاولات علماء الكيمياء اكتشاف طبيعة العناصر محاولتك اكتشاف طبع شخص عرفته لتوك؛ فأنت تلاحظ كيف يتصرف هذا الإنسان في ظل الظروف المختلفة (كالقلق والإرهاق والسعادة … إلخ)، ثم تصوغ بعد ذلك فرضيتك بشأن الطبيعة المحتملة لهذا الإنسان، (كأن تعتبره حكيمًا أو عطوفًا أو متقلبًا أو واثقًا بنفسه … إلخ). وهذه الفرضية سوف توضع موضع الاختبار في كل مرة تتفق فيها توقعاتك أو تنبؤاتك مع سلوك هذا الإنسان.

العناصر الموجودة في كل شيء

وضعت الأنواع المختلفة للعناصر تحت الملاحظة منذ القدم، لكن العناصر بمفهومها الحديث — أي باعتبارها مواد بسيطة تتكون منها بنى معقدة — قد استغرق التوصل إليه وقتا طويلًا. تخيل اليونانيون القدماء أن كل الأشياء في الكون يمكن أن يكون مصدرها عنصر واحد هو أصل كل شيء؛ اعتقد طاليس (٦٢٥–٥٤٧ق.م.) أن هذا العنصر هو الماء. وافترض أناكسيمينيس (٥٥٠ق.م.) أن هذا العنصر هو الهواء. بينما قال هرقليطس (٥٤٠–٤٨٠ق.م.) إن هذا العنصر ليس إلا النار التي تتغير صورتها باستمرار. ثم مزج إمبيدوكليس (٤٩٠–٤٣٠ق.م.) بين كل هذه الفرضيات وأضاف إليها عنصرًا آخر، فقد رأى أن أي مادة في الوجود يمكن أن تتكون عن طريق اتحاد كل من التراب والماء والهواء والنار. استخدم إمبيدوكليس خصائص الخشب كمثال يحاول به إثبات صحة فرضيته فقال إنه صلب كالأرض، ونحصل منه على النار، وعند احتراقه ينبعث منه بخار كالهواء، وبعض هذا البخار يتكثف مكونًا قطرات من الماء. أما أرسطو (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) فقد أضاف عنصرًا خامسًا وهو «الأثير» الذي قال إنه يشكل كل الفضاء الفارغ في الكون خارج كوكب الأرض.

جرى التوصل إلى كل ما سبق — كما رأينا في الصفحات السابقة — دون إجراء تجارب وإنما عن طريق تأمل الإغريق وتفكرهم فحسب. وبعد مرور عدة قرون، بدأ المصريون القدماء — وهم شعب يتسم بالنزعة العملية — بإجراء التجارب التي ساعدت على فهم طبيعة المادة. قام المصريون بتسخين الصخور باستخدام الفحم من أجل استخلاص المعادن، وصنعوا الزجاج من الرمل، وصنعوا الطوب من الطين. ويحتمل أن تكون كلمة كيمياء مشتقة من كلمة «كيم» وهو الاسم الذي كان أطلقه المصريون القدماء على أرضهم. وكانت كلمة «كيميا» تستخدم لتشير إلى عملية معالجة المعادن لتغيير طبيعتها.

وفي القرن الثاني قبل الميلاد حاول العالم بولس ابن مدينة مينديس المصرية أن يجمع بين معرفة المصريين العملية وفرضيات اليونانيين القدماء حول العناصر الموجودة في كل شيء. وقد «لاحظ» أنه يمكن مزج المواد (مثل النحاس والزنك) للحصول على مادة جديدة تشبه الذهب (هذه المادة هي النحاس الأصفر، وهي سبيكة تتكون من مزيج من المعادن). وانطلاقًا من الفرضية اليونانية — التي تقول إن المادة عبارة عن اتحاد العناصر الموجودة في كل شيء — «تنبأ» بأنه يمكن الحصول على الذهب — أغلى المعادن ثمنًا — عند مزج هذه العناصر الشاملة بالنسب الصحيحة.

