الفصل الرابع

الفكرة المهمة الثالثة

نظرية الانفجار العظيم في علم الفلك: تتبع أصل العناصر

«لا أزعم فهمي للكون فحجمه أكبر بكثير من حجمي.»

توماس كارليل

ننتقل الآن من العالم المتناهي في الصغر إلى عالم الكون بضخامته التي تفوق الخيال. إن الإنسان ليبدو صغيرًا جدًّا مقارنة بمساحة الكون الشاسعة. ومن الطبيعي أن يشعر المرء بالرهبة أمام هذه الضخامة، ولكن لا ينبغي أن تبالغ في هذا الشعور. صحيح أن الكون يحتوي على كتل ضخمة وفضاءات هائلة إلا أن حقيقة أنك قادر على فهم ومناقشة أي منها تشير إلى أنك تتمتع بمواهب مذهلة.

ماذا يحدث هناك؟ ومنذ متى؟

تعددت الملاحظات بشأن الأجسام السماوية التي يتألف منها الكون. يستطيع الناس بسهولة رؤية الشمس ونجوم أخرى بل وحتى رؤية بعض الكواكب. لاحظ العلماء كوكب الأرض واستخدموا التلسكوب والمسابير الفضائية في ملاحظة بعض الكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية. كما وضعوا خرائط للمجرات (وهي مجموعات من النجوم) وأيضًا خرائط لعناقيد المجرات. وبناء على هذه الملاحظات، يحاول علماء الفلك تقديم وصف للكون وحساب للزمن الذي استغرقه حتى أصبح على صورته الحالية.

يتراوح التقدير الحالي لعمر الكون ما بين ١٢ إلى ١٥ مليار سنة. ونظرًا إلى أن البشر لم يبدءوا في إجراء الملاحظات عن الكون وتسجيلها على نحو دقيق ومنظم وكمي إلا منذ ما يقرب من ألف عام، فإن الزمن الذي استغرقته الملاحظات يعتبر متناهي الصغر بالمقارنة بإجمالي عمر الكون. وبالرغم من هذا القصور، استطاع علماء الفلك صياغة فروض مفصلة تفصيلًا دقيقًا عن هذا الكون.

كيف نغير مركز الكون

كانت الفرضيات السابقة تصور كل عناصر الكون بالنسبة إلى علاقتها بالأرض. جعلت هذه النماذج الكونية — التي تتصف بالمركزية الأرضية — كوكب الأرض مركزًا للكون. وكانت هذه الفكرة متماشية تمامًا مع المعتقدات الدينية وكان الناس يتدارسونها ويؤمنون بصحتها حتى القرن السادس عشر بعد الميلاد. وتبعًا لهذه النظرية يصبح الكون ذا مركزية بشرية؛ أي إن الإنسان هو مركز هذا الكون.

ومن أهم الفرضيات ذات المركزية الأرضية فرضية سميت «النظرية البطلمية»، نسبة إلى كلاوديوس بطليموس الذي انتهى من صياغتها عام ١٤٠م. وطبقًا لهذه النظرية فإن الأرض ثابتة وتقع في مركز الكون بينما تدور الشمس والقمر والكواكب والنجوم حولها في مدارات دائرية. وقدمت هذه الفرضية تفسيرًا لكل الحقائق التي كانت معروفة عن المجموعة الشمسية في ذلك الوقت. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان يمكن استخدام هذه الفرضية للوصول إلى تنبؤات دقيقة إلى حد كبير عن مواقع الكواكب.

وبعد مرور عدة قرون، وبالتحديد في عام ١٥٤٣ أسفرت دراسة كوبرنيكوس للأرض والقمر والشمس والكواكب والنجوم عن خروجه بنموذج للكون يختلف تمام الاختلاف عن نموذج بطليموس. قالت نظرية كوبرنيكوس للكون إن النجوم ثابتة بينما تدور الأرض والكواكب الأخرى في مدارات دائرية حول الشمس. ونظرًا إلى أن الشمس ثابتة في موقعها، يعرف هذا النموذج الكوني باسم نموذج مركزية الشمس. عارض الكثيرون هذا النموذج القائل بأن الشمس مركز الكون لأنه ليس ذا مركزية إنسانية، أي لم يعد الإنسان هو النقطة المحورية في هذا الكون.

