الفكرة المهمة الخامسة
«التقدم العلمي يشبه دربًا قديمًا من دروب الصحراء تجده زاخرًا بجماجم النظريات المهجورة التي بدت ذات يوم أزلية.»
علم الأحياء هو العلم الذي يتناول بالدراسة جميع أنواع الكائنات الحية الموجودة على وجه الأرض. ولأننا نحن البشر نعد جزءًا من هذه السلسلة الكبيرة من أشكال الحياة، فسوف نولي اهتمامًا خاصًّا بالحياة البشرية. فنحن نحاول سبر أغوارها أملًا في المحافظة عليها وتحسينها. كما نسعى للكشف عن أسرار الطبيعة، والإجابة عن تساؤلات مثل «كيف نشأت الحياة؟» و«منذ متى وجدت؟» و«لماذا تسير الحياة على النهج الذي تسير عليه؟» تقود إجابات هذه الأسئلة إلى الوصول إلى فهم طبيعة الوجود الإنساني الحديث نسبيًّا في هذا الكون. وإنَّ سعيَنا لاكتشاف كيف أصبحنا على الشكل الذي نحن عليه الآن يساعدنا في فهم موضعنا في هذا النظام الكوني الكبير.
وطبقًا للفرضية السديمية تكونت الأرض منذ نحو خمسة مليارات عام نتيجة تكثف النوى المتكونة داخل مستعر أعظم نتج عن انفجار نجم قبل ذلك بعدة أعوام. ولم يكن على سطح الأرض أي نوع من الحياة وقت حدوث ذلك التكثف. أما اليوم فهناك تنوع هائل في الكائنات الحية الموجودة على هذا الكوكب. إذن كيف حدث هذا التغير الشديد بحيث أصبحت هناك أنواع متعددة من الحياة بعدما كانت الحياة لا وجود لها على الأرض؟
نظرية التطور هي الإجابة التي يقدمها علم الأحياء عن هذا التساؤل. إذ إنها تفسر الآلية المحتملة لنشأة حياة بسيطة أولية، ولانبثاق هذا التنوع الهائل لأشكال الحياة من تلك الصورة الأولية للحياة.
اليرقات واللحم والميكروسكوبات
لاحظ أرسطو أن الذباب وحشرات أخرى تتجمع في حشود حول المادة المتعفنة. جعلته هذه الملاحظة يعتقد أن بعض الحيوانات لا تخرج إلى الوجود نتيجة تخصيب الذكر للأنثى وإنما نتيجة للمادة المتعفنة نفسها. قال أرسطو إن هذه التحولات تحدث عن طريق «الأفعال التلقائية للطبيعة». وساد هذا الاعتقاد حتى القرن السادس عشر. وفي عام ١٦٦٨ وضع فرانسيسكو ريدي هذا الاعتقاد موضع الاختبار.
- الملاحظة: لاحظ ريدي أن اليرقات تتكون عندما يُترك اللحم حتى يتعفن في وعاء مكشوف.
- الفرضية: وتبعًا للنظرية التي كانت سائدة فإن ظهور اليرقات ما هو إلا دليل على «التوالد التلقائي لكائنات حية معقدة التركيب من مادة بسيطة غير حية» وهي اللحم المتعفن.
- التنبؤ: تتنبأ هذه النظرية بأن اليرقات سوف تتكون أيضًا إذا وضع اللحم في وعاء مغطى بشبكة سلكية تشبه الشاش. (إذا كانت اليرقات تتوالد من اللحم نفسه فلن تغير الشبكة السلكية من الأمر شيئًا).
-
التجربة: لم تتكون اليرقات داخل الوعاء المغطى بالشبكة السلكية الذي أعده ريدي.
فسر ريدي نتائج هذه التجربة بأن أسراب الذباب تتجمع حول اللحم المتعفن وتضع عليه بيضها الذي يتحول بدوره إلى يرقات (يرقات ذباب). أما في هذه التجربة التي قام بها ريدي فإن الذباب لم يضع بيضه على اللحم وإنما على الشبكة السلكية التي كانت تغطي الوعاء.