الخيمياء: فشل كبير ونجاح أكبر

وبعد مرور قرون من جهود العالم المصري بولس، صاغ علماء الخيمياء، وهم علماء الكيمياء في القرون الوسطى، عدة طرق للحصول على الذهب وأجروا «التجارب» المتعلقة بهذا الشأن. ولكن هؤلاء العلماء أصابتهم خيبة الأمل إذ لم تثبت صحة تنبؤات بولس مطلقًا. فلم تتم أي عملية تحويل ولم يتحول أي عنصر إلى آخر عن طريق مزج المواد بعضها ببعض. (وإن كنت سترى بعد قليل أن هذه العملية قد تحققت عن طريق تغيير نوى الذرات.) على أن هذه التجارب التي كانت أشبه بطهي الطعام — من حيث إضافة المواد بعضها إلى بعض — لم تفشل فشلًا تامًّا. فقد أسهمت تلك التجارب في تقدم العلم عن طريق تطوير أساليب علمية جديدة ومواد مستحدثة. أما النتائج التي توصل إليها علماء الخيمياء فقد استُخدمت فيما بعد باعتبارها ملاحظات أسفرت عن المزيد من الفرضيات الصحيحة.

fig19

الكتل الذرية للعناصر

بينما كان علماء الفيزياء في القرن التاسع عشر يفحصون العمل الداخلي للذرة كان ما يشغل بال علماء الكيمياء هو تصنيف سلوك أكبر قدر ممكن من العناصر المختلفة بمجرد أن يكتشفوها. وبحلول عام ١٨٩٦، اكتُشِف ما يقرب من ستين عنصرًا. وأجريت الدراسات التي تناولت خصائصها الفيزيائية مثل درجة الغليان ودرجة الانصهار والكثافة … إلخ. كما تناولت أيضًا بالدراسة الخصائص الكيميائية مثل كيفية تفاعل تلك العناصر مع العناصر الأخرى. لاحظ علماء الكيمياء أن بعض هذه العناصر تتفاعل بسرعة بينما يتفاعل بعضها ببطء، في حين بدا على بعض هذه العناصر أنها لا تتفاعل بالمرة، أي إنها مثل البشر! وبالإضافة إلى ذلك فقد أصبحت بعض الأنماط واضحة إذ وجد أن هناك مجموعات من العناصر لها خصائص كيميائية متشابهة؛ فعلى سبيل المثال فإن العناصر في مجموعة بعينها سوف تتفاعل جميعًا مع عنصر محدد منتجة نفس النوع من المركب.

وقد حدد علماء الكيمياء في القرن التاسع عشر الكتلة الذرية لكل عنصر، وهي خاصية فيزيائية تقيس كتلة الذرة لعنصر ما مقارنة بكتلة ذرة عنصر آخر. وأقل كتلة ذرية — نحو (١) — هي كتلة ذرة الهيدروجين ورمزها الكيميائي ( ). (اختزل العلماء أسماء العناصر إلى حرف واحد أو حرفين.) وبعد ذلك، ووفقًا لملاحظات العلماء آنذاك فقد ظهرت العناصر التالية برموزها وكتلها الذرية التقريبية:
ليثيوم ( )، ٧ ألومنيوم ( )، ٢٧
بريليوم ( )، ٩ سيليكون ( )، ٢٨
بورون ()، ١١ فوسفور ( )، ٣١
كربون ( )، ١٢ كبريت ( )، ٣٢
نيتروجين ( )، ١٤ كلور ( )، ٣٥
أكسجين ( )، ١٦ بوتاسيوم ( )، ٣٩
فلور ( )، ١٩ كالسيوم ( )، ٤٠
صوديوم ( )، ٢٣ تيتانيوم ( )، ٤٨
ماغنيسيوم ( )، ٢٤

إلخ.

العمليات المكررة

في السنوات التي سبقت عام ١٨٦٩، حاول علماء الكيمياء إيجاد علاقة بين الكتل الذرية والخصائص الكيميائية، ولكن هذه المحاولات لم تسفر إلا عن نجاح محدود. نشر «جون دوبرينر» في عام ١٨١٧ وعام ١٨٢٩ مقالات تناول فيها فحص خصائص مجموعات العناصر التي أطلق عليها اسم «الثلاثيات» (مثل الليثيوم والصوديوم والبوتاسيوم). تشترك عناصر كل ثلاثية من هذه الثلاثيات في نفس الخصائص الكيميائية وتكون الكتلة الذرية للعنصر الثاني في الثلاثية مساوية تقريبًا لمتوسط الكتلتين الذريتين للعنصرين الآخرين. على أن هذه المحاولة لم تفلح في تقديم إطار يشمل جميع العناصر. ثم في الفترة من عام ١٨٦٣ إلى عام ١٨٦٦، وضع جون نيولاندز قانون ثمانيات نيولاندز. رأى نيولاندز أنه عند ترتيب العناصر وفقًا للتدرج التصاعدي في كتلها الذرية، يتشابه العنصر الثامن في خصائصه الكيميائية مع العنصر الأول، والعنصر التاسع مع العنصر الثاني … وهكذا. أي إن الأمر يشبه تتابع الدرجات الثمانية في السلم الموسيقي. وفي الحقيقة، فقد بالغ نيولاندز في استخدام هذا التشبيه الاستعاري إذ إن العلاقات الفعلية بين العناصر ليست بهذه البساطة. ولم يأخذ بعض علماء الكيمياء أعمال نيولاندز مأخذ الجد.