fig28

وفيما بعد، استطاع جاليليو الفصل بين هاتين النظريتين وذلك باستخدام دليل حصل عليه بواسطة التلسكوب. فطبقًا لنظرية كوبرنيكوس فإن كوكب الزهرة من المفترض أن يمر بأطوار كأطوار القمر التابع لكوكب الأرض. ولكن من وجهة نظر بطليموس، لا ينبغي أن يكون لكوكب الزهرة أطوار كالقمر. وعندما لاحظ جاليليو مستخدمًا أحد أول التليسكوبات الفلكية أن كوكب الزهرة له بالفعل أطوار كالقمر، علم أن فرضية بطليموس لا بد أن تكون خاطئة. وهكذا في نهاية المطاف، قامت وجهة النظر المتعصبة لمركزية الأرض بإفساح الطريق لوجهة نظر جديدة لا يكون الإنسان فيها مركزًا للكون.

يا له من انفجار عظيم

ركزت نظرية كوبرنيكوس اهتمامها على جزء صغير نسبيًّا من الكون. نعرف اليوم أنه يوجد عدد لا حصر له من الأجسام السماوية التي تنتشر في أرجاء الكون الفسيحة. اتسمت الفرضيات الحديثة عن الكون بأنها أكثر شمولًا ودائمة التطور بطبيعتها. تتناول هذه الفرضيات بالدراسة مجالًا أوسع وتصف التغير المستمر في الكون. وهي تهدف إلى تقديم وصف عن ماضي الكون وحاضره ومستقبله.

تكونت الرؤية الحديثة للكون بعد ملاحظة غاية في الأهمية، أجراها عالم الفلك الأمريكي إدوين هابل عام ١٩٢٩. لاحظ هابل في الضوء المنبعث من مجرات أخرى أن الألوان المميزة التي تنبعث من العناصر المختلفة الموجودة في هذه المجرات تختلف عن الألوان المنبعثة من نفس هذه العناصر الموجودة على كوكب الأرض. ورصد هابل أن ضوء هذه المجموعات النجمية ينزاح نحو حيز اللون الأحمر الذي يعد آخر ألوان الطيف السبعة وهي البنفسجي والنيلي والأزرق والأخضر والأصفر والبرتقالي والأحمر؛ أي إنه إذا كان لون الضوء المنبعث من ذرة ما على الأرض يبدو لنا بنفسجيًّا، فقد نرى ونحن على الأرض لون الضوء المنبعث من الذرة نفسها وهي في مجرة بعيدة نيليًّا.

fig29

وربما تكون قد لاحظت تأثيرًا مشابهًا في تغير حدة صوت آلة تنبيه سيارة أو صفير قطار متحرك؛ حيث ترتفع حدة الصوت كلما اقتربت المركبة وتنخفض كلما ابتعدت عنك. ومثلما يوضح انخفاض طبقة الصوت أن مصدر هذا الصوت يبتعد فإن الإزاحة نحو اللون الأحمر تعني أن مصدر هذا الضوء يبتعد. استنتج هابل أن جميع المجرات تقريبًا تبدو وكأنها تبتعد عن الأرض. وبعبارة أخرى فإنه استنتج أن الكون يتمدد.

ويمكن تصوير هذا الموقف المتطور بتخيل بالون منتفخ قليلًا ويمتلئ سطحه بالنقاط. كل نقطة منها تمثل مجرة. لتتخيل نفسك واقفًا عند إحدى هذه النقاط فوق سطح البالون ثم نُفِخ البالون أكثر، فستبدو عندئذٍ كل النقاط الأخرى وكأنها تبتعد عن النقطة التي تقف عندها وكذلك عن باقي النقاط. (في هذا التشبيه ستجد أن كل نقطة من نقاط البالون تتمدد في حد ذاتها، هذا إلى جانب التمدد الكلي لسطح البالون بالطبع. غير أن هذا لا يحدث في الكون إذ إن المجرات لا يحدث لها تمدد داخلي في الغالب.)