بعد هذه التجربة وغيرها من التجارب، اقتنع علماء الأحياء في نهاية المطاف بأن الكائنات المعقدة التركيب لا تتوالد تلقائيًّا من مادة غير حية. ومع ذلك لم تخرج إلى الوجود نظرية أفضل من نظرية أرسطو. كان علماء الأحياء بحاجة إلى مزيد من الوقت لتنمية قدراتهم على الملاحظة. حدث بعد ذلك أن اخترع الميكروسكوب وطُوِّرَت طرق تحليلية أفضل وهلم جرًّا. وعندئذٍ استطاع هؤلاء العلماء ملاحظة قدر هائل من التفاصيل والتعقيدات والتنوع. وأدركوا أن أحد أهم أوجه القصور في فرضية التوالد التلقائي للكائنات المعقدة هو أن الفرضية تقفز قفزة هائلة بافتراضها حدوث التحول المباشر من مواد بسيطة إلى كائنات حية معقدة التركيب. إذ توجد فجوة هائلة في مستوى التعقيد.
يوحي هذا الأمر بأن أول كائن حي لا بد من أن يكون هو أبسط وحدة تظهر بها خصائص الحياة وهي تحديدًا «الخلية». إذن كيف نشأت أول خلية؟ وحتى نجيب عن هذا السؤال لا بد أن نلقي نظرة أولًا على الجوانب الحديثة للخلايا، ثم نلقي نظرة بعد ذلك على فرضية تصف كيفية نشأة أجسام مشابهة منذ زمن سحيق.
جولة سريعة داخل الخلية
وبخلاف الخلايا الحيوانية نجد أن الخلايا النباتية محاطة بالجدران.
- (١)
خطة أو برنامج عمل.
- (٢)
مواد البناء.
- (٣)
وسيلة لتنفيذ الخطة أو تسهيل ترجمتها.
من المسئول هنا؟
لطالما بحث علماء الأحياء عن العقل المخطط في الخلية. ولاحظوا أن نزع النواة من سيتوبلازم خليةِ أميبا يؤدي إلى موت هذه الخلية. ومن ناحية أخرى وجدوا أن النواة لا تستطيع المحافظة على الحياة بمفردها. ونتيجة لهذا افترضوا أن النواة هي العقل المدبر للخلية؛ فهي تحتاج إلى السيتوبلازم لكي (لتتحكم به)، ويحتاج السيتوبلازم إلى النواة لكي (يكون تحت سيطرتها). ولكن، مهلًا، لِمَ لا يكون السيتوبلازم هو الذي يحتاج إلى النواة لكي (يسيطر عليها) وتحتاج النواة إلى السيتوبلازم لكي (يضعها تحت سيطرته)؟ لِمَ لا نفترض أن السيتوبلازم هو العقل المدبر للخلية؟
إذا صح الافتراض القائل بأن النواة هي العقل المدبر للخلية، يجوز للمرء إذن أن يتنبأ بأنه عند قطع رأسَي الطحلبين وزرع ساقَي كل منهما في القاعدة المحتوية على نواة الطحلب الآخر فإن الرأسين اللذين سيتكونان لكلا الطحلبين عندئذٍ سوف يتشابهان مع القاعدة الأصلية لكليهما.
يمكن تفسير ظهور أول رأس تجدد للطحلب باحتفاظ الساق ببعض المواد المجددة التي أفرزتها النواة الأصلية. وعند تَكَوُّن الرأس الثانية للطحلب، تكون هذه المادة قد نفدت فلا يستطيع الساق إلا أن يلجأ إلى الاعتماد على المادة التي تفرزها نواته الجديدة لتكوين الرأس الجديد. وهكذا تكون النواة هي العقل المدبر للخلية.
- ملاحظة: يكمن الاختلاف الوحيد بين البكتيريا الخشنة والملساء في أن الأخيرة لها غشاء وتسبب الالتهاب الرئوي لفئران المعامل بينما الأولى ليس لها غشاء ولا تسبب التهابًا رئويًّا للفئران.
- الفرضية: يتحكم الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين «دي إن أيه» في الخصائص البنائية والوظيفية للخلايا.
- تنبؤ: عند مزج الحمض النووي لبكتيريا ملساء ميتة مع بكتيريا خشنة حية وامتصاصها لذلك الحامض النووي، تتحول البكتيريا الخشنة لتشبه البكتيريا الملساء أي إنها تُكَوِّن أغشية وتسبب التهابًا رئويًّا لفئران المعامل.
- التجربة: يسبب مزج الحمض النووي للبكتيريا الملساء الميتة والبكتيريا الخشنة الحية التهابًا رئويًّا لفئران المعامل. والحقيقة التي أيدت هذه الفرضية هي أن الحمض النووي للبكتيريا الملساء يتسبب في التحول الذي يطرأ على البكتيريا الخشنة. هكذا أثبتت هذه التجربة وغيرها من الأدلة التجريبية أن الحمض النووي هو العامل الأساسي في نمو الخلية ووظائفها.