وفي عام ١٨٦٩، قرر الكيميائي الروسي ديميتري مندليف ترتيب العناصر في صفوف أفقية تبعًا لزيادة الكتلة الذرية (انظر الشكل ٣-١). يحتوي الصف الأول على أخف عنصر وهو عنصر الهيدروجين، وهو العنصر الوحيد في هذا الصف. يبدأ الصف الثاني بعنصر الليثيوم حتى يصل إلى عنصر الفلور. وعندما وصل مندليف إلى العنصر التالي وهو الصوديوم، وهو عنصر تتشابه خصائصه مع عنصر الليثيوم (على سبيل المثال يتفاعل بشدة مع الماء)، قام ببدء صف جديد واضعًا الصوديوم تحت عنصر الليثيوم. واصل مندليف ترتيب العناصر في هذا الصف الثالث إلى أن وصل إلى عنصر البوتاسيوم (الذى يتفاعل بشدة أيضًا مع الماء) وتكرر ما حدث سابقًا وقام ببدء صف جديد واضعًا البوتاسيوم تحت عنصر الصوديوم. وبعد ذلك وضع الكالسيوم تحت الماغنيسيوم والبريليوم.
fig20
شكل ٣-١: جدول مندليف الدوري: العناصر وكتلها الذرية (قربت لأقرب رقم صحيح).

ظهرت العناصر في الجدول الذي وضعه مندليف في صفوف أفقية أو دورات أفقية تبعًا لزيادة كتلها الذرية. وتتشابه مجموعات عناصر الصف الرأسي الواحد في الخصائص الكيميائية. وعند ترتيبها بهذا الشكل يظهر نمط ما وهو أن الخصائص الكيميائية للعناصر تتكرر على نحو دوري. فبعد أن تبدأ الدورة بعنصر الليثيوم وتنتهي بعنصر الفلور، نجد أن الخصائص الكيميائية لعنصر الليثيوم تتكرر مع عناصر الدورات التالية وهي الصوديوم والبوتاسيوم، وتتكرر الخصائص الكيميائية لعنصر البريليوم (مثل تفاعله مع الأكسجين لتكوين مركب أبيض صلب يتفاعل ببطء مع الماء) مرة أخرى مع عنصري الماغنيسيوم والكالسيوم وهكذا.

سد الفجوات

كان التيتانيوم هو العنصر المعروف أنه يلي الصوديوم من حيث الكتلة الذرية. لو كان مندليف وضع التيتانيوم مباشرة بعد الكالسيوم، لشغل المكان الذي يلي عنصر الألومينيوم مباشرة. ولكنه علم من خلال دراسته للخصائص الكيميائية لعنصرَي البورون والألومينيوم أن عنصر التيتانيوم لا يتناسب مع هذه المجموعة؛ إذ يُكوِّن البورون والألومينيوم مركبات مع الأكسجين تكون نسبة ذرات البورون أو الألومينيوم فيها إلى نسبة ذرات الأكسجين ٣:٢. ويمكن استخدام الرموز السفلية لتوضيح التناسب في ذرات هذه المركبات بالصيغة حيث يشير إلى عنصر في مجموعة البورون-ألومينيوم. أما التيتانيوم فيكوِّن مركبًا مع الأكسجين تتشابه صياغته العامة مع مجموعة الكربون-سيليكون وهو . وبسبب تشابه خصائص التيتانيوم الكيميائية مع خصائص عناصر مجموعة الكربون-سيليكون أكثر من تشابهها مع عناصر مجموعة البورون-ألومينيوم، تجرأ مندليف وترك مكانًا فارغًا ووضع التيتانيوم تحت عنصر السيليكون كما يوضح الشكل (٣-٢).
fig21
شكل ٣-٢: ترتيب التيتانيوم في الجدول الدوري.
في واقع الأمر، كان الفراغ أو الفجوة في هذا الجدول تنبؤًا من نوع ما. إذ افترض مندليف أن الخصائص الكيميائية للعناصر تتكرر بشكل دوري، أو بعبارة أدق أن الخصائص الكيميائية للعناصر تتكرر دوريًّا تبعًا للكتل الذرية لهذه العناصر. وبناء على هذه الفرضية، تنبأ مندليف أنه لا بد أنه يوجد عنصر آخر ينبغي أن يشغل هذا الفراغ في الترتيب الدوري للعناصر. هذا العنصر لا بد أن خصائصه الكيميائية تتشابه مع خصائص كلٍّ من البورون والألومينيوم، وأن كتلته الذرية لا بد أنها تتوسط الكالسيوم (٤٠) والتيتانيوم (٤٨). وقد ثبتت بالفعل صحة هذا التنبؤ عندما اكتُشِف الإسكانيديوم ( ) — الذي تبلغ كتلته الذرية ٤٥ — عام ١٨٧٩. (انظر الشكل ٣-٣).
fig22
شكل ٣-٣: ترتيب الإسكانيديوم في الجدول الدوري.