وإذا كانت كل مجرة أو بالأدق كل عناقيد المجرات تتحرك متباعدة في تلك اللحظة، فمن المنطقي أن نفترض أنها في وقت سابق كانت متقاربة. بل إن هذه الفرضية إذا تتبعناها إلى منتهاها فسنفترض أن كل ما في الكون من مادة كان في وقتٍ ما كتلةً واحدة. ولأننا اليوم نعلم كم تبعد المجرات بعضها عن بعض، ونعرف على وجه التقريب سرعة تحركها، فإننا نستطيع تقدير أن هذه الكتلة الواحدة قد وجِدت منذ نحو ١٥ مليار عام.

إذا افترضنا أنه كانت توجد كتلة واحدة في وقت ما تحتوي على كل مادة الكون، وأن هذه الوحدة بدأت في التمدد، فيمكننا إذن تخيل أن انفجارًا من نوع ما قد وقع. وهذا هو الافتراض الذي تقوم عليه النظرية التي حظيت بأكبر قبول من العلماء فيما يتعلق بنشأة الكون، وهي نظرية الانفجار العظيم. (من قال إن النظريات العلمية ينبغي أن يطلق عليها أسماء فخمة!) تقول النظرية إن الوحدة الأساسية للكون — التي يطلق عليها وفقًا لهذه النظرية اسم الكرة النارية الأولية — لا بد من أنها بلغت من السخونة درجة تفوق الخيال، وكانت المادة الموجودة بها مركزة بكثافة عالية جدًّا. وتسبب الارتفاع الهائل لدرجة الحرارة داخل الكرة النارية في عدم احتوائها على الذرات أو البروتونات أو النيوترونات أو الإلكترونات.

fig30

ولأسباب غير واضحة تمامًا، انفجرت الكرة النارية الأولية مما تسبب في حدوث فرقعة هائلة وتناثرت المادة الموجودة بداخلها في جميع الاتجاهات. أدى انخفاض درجة الحرارة الناتج عن التمدد إلى «تجمد» الكواركات وتحولها إلى بروتونات ونيوترونات، مثلما يحدث عندما يتجمد الماء ويتحول إلى ثلج عندما تنخفض درجة الحرارة إلى درجة الصفر المئوي. وقد أدى انخفاض درجة الحرارة المتتالي إلى تجمد النوى ثم تجمد الذرات بعد ذلك.

يتصف هذا التمدد ببعض الخصائص الفريدة والصعبة التخيل؛ فالتمدد عادة يحدث «في» الفضاء؛ أي إنه يشغل حيزًا أكبر من الفضاء. لكن ما حدث في الانفجار العظيم عكس ذلك حيث كان تمددًا للفضاء نفسه وليس مجرد تمدد لشيء في الفضاء. وهكذا ووفقًا للنظرية فإن الفضاء نفسه نشأ نتيجة الانفجار العظيم.

ثمة جانب مذهل آخر من جوانب الكون الناتج عن الانفجار العظيم ألا وهو أنه ليس له مركز ولا حد. ولكي تتمكن من تخيل هذه الصورة، تذكر سطح البالون المتمدد الذي سبق أن أشرنا إليه. تُرى أين يوجد مركز هذا البالون؟ الإجابة هي أنه لا يوجد مركز فكل نقطة على سطح البالون تظل في نفس موقعها بالنسبة إلى السطح الكلي للبالون.

هل وقع انفجار عظيم بالفعل؟

كي نقرر ما إذا كان الانفجار العظيم قد وقع بالفعل أم لا، لنبحث بعض التنبؤات المستندة إلى هذه النظرية. أحد هذه التنبؤات يقوم على الرأي القائل بأنه في الدقائق القليلة الأولى من التمدد، كانت الظروف مواتية لحدوث التفاعلات الاندماجية بين البروتونات (نوى الهيدروجين) والنيوترونات. ويعد أهم ما نتج عن هذه الانفجارات في النهاية نوى ذرات الهليوم (التي تحتوي على بروتونين). وخلال تلك الدقائق الأولى تحدد التكوين الكلي للكرة النارية المتمددة التي نتج عنها الكون.

التنبؤ الأول

تشير الحسابات القائمة على هذه التفاعلات إلى أنه يجب أن تكون نسبة الهليوم في الكون نحو ٢٥٪.