الرسالة والرسول
يعتبر الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأكسجين، الذي يُعْرَف اختصارًا ﺑ «الحمض النووي» أو «دي إن أيه» هو المكون الرئيسي للكروموسومات الموجودة بداخل النواة. ولكن إذا كان موجودًا بداخل النواة فحسب، فكيف إذن تصل أوامره إلى السيتوبلازم؟ وكيف يستطيع التحكم في عملية البناء التي تحدث داخل السيتوبلازم؟ والإجابة على هذين السؤالين هي أن أوامر الحمض النووي تصل إلى السيتوبلازم عن طريق مادة توجد في كل من النواة والسيتوبلازم وهي الحمض النووي الريبوزي الذي يُعْرَف اختصارًا باسم «آر إن أيه». يبني الحمض النووي جزيء حمض نووي ريبوزي يتحرك بدوره تجاه السيتوبلازم وكأنه رسول يحمل رسالة. ويترجم جزيء الحمض النووي الريبوزي بعضًا من المعلومات المشفرة الموجودة داخل الحمض النووي وهي الشفرة الجينية ثم ينقلها إلى السيتوبلازم. (إن جزيء الحمض النووي الريبوزي الموجود داخل ساق الطحلب الذي تكلمنا عنه في مثالنا السابق هو المادة المجدِّدة التي حددت شكل أول رأس أعاد الطحلب تكوينه) وهنا تتكون جزيئات تُسمَّى إنزيمات. هذه الإنزيمات تقوم بدور العوامل المحفزة في التفاعلات الكيميائية، وهي مواد لا تشارك في التفاعل الكيميائي بنفسها ولكنها تهيئ للتفاعل أن يتم بمعدل أسرع وفي درجة حرارة أقل. ومن ثم تتحكم تلك الإنزيمات في التفاعلات الكيميائية التي تحدد بدورها بناء ووظائف الخلية وتبعًا لذلك فهي تحدد خصائص الكائن الحي في نهاية المطاف.
الرسالة والرسول ومواد البناء
- (١)
الخطة أو الأوامر وهي جزيء الحمض النووي.
- (٢)
مواد البناء وهي الجزيئات المغذية.
- (٣)
وسيلة تنفيذ الخطة أو ترجمتها وهي جزيئات الحمض النووي الريبوزي وجزيئات الإنزيمات.
يعتبر كلٌّ من الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي والإنزيمات ومواد البناء وما تكونه الخلية منها تعتبر جميعًا جزيئات. وهي عبارة عن مجموعات من الذرات طرأ عليها تغير ما لتتكتل في مجموعات مستقرة. ولهذا طبقًا للتحليل النهائي يوجد أساس جزيئي لشكل الخلية ووظيفتها ومن ثم يحتمل وجود أساس جزيئي لنشأة أول خلية.
وبالرغم من أنه لم يكن من الضروري أن تكون الخلية الأولى معقدة تعقيد الخلايا الحالية، فقد كان من اللازم أن يحتوي على جزيء منظم له القدرة على التناسخ، وكذلك على جزيئات المغذيات التي تتكون من خلالها المكونات الأخرى للخلية.
تُرى كيف خرجت إلى الوجود مكونات هذه الخلية؟ وكيف حدثت التفاعلات الكيميائية التي أسفرت عن تكون تلك المكونات؟ من المعروف أنه لكي يحدث أي تفاعل كيميائي لا بد من توافر المقومات والظروف المناسبة له. والمقومات هنا هي الذرات الرئيسية التي تألفت منها مكونات الخلية وهي ذرات الكربون والأكسجين والهيدروجين والنيتروجين. من ثم كي تتكون مكونات الخلية هذه لا بد من توافر الجزيئات المناسبة التي تحتوي على هذه الذرات الأربع.
من الجزيئات إلى الخلايا
رغم أن المعلومات الجينية في وقتنا الحالي تتدفق عادة من الحمض النووي إلى الحمض النووي الريبوزي، فإن الكثير من الباحثين يعتقدون أن شكلًا ما من الحمض النووي الريبوزي كان هو الجزيء المنظم الأولي، وأن الحمض النووي الريبوزي هو الذي هيأ الظروف لتطور الحمض النووي. فقد استطاع جزيء الحمض النووي الريبوزي بطريقة ما أن ينظم بعضًا من المواد في الحساء لتكوين مواد الخلية بما في ذلك الجزيئات الجديدة من الحمض النووي الريبوزي. أي نستطيع القول إن الحساء كان يغذي ذاته بذاته! ويمكن تعريف الحياة من هذا المنطلق بأنها نمط سلوكي تظهره الأنظمة الكيميائية عندما تصل إلى نوع ودرجة معينة من التعقيد.