وبمرور الوقت مُلئ الكثير من الفجوات التي تركها مندليف في الجدول الدوري للعناصر. وكانت تنبؤاته حول خصائص تلك العناصر المفقودة تتسم بالدقة الشديدة مما جعلها تضفي المزيد من المصداقية على فرضيته.

ولم يكن مندليف هو أول من لاحظ أنه عند ترتيب العناصر ترتيبًا تصاعديًّا تبعًا للكتلة الذرية، فإن العناصر المتشابهة في نفس الخصائص الكيميائية تظهر على مسافات منتظمة. ولكنه كان أول من يتخلى عن «التمسك الصارم» بالفرضية التي تعتبر الخصائص الكيميائية للعناصر تتغير دوريًّا تبعًا لكتلها الذرية.

تسبب التمسك الصارم بهذه الفرضية في مشكلات عدة. إحدى هذه المشكلات هي تحديد مكان العنصرين اليود (I) وكتلته الذرية ١٢٧، والتيلوريوم (Te) وكتلته الذرية ١٢٨، في الجدول الدوري. فإذا جرى ترتيب هذه العناصر تبعًا لزيادة كتلتها الذرية فسيأتي عنصر اليود في المجموعة التي تشمل الأكسجين والكبريت والسيلينيوم (Se) ويأتي عنصر التيلوريوم في المجموعة التي تشمل الفلور والكلور والبروم (Br). وهذا الترتيب غير صحيح من حيث الخصائص الكيميائية لهذين العنصرين، بمعنى أن خصائص اليود الكيميائية تتشابه مع خصائص مجموعة الفلور-الكلور-البروم، بينما تتشابه الخصائص الكيميائية لعنصر التيلوريوم مع خصائص مجموعة الأكسجين-الكبريت-السيلينيوم. قرر ميندليف تجاهل تتابع الكتل الذرية لهذه العناصر وقام بترتيب تلك العناصر بناء على تشابه خصائصها الكيميائية (انظر الشكل ٣-٤).
fig23
شكل ٣-٤: ترتيب عنصري التيلوريوم واليود في الجدول الدوري.
تساعد خصائص المجموعة الواحدة في تفسير العديد من الظواهر. فإذا نظرنا إلى (Ca) الكالسيوم (Sr) والأسترونتيم على سبيل المثال فسنجد أنهما ينتميان إلى نفس المجموعة ولهما خصائص متشابهة. يحتوى الغبار المتساقط نتيجة التجارب النووية على الغلاف الجوي على عنصر الأسترونتيم المشع، وعند تناول الإنسان لهذا العنصر — خصوصًا في اللبن — يمكن أن يحل الأسترونتيم محل الكالسيوم في العظام ويسبب سرطان العظام واللوكيميا.