التجربة الأولى

تحتوي معظم الأجسام الفلكية الضخمة ذات التكوين الكيميائي المعروف على الهليوم بنسبة تتراوح ما بين ٢٣٪ و٢٧٪.

أما التنبؤ الثاني فيقوم على فكرة أنه بمجرد انخفاض درجة حرارة الكون بدرجة كافية استطاعت النوى جذب الإلكترونات ومن ثم استكمال تكوين الذرات. وينتج عن جذب النوى للإلكترونات «خروج للطاقة» في صورة إشعاع كهرومغناطيسي. (وبالعكس فإن نزع إلكترون من قوة جذب نواته يتطلب «استهلاك الطاقة».) ولا بد من أن كثافة هذا الإشعاع قد انخفضت في ظل تمدد الكون ولكن آثار مثل هذا الإشعاع الخلفي أو «صدى» الانفجار العظيم ينبغي أن تكون قابلة للملاحظة والاكتشاف.

التنبؤ الثاني

لا بد من وجود إشعاع خلفي للكون، أي لا بد من وجود نوع من بقايا الإشعاع الذي انبعث منذ زمن سحيق عند حدوث الانفجار العظيم، وهذه البقايا ينبغي تبعًا لهذا التنبؤ أن توجد في كل أرجاء الكون.

التجربة الثانية

تبين أن الإشعاع الخلفي الذي يظهر في شكل موجات متناهية الصغر — والذي رصده العلماء في التجربة التي أجريت عام ١٩٦٥ في مختبرات «بل تليفون» واعتبروه مجرد تشويش زائد عن الحد على الموجات الراديوية — يتوافق مع ما تنبأت به نظرية الانفجار العظيم، ووُجد أن تلك الموجات الكهرومغناطيسية تنبعث من جميع الاتجاهات في السماء. ما حدث إذن كان أمرًا متوقعًا لأن الانفجار العظيم — كما ذُكر من قبل — حدث في كل مكان مكونًا ومالئًا حيز الكون بأكمله.

مصانع العناصر

وهكذا تفسر نظرية الانفجار نشأة الكون برمته وتكوُّن بعض الأنواع القليلة من النوى. ولكن كيف إذن تطورت هذه المجموعة الكبيرة من العناصر الموجودة في الكون؟ إجابة هذا السؤال تقدمها لنا النجوم.

لم تتطور جميع أجزاء الكرة النارية الأولية بعد انفجارها على نحو منتظم. إنما حدث تمركز موضعي للبروتونات والنيوترونات والإلكترونات والنوى الصغيرة مثل نواة الهليوم التي انفجرت وتناثرت في اتجاهات مختلفة. تستطيع هذه الجزيئات عند وجودها داخل السحب الغازية أن تنجذب بعضها إلى بعض مثلما تجذب الأرض ما عليها. ونتيجة لذلك تتقلص السحب الغازية كلما اقتربت الجزيئات بعضها من بعض. (انظر الشكل ٤-١).
fig31
شكل ٤-١: تقلص سحابة الغاز المنبعثة من الكرة النارية الأولية.
وإذا كانت السحابة الغازية تحتوي على عدد كبير من الجزيئات، يمكن أن تنضغط المادة المكونة لها بدرجة كبيرة. وفي نهاية المطاف، تتقارب البروتونات والنيوترونات ونوى الهليوم إلى الحد الذي يسمح بحدوث عملية تعرف باسم «الاندماج النووي» وهو اندماج نوى صغيرة لتكوين نوى أكبر، وهي عملية مولدة للطاقة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن تكوِّن نواتَا هيدروجين-١ (بروتونات) ورمزه الكيميائي نظيرًا جديدًا وهو هيدروجين-٢ ورمزه الكيميائي .
وينتج عن هذا الاندماج كذلك بوزيترون (إلكترون موجب الشحنة) رمزه الكيميائي إلى جانب طاقة كالآتي:
هذان النظيران للهيدروجين يمكن أن يندمجا، وينتج عن هذا الاندماج عنصر جديد وهو هليوم-٣ ورمزه الكيميائي ( ).
ثم تندمج ذرتا هليوم-٣ الناتجتان من التفاعل السابق فتكونا هليوم-٤ ورمزه الكيميائي ( ) بالإضافة إلى ٢ بروتون كالآتي:
كما يمكن أن يندمج هليوم-٤ الناتج مع هليوم-٣ لتكوين عنصر جديد وهو بريليوم-٧ ورمزه الكيميائي ( ):
يمكن لعملية الاندماج أن تستمر لتنتج لنا في النهاية العديد من العناصر الموجودة في الجدول الدوري. وهذه السحب الغازية العملاقة التي توفر الظروف الملائمة بداخلها لحدوث الاندماج النووي تعرف باسم «النجوم» وهي موضحة بالشكل (٤-٢).
fig32
شكل ٤-٢: الحركة داخل النجم.