نظرية ميلَّر تؤيد نظرية أوبارين
قام عالم الكيمياء الحيوية الروسي ألكساندر أوبارين بصياغة فرضية عن نشأة الحياة، ويمكن أن يطلق على هذه النظرية اسم التوالد الجزيئي التلقائي للخلية الأولى (بخلاف نظرية التوالد التلقائي للكائنات معقدة التركيب التي صاغها أرسطو).
- الافتراض: في ظل حالة الغلاف الجوي الأولي للأرض، شاركت الجزيئات الموجودة آنذاك في سلسلة من التفاعلات الجزيئية التي نتج عنها في النهاية خلايا حية.
- التنبؤ: إذا كان من الممكن محاكاة مكونات وحالات الغلاف الجوي الأولي للأرض داخل المعمل، يمكن أن تحدث سلسلة من التفاعلات الجزيئية المفترضة التي تسفر في نهاية الأمر عن تكون خلية حية من جزيئات بسيطة.
- التجربة: حاول ستانلي ميلَّر في عام ١٩٥٣ محاكاة ما كان يعتبره العلماء الظروف الكيميائية للأرض قبل ظهور الكائنات الحية عليها. مزج ميلَّر الماء مع غاز الأمونيا والميثان والهيدروجين وذلك في أنبوب زجاجي. ثم قام بتعريض جزيئات هذا المزيج لتيار كهربائي متصل عالي الطاقة، مشابه للبرق الذي نفذ خلال الغلاف الجوي الأولي للأرض (انظر الشكل ٦-٧). أما نتيجة هذه التجربة فقد كانت تَكوُّن مجموعة متنوعة من الجزيئات العضوية مثل تلك الموجودة في الخلايا ولكنها لم تسفر عن تكون خلية حية كاملة.
أثبتت تجربة ميلَّر أن التفاعلات الكيميائية العشوائية يمكن أن ينتج عنها مواد بيولوجية؛ وبذلك دعمت فرضية أوبارين، غير أنها لم تتناول الكثير من الروابط الأخرى الموجودة في السلسلة التي تقود إلى نشأة الحياة (أي إنها لم تسفر عن تكون خلية حية). فخلق الحياة لم يحصل داخل جدران المعمل. وحتى لو خُلِقَت الحياة داخل المعمل فلن يُعَدَّ ذلك تأييدًا مطلقًا لفرضية أوبارين التي تقول بأن الحياة خُلقت بهذه الطريقة. فأيًّا كان ما أدى إلى نشأة الحياة حدث من قبل أن يوجد أي شهود عليه ومن ثم فما من أحد يمكنه الجزم به.
تطور الغلاف الجوي
بخار الماء هو المكون الوحيد من بين المكونات الأربعة لتجربة ميلَّر الذي يوجد بكميات كبيرة في الغلاف الجوي حاليًّا. ويشكل النيتروجين والأكسجين الجزء الأكبر من غلافنا الجوي الحديث. إذ إن التغير في تكوين الغلاف الجوي هو نتيجة لتطور الكائنات الحية.
كان مصدر الطعام والطاقة للخلايا الأولى هو الجزيئات الموجودة بالبحر. ويُعْتَقد أن أعداد الخلايا أخذت تتزايد بسرعة وأن مخزون المواد الغذائية الضرورية أخذ يتضاءل. أي إن الحساء أخذ يلتهم نفسه حتى كاد يفنى. (تُرى هل كانت هذه هي أولى الكوارث البيئية؟) فيما بعد تطورت خلايا أخرى قامت باستخدام المركبات الملونة (أصباغ مثل الكلوروفيل أ) لامتصاص الطاقة الضوئية المرئية. كانت هذه خطوة ثورية لأن الأشعة فوق البنفسجية التي كانت تُمتص أثناء تكون الجزيئات في البحر كانت فيما سبق هي الوحيدة التي تستخدم كمصدر للطاقة. أما هذه الخلايا الجديدة فقد استخدمت كلًّا من الماء وثاني أكسيد الكربون والطاقة المباشرة من الشمس لتكوين جزيئات غنية بالطاقة. ويطلق على هذه العملية اسم البناء الضوئي وينتج عنها أكسجين كناتج ثانوي:
وعاليًا في الغلاف الجوي، تتحول جزيئات الأكسجين إلى أوزون يؤدي دور الحاجز الواقي إذ يقلل من كمية الأشعة فوق البنفسجية التي تصل إلى سطح الأرض.