الأعداد الذرية تنقذ مندليف

لم تكن «الأعداد الذرية» معروفة في عصر مندليف وهي تعبر عن عدد البروتونات الموجودة في نواة الذرة. يساعد العدد الذري في بيان الخصائص الكيميائية المتشابهة أكثر من الكتلة الذرية. والقانون الدوري بشكله الحديث يمكن صياغته على النحو الآتي: تتغير الخصائص الكيميائية للعناصر تتغير دوريًّا تبعًا لأعدادها الذرية. يأتي عنصر التيلوريوم — العدد الذري له ٥٢ — قبل اليود — عدده الذرى ٥٣ (انظر الشكل ٣-٥). كان مندليف محظوظًا بطريقة أو بأخرى لأن زيادة الكتلة الذرية غالبًا ما يصاحبها زيادة في العدد الذري.
fig24
شكل ٣-٥: النسخة المعدلة من القانون الدوري وبها الأعداد الذرية موضحة فوق رموز العناصر.

توسيع الجدول

تزايدت أعداد العناصر المعروفة تزايدًا كبيرًا منذ زمن اليونانيين القدماء. فيوجد الآن ما يقرب من ١١٢ عنصرًا معروفًا تناولهم القانون الدوري بالوصف الدقيق؛ فتم تعديل شكل الجدول الدوري بحيث يتسع ليشمل كل هذه العناصر (انظر الشكل ٣-٦). ومن ثم لم يعد عنصر الإسكانديوم محتفظًا بمكانه تحت عنصري البورون والألومنيوم، ولم يعد التيتانيوم تحت الكربون والسيليكون.

وفي حقيقة الأمر فإن القانون الدوري أصبح من الأفكار المهمة بسبب قدرته الفائقة على الشرح والتنبؤ. فلم يستخدم الجدول في التنبؤ بوجود العناصر التي يمكن أن تملأ الفراغات الموجودة داخل الجدول الدوري فحسب وإنما استخدم أيضا في التنبؤ بالعناصر التي تزيد أعدادها الذرية عن العناصر التي نعرفها في وقتنا الحالي.

ونوعًا ما، توجد فجوة كبيرة في ذيل الترتيب الدوري للعناصر. ويتنافس العلماء من مختلف أرجاء الكرة الأرضية من أجل تحديد العناصر التي تسد هذه الفجوة. فيضعون القانون الدوري تحت الاختبار في كل مرة يُركبون فيها عنصرًا جديدًا ثم يدرسون خصائص هذا العنصر الجديد بالنسبة إلى ترتيبه في الجدول.

fig26
شكل ٣-٦: الجدول الدوري الحديث.
fig25

إعادة تدوير العناصر

لكي نستطيع خلق عناصر جديدة لا بد من تكوين نوى جديدة. إذ إن تغيير عدد بروتونات نواة ذرة ما يُحَوِّل هذه الذرة لتصبح ذرة عنصر آخر. وللتعبير عن هذه العمليات باستخدام الرموز نجد أن العدد المكتوب على الجانب الأيسر السفلي لرمز العنصر يشير إلى العدد الذري (عدد البروتونات) والعدد المكتوب على الجانب الأيسر العلوي يشير إلى الكتلة الذرية (عدد البروتونات والنيوترونات). على سبيل المثال، يشار إلى ذرة الكربون — العدد الذري لها ٦ — التي تحتوي على ٦ نيوترونات بالرمز التالي: ويعبر عن البروتون (المماثل لنواة الهيدروجين الخالية من النيوترونات) بالرمز الآتي: . إذا اتحدت — أو اندمجت — ذرة الكربون مع البروتون يكون الناتج نواة تحتوي على ٧ بروتونات و٦ نيوترونات. وبذلك يكون ناتج الاتحاد هو عنصر النيتروجين بما أن عدده الذري ٧. وتكون كتلته الذرية ١٣ لأنه يتكون من ٧ بروتونات و٦ نيوترونات. وتوضح المعادلة الآتية تفاعل نواة الكربون مع البروتون:

يلاحظ أن مجموع الأعداد السفلية المكتوبة على الجانب الأيسر من السهم (٦ و١) هو نفسه العدد السفلي المكتوب على الجانب الأيمن من السهم (٧) وأن مجموع الأعداد العلوية على الجانب الأيسر من السهم (١٢ و١) هو العدد العلوي على الجانب الأيمن من السهم (١٣).