وهكذا فإن النجم هو مصنع للعناصر تتولد به الطاقة كلما تكونت فيه نوى أضخم. أما المجرات فهي عبارة عن مجموعات من النجوم المترابطة معًا بفعل قوى الجذب المتبادلة. ويعتقد أن أول مجرة تكونت بعد نحو ٢ مليار عام من حدوث الانفجار العظيم.

النجوم العملاقة

وفي نهاية المطاف تبدأ حياة النجم في الاقتراب من نهايتها بعد أن تستنفد عملية الاندماج النووي قدرًا هائلًا من وقود النجم أثناء اندماج النوى الصغيرة الذي يؤدي بدوره إلى تصنيع نوى أكبر. ودون الوقود الكافي للإبقاء على ارتفاع درجة الحرارة والضغط الداخليين، ويبدأ النجم في الانكماش.

fig33
يؤدي هذا التقلص الذي يحدث للنجم تحت تأثير قوى الجاذبية إلى ارتفاع سريع في درجة حرارته حيث تصطدم الجزيئات بعضها ببعض بقوة هائلة مكونة نوى أكبر. وبالنسبة إلى النجوم ذوات الكتلة العادية تكون النتيجة هي تَكَوُّن نجم أكبر يعرف باسم «العملاق الأحمر». أما في حالة النجوم ذات الكتلة العملاقة، فيحدث انفجار مروع يطلق عليه علماء الفلك اسم «المستعر الأعظم» كما هو موضح بالشكل (٤-٣).
fig34
شكل ٤-٣: الاحتمالات التي يمكن حدوثها للمادة المخصبة عند انفجارها في انفجار المستعر الأعظم.

وقد رُصِد مستعر أعظم حديث في عام ١٩٨٧. فقد تلاشى النجم محدثًا فرقعة هائلة قاذفًا بطبقاته الخارجية في الفضاء. وتحتوي هذه الطبقات على نوى أكبر تكونت أثناء موت النجم. ويمكن دمج هذه المادة المخصبة في أجيال جديدة من النجوم. وبما أن الشمس تحتوي على العديد من نوى عناصر الجدول الدوري فهي تعتبر على الأقل نجمًا من الجيل الثاني للنجوم التي تكونت منذ ما يقرب من ٤ إلى ٥ مليارات عام مضت.

فرضيات داخل الفرضيات

تشتمل فرضية الانفجار العظيم على فكرة أن الشمس والأرض والكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية تكونت من سحابة غاز ثرية صغيرة نسبيًّا تعرف باسم «السديم». وتبعًا «للفرضية السديمية»، تكونت الشمس وكواكب المجموعة الشمسية في البداية كسحابة غازية عملاقة ومنتشرة وتدور ببطء وهي التي بدأت في التقلص تدريجيًّا تحت تأثير مجالها الجذبي. وكلما بدأت في الدوران بشكل أسرع (مثل متزلجة على الجليد تضم يديها إلى جسدها عند دورانها حول نفسها) تكونت عدة دوائر حول خط استواء السحابة الغازية المتقلصة. هذا الانكماش الجذبي الذي أدى إلى الاندماج النووي يرفع درجة حرارة الكتلة المركزية التي تصبح هي الشمس. ثم تبدأ دوائر المادة التي تخلفها الكتلة المنكمشة — التي ستصبح فيما بعد شمسًا — في الاندماج لتكون الكواكب.