تغيرت حالة الغلاف الجوي تغيرًا جذريًّا في غضون الأربعة مليارات سنة الماضية. فبالإضافة إلى الأكسجين الناتج عن عملية البناء الضوئي، يوجد عنصر النيتروجين الذي يتكون عن طريق تأثير بعض البكتيريا على مركبات النيتروجين. ونتيجة لهذا لا مجال لتوقع حدوث التوالد الجزيئي للخلايا في الوقت الحاضر على النحو الذي أشارت إليه فرضية أوبارين. ومع ذلك فإن الغلاف الجوي الحالي والبيئة الآن يسمحان بظهور التنوع في الغلاف الحيوي.
تفرع الحياة
وفقًا لفرضية أوبارين، نشأت الخلية الأولية البسيطة، أو بمعنى آخر أول صورة من صور الحياة، منذ ما يقرب من ٤ مليارات عام. كيف لهذه الفرضية أن تتسع لتتضمن تفسيرًا للتنوع الهائل لأشكال الحياة الموجودة في وقتنا الحالي على سطح الأرض؟
«ولما كان عدد الأفراد الذين يولدون من كل نوع من الكائنات يفوق بكثير العدد الذي يمكن أن يعيش، فلا مناص من حدوث صراع على البقاء في كل حالة من حالات ولادة هذه الأنواع سواء كان هذا الصراع بين فردين من نفس النوع أو بين فردين لنوعين مختلفين، أو كان صراعًا بين فرد وظروف الحياة المادية … فهل من الممكن حينئذٍ أن يتطرق التفكير إلى أنه من غير المحتمل رؤية أن التمايزات المفيدة للإنسان قد حدثت دون شك، وأن تمايزات أخرى مفيدة بطريقة ما لكل كائن في المعركة الهائلة والمعقدة من أجل الحياة، من الضروري أن تحدث على مدى آلاف الأجيال؟ وإن حدث مثل هذا، فهل من الممكن أن نرتاب — مع تذكر أن عدد الذين يولدون من كل نوع من الكائنات هو أكبر بكثير من العدد الذي يمكن أن يعيش — في أن الأفراد التي لديها أي ميزة عن الأخرى مهما تكن بسيطة؛ فسوف يكون لديها أفضل فرصة للبقاء على قيد الحياة وعلى زيادة نسل صنفها؟ ومن ناحية أخرى، قد نشعر بالثقة في أن أي تمايز مضر — ولو بأي درجة طفيفة — سيدمَّر على نحو صارم. وسوف أطلق مصطلح «الانتخاب الطبيعي» على هذا النوع من الحفاظ على الاختلافات والتمايزات المناسبة وتدمير الاختلافات والتمايزات الضارة.»
وعندما قدم داروين نظرية الانتخاب الطبيعي، كان متأكدًا من وجود بعض الآليات المتوارثة التي من شأنها تفسير هذا التمايز، إلا أن طبيعة تلك الآلية لم تكن معروفة حينئذٍ. كان داروين على قيد الحياة عندما توصل الراهب النمساوي جريجور مندل إلى وحدات الوراثة المنفصلة المعروفة باسم الجينات، ولكن لم يذع صيت هذا الاكتشاف إلا خلال القرن العشرين. وهذا الاندماج النهائي بين كلٍّ من فكرة داروين عن تقلبات المادة الوراثية وبين مفهوم مندل للتنوع الجيني يشار إليه غالبًا باستخدام مصطلح «الداروينية الجديدة» أو «الاصطناع الحديث».
وقد حدث على مدى الأربعين عامًا المنقضية اصطناع آخر يعبر عن فهم لعمليات التطور على المستوى الجزيئي. أسفرت البيولوجيا الجزيئية وهي دراسة علم الأحياء من المنظور الجزيئي عن تقدم هائل في معرفة التطور البيولوجي. وتعرف جينات مندل الآن بأنها عبارة عن أجزاء من جزيئات الحمض النووي. وطالما أن البيولوجيا الجزيئية تقدم أكثر الأدلة تفصيلًا عن التغيرات التطورية، فستلقي هذه الدراسة الضوء على الرؤية الحديثة للتطور، ألا وهي التغير في التركيب الجيني للكائنات الحية بمرور الزمن.