وتُعْرَف الذرات التي لها نفس عدد البروتونات ولكنها تختلف في عدد النيوترونات باسم «النظائر». النظائر تشبه بعض التوائم المتطابقة في أنها لا تكون مطلقة التطابق. فنجد على سبيل المثال أن جميع ذرات النيتروجين تحتوي على ٧ بروتونات بينما تحتوي بعض الذرات على ٦ نيوترونات ويحتوي البعض الآخر على ٧ نيوترونات وهكذا. ويطلق على نظير ذرة النيتروجين الناتج عن اتحاد و اسم «نيتروجين-١٣».
يؤدي تغيير عدد النيوترونات (n) في النواة إلى تحويل ذرة العنصر إلى نظير لهذا العنصر. ويوضح المثال الآتي تَكَوُّن نظير لعنصر اليورانيوم (U) هو يورانيوم-٢٣٩:
عادةً ما تكون النظائر الناتجة بهذه الطريقة مشعة كما أنها تتحلل مكونةً عناصر جديدة؛ إذ يتحلل اليورانيوم-٢٣٩ مكونًا يتحلل اليورانيوم-٢٣٩ مكونًا نظيرًا لعنصر النبتونيوم (Np) هو نبتونيوم-٢٣٩ إلى جانب إلكترون (e):
تمكن علماء الكيمياء في العصر الحديث عن طريق التحولات النووية من تحقيق حلم تحويل العناصر الذي طالما راود العالم المصري بولس؛ فحتى عنصر الذهب (Au) يمكن الحصول عليه باستخدام هذه الطريقة الكيميائية الحديثة وذلك بتحلل بعض نظائر عنصر البلاتين (Pt) كالآتي:

ومع ذلك، فلن تمتلئ الأسواق بالذهب الذي نحصل عليه بهذه الطريقة نظرًا إلى التكلفة الهائلة التي يتطلبها إنتاجه، إلى جانب أن سعر البلاتين أغلى من سعر الذهب!

لعبة الأسماء

حتى وقت قريب، كان حق تسمية أي عنصر يرجع إلى أول مجموعة تنجح في تخليقه.

ثم انتهجت عام ١٩٧٩ طريقة جديدة في تسمية العناصر وذلك نتيجة لوقوع خلاف حول أول من قام بتخليق العنصر رقم ١٠٤. حيث ادعى كلٌّ من العلماء الأمريكيين والروس هذا الشرف. قام العلماء الأمريكيون بتسمية هذا العنصر الجديد «رذرفورديوم» ورمزه (Rf) نسبة إلى العالم إرنست رذرفورد، بينما أطلق العلماء الروس على هذا العنصر اسم «كرشتوفيوم» ورمزه (Ku) نسبة إلى عالم الفيزياء الروسي إيجور كرشتو Igor Kurchatov. وقام الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية (أيوباك) — جهة التحكيم في مثل هذه المنازعات — بالنظر في هذه الادعاءات حول اكتشاف وتسمية العنصر رقم ١٠٤. وبدلًا من أن يحسم الاتحاد الأمر لصالح أي من الدولتين، قرر تسمية العنصر «أنلكواديوم» unnilquadium (حيث un = 1, nil = 0, quad = 4). وبنفس هذه الطريقة سيطلق على العنصر رقم ١٠٥ اسم «أنلكوانتيوم» unnilquintium والعنصر رقم ١٠٦ اسم «أنلهكسيوم» unnilhexium وهكذا. ويا لها من طريقة مملة يمكن أن نسميها حسب هذه الطريقة «مملتنيوم»!
وفي عام ١٩٩٤، تراجع الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية عن هذه الطريقة القاسية في التسمية. ورأى أنه من الأفضل تسمية العنصر رقم ١٠٤ وغيره من العناصر التي لم يطلق عليها اسم بأسماء العلماء الراحلين أو أسماء الأماكن التي تخلقت فيها تلك العناصر. وكحلٍّ وسط بين الأمريكان والروس، لم يطلق اسم «رذرفورديوم» أو «كرشتوفيوم» على العنصر رقم ١٠٤ وإنما أطلق عليه اسم «دوبنيوم» ورمزه (Db) وذلك نسبة إلى مدينة دوبنا الروسية التي تخلَّق العنصر بها. ولاحقًا كُرِّم راذرفورد بتسمية العنصر رقم ١٠٦ باسمه ليكون اسمه «رذرفورديوم».

وبذلك تحول سباق التسلح إلى سباق نحو تسمية العناصر، فيا له من تقدم!

مجلدات الأفكار

(١٦) النظائر المشعة باعتبارها عناصر مقتفية للأثر

(١٧) الكيمياء العضوية مقابل الكيمياء غير العضوية

fig27

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