fig35

الترابطات الكونية

كانت الكرة النارية الأولية في غاية السخونة لدرجة يتعذر معها تكوُّن النوى الضخمة. وتعرضت السحب الغازية الناتجة عن الانفجار العظيم للتقلص بسبب الانجذاب بين عناصرها مكونة النجوم التي بدورها كونت نوى عناصر جديدة عن طريق الاندماج النووي. أما المستعرات العظمى الناتجة عن انفجار بعض هذه النجوم فتؤدي إلى تَكَوُّن نجوم تحتوي على مجموعات من هذه العناصر الجديدة. وربما تكون الكواكب قد تكونت نتيجة تقلص السحب الغازية الثرية المنبعثة من نجم ضخم يحتوي على مجموعة كبيرة من العناصر.

وهذا ترابط كوني محكم. تتكون الكرة الأرضية بأكملها بما عليها من سكان بشريين من ذرات تشكلت نواها في المركز الساخن المستعر لنجم عملاق انفجر منذ مليارات السنين. وهكذا يمكن أن نقول بحق إننا أولاد النجوم!

تمدد عظيم أم تقلص عظيم

تقوم نظرية الانفجار العظيم على معتقدات حول تطور الكون في الماضي. لكن ماذا عن المستقبل؟ ما مصير هذا الكون؟ هذا هو أهم سؤال يشغل علم الفلك اليوم، ولكن الإجابة عنه غير واضحة.

ظهرت نظريتان متنافستان بهذا الصدد كما هو موضح بالشكل (٤-٤) وهما:
  • (١)

    نظرية التمدد المستمر التي تقول باستمرار تمدد الكون إلى ما لا نهاية (تمدد كبير).

  • (٢)

    نظرية الكون المتذبذب التي تقول بتمدد الكون إلى أن يصل إلى حد معين (أقصى حد) ثم ينعكس الوضع ويبدأ الكون في التقلص لمليارات السنين (التقلص الكبير) إلى أن يصل الكون في النهاية إلى الكرة النارية الأولية، وربما يعاود الانفجار ثانية!

fig36
شكل ٤-٤: الكون في الماضي والحاضر والمستقبل.

ثمة سلسلة من التنبؤات والتجارب من شأنها أن تفصل في صحة أيٍّ من هاتين النظريتين: فليست كل سفن الفضاء الصاروخية تنجح في الإفلات من الجاذبية الأرضية. وإذا غادرت سفينة الفضاء الصاروخية سطح الأرض، فمسألة ما إذا كانت السفينة ستستمر في الابتعاد عن سطح الأرض أو تتوقف عن حركتها التصاعدية وتعكس اتجاهها وترجع مرة ثانية إلى الأرض، تعتمد على سرعة تحرك السفينة الصاروخية وقوة الجاذبية الأرضية التي تجذبها ثانية نحو الأرض. فإذا كانت قوة الجاذبية الأرضية أشد من قوة محركاتها فستعود السفينة الصاروخية ثانية إلى الأرض.

قوة الجاذبية بين الأجسام تعتمد على كتلة هذه الأجسام؛ فكلما زادت الكتلة زادت قوة الجذب. وإذا كانت قوة الجاذبية بين جميع عناصر الكون كبيرة بالدرجة الكافية (أي إن كتلة الكون كبيرة بما يكفي) فستتمكن تلك القوة في النهاية من جمع كل عناصر الكون بعضها مع بعض مرة أخرى. أما إذا كانت قوة الجاذبية ليست كبيرة بالدرجة الكافية (أي إن كتلة الكون ليست كبيرة بما يكفي) فسيستمر الكون في تمدده. وهكذا يتحدد مصير الكون بناء على كتلته.

  • التنبؤ: طبقًا لنظرية الكون المتذبذب تعد كتلة الكون أكبر من الكتلة الحرجة التي قدرها علماء الفلك، وهي الكتلة التي تستطيع معها الجاذبية جذب كل عناصر الكون وتوحيدها مرة أخرى.
  • التجربة: بلغ مجموع الكتل التي لاحظها العلماء نحو ١٪ من مقدار الكتلة الحرجة التي حسبوها. وبإضافة كتل المادة الإضافية الناتجة عن تحرك المجرات يزيد الرقم لنسبة تتراوح بين ١٠٪ إلى ٣٠٪ من الكتلة الحرجة، وهي نسبة لا تزال أقل من المطلوب لحدوث الانكماش النهائي.
fig37

الرؤية في الظلام

لا يمكن الإجابة عن سؤال مصير الكون عن طريق المادة الملاحظة فقط. هل من المحتمل أن يشتمل الكون على مواد لم يكتشفها علماء الفلك بعد؟ نعم، فالثقوب السوداء هي خير مثال على وجود عناصر أخرى في الكون، وهذه الثقوب ليست إلا أجسامًا ضخمة يُعْتَقد أنها بقايا نجوم عملاقة محترقة. وبينما تنفجر المادة الأساسية في انفجار المستعر الأعظم الذي ينهي حياة النجم العملاق، ينفجر المزيد من المواد داخليًّا فتنضغط مكونة إما «نجمًا نيوترونيًّا» شديد الكثافة (حيث تكون المادة بداخله مضغوطة بشدة على نحو لا يسمح بوجود البروتونات والإلكترونات) أو ثقبًا أسود.

تحتوي الثقوب السوداء على كم هائل من المادة المضغوطة بكثافة شديدة في حيز متناهي الصغر. ومن ثم فإن الجاذبية داخل الثقب الأسود تكون في غاية القوة إلى درجة أن الضوء نفسه لا يستطيع الإفلات منها؛ وهو الأمر الذي يجعل تلك الثقوب غير مرئية.

fig38

وحتى تفهم السبب الذي يؤدي إلى عدم نفاذ الضوء من الثقوب السوداء، يمكنك أن تتأمل مركبة فضاء وهي تغادر سطح القمر. لمغادرة القمر، يستخدم رواد الفضاء صاروخًا صغيرًا نسبيًّا تكفي سرعته للإفلات من جاذبية القمر، ولكن للإفلات من جاذبية الأرض الأشد قوة لا بد لهم من استخدام صاروخ أقوى وأسرع، وبالمثل فإن الثقب الأسود في غاية الضخامة بحيث إنه حتى الضوء، الذي تعتبر سرعته هي أقصى سرعة يعرفها البشر، لا يستطيع أن يفلت منه.

fig39

يمتلك علماء الفلك بالفعل أدلة على احتمال وجود عدة ثقوب سوداء، وقد توجد إحداها في مركز مجرة درب التبانة. ولهذا السبب فإن الكتلة الكلية للكون لا يمكن تقديرها على نحو دقيق دون معرفة عدد الثقوب السوداء الموجودة، وكمية المادة التي تحتويها تلك الثقوب، بالإضافة إلى كمية المادة المحتمل وجودها فيما يعرف باسم «المادة المظلمة» وهي المادة التي لا يمكن ملاحظتها بالتلسكوبات.

ولكن من أين جاء كل هذا؟

يُذكر أن نظريتَي الانفجار العظيم والكون المتذبذب لم تتطرقا إلى منشأ الكرة النارية الأولية، ولا سبب انفجارها. إن المنهج العلمي أداة نافعة، لكنها تظل محدودة. هل خرجت كرة النار الأولية إلى الوجود فجأة أم أنها كانت موجودة بالفعل بشكل أو بآخر منذ الأزل؟ هل وُجدت من العدم أم كانت موجودة بالفعل؟ إن مثل هذه التساؤلات تعيد إلى الأذهان السؤال القديم: هل كان الله أزليًّا، أم أنه خرج للوجود بطريقة ما؟ ومن خلق الله؟

سُئل القديس أوغسطينوس ذات يوم السؤال الآتي: ماذا كان يفعل الله قبل أن يخلق السماء والأرض؟ فكانت إجابته على هذا السؤال هي أن الله قبل أن يخلق السماء والأرض كان يعد جهنم لمن يخوضون في مثل هذه الأمور!

مجلدات الأفكار

(١٨) زمن ملاحظة قصير نسبيًّا

(١٩) علم الفلك المرئي مقابل علم الفلك غير المرئي

(٢٠) تقدير عمر الكون

(٢١) مشكلة الكتلة المفقودة

(٢٢) الثقوب السوداء والثقوب البيضاء والثقوب الدودية

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