تحتوي كل أشكال الحياة على الحمض النووي. وتتشكل صورها وهيئاتها تبعًا لنوع الحمض النووي الموجود بها. كيف يمكن إذن لجزيئات الحمض النووي أن تتغير وتصبح أكثر تعقيدًا وتنوعًا فتكوِّن في نهاية الأمر كائنات حية أكثر تعقيدًا واختلافًا؟ لا مناص — للإجابة عن هذا السؤال — من ملاحظة الظروف التي تؤثر على مثل هذه التغيرات، إلى جانب ملاحظة الطريقة التي يمكن عن طريقها استخدام الحمض النووي المعدل من أجل التوصل إلى كائنات حية جديدة.
التكاثر بواسطة الانقسام
تتوالد الكائنات الحية الجديدة إما عن طريق التكاثر اللاجنسي أوالتكاثر الجنسي. في التكاثر اللاجنسي، تصنع الخلية نسخة مطابقة لها عن طريق عملية مركبة تعرف باسم الانقسام الميتوزي أو التضاعفي. إذن ما مصير جزيئات الحمض النووي الموجودة داخل الكروموسومات أثناء الانقسام الميتوزي؟
لا يعتبر الانقسام الميتوزي عملية يتم من خلالها تكاثر خلايا الكائنات المتعددة الخلايا فحسب، بل هو كذلك وسيلة تتكاثر بها الكائنات الحية البسيطة المكتملة التكوين مثل الأميبا.
يمكن تفسير التنوع بين الكائنات الحية المتعددة الخلايا عن طريق عملية تعرف باسم التمايز، ويحدث بها تنشيط أو تثبيط لأجزاء من الحمض النووي أثناء المراحل المختلفة لعملية النمو. وينتج عن عملية التمايز خلايا متخصصة تؤدي وظائف متفردة. من ثم وبالرغم من أن جميع خلايا جسدك تحتوي على نفس عدد الكروموسومات وهو ٤٦ كروموسومًا (فيما عدا الخلايا الجنسية فتحتوي على ٢٣ كروموسومًا) فإن أجزاء معينة فقط من الكروموسومات تنشط في خلية محددة مما يعطي إشارة بأن خلية جديدة نتجت عن الانقسام الميتوزي، ولتكن على سبيل المثال خلية جلد أو خلية دماغ. تشبه مجموعة الكروموسومات الكاملة مجموعة كاملة من الخطط لبناء ضخم ومعقد. وعلى الرغم من أن جميع المشرفين على هذا البناء لديهم مجموعات الخطط الكاملة فإن كلًّا منهم يهتم فقط بجزء معين من الخطط يتعلق بجزء محدد في البناء.
تكاثر الخلايا بالتزاوج
وعلى الرغم من أن مجموعات الكروموسومات التي أسهم بها كل من الأبوين تتطابق في نوع وعدد الكروموسومات فإنها تختلف في نوع المعلومات المحددة الموجودة بها. مما يعني أن الكائنات الحية التي تتكاثر جنسيًّا لديها آلية مدمجة تمكنها من إنتاج كائنات متنوعة، أي تتحد المجموعتان المختلفتان للكروموسومات لتكوين مجموعة جديدة متفردة. وعلاوة على ذلك ونظرًا إلى أن كل كروموسوم من كروموسومات الخلية التي تنتج الخلايا الجنسية مختلف عن نظيره، فعندما تنقسم مجموعة الكروموسوم نجد أن كلًّا من الخلايا الجنسية يحتوي على مجموعة فريدة من الكروموسومات. ونتيجة لهذا ستكون الذرية المتعاقبة لنفس الآباء متفردة في خصائصها أيضًا.
الكمال ليس من صفات الإنسان
في التكاثر بنوعيه، يكون الحمض النووي لجيل ما مرتبطًا بالحمض النووي للجيل الذي يليه. ولهذا فإن التغيرات في جزيئات الحمض النووي المشاركة في عملية التكاثر تسفر عن تغيرات في الأجيال المتعاقبة للكائن الحي المشارك في تلك العملية. ويُشار إلى التغيرات التي تطرأ على جزيئات الحمض النووي باسم الطفرات. هذه الطفرات تنتج التنوع، ولكن يبقى السؤال: ما الذي يُحْدِث تلك الطفرات؟
تحدث غالبية الطفرات عند نسخ جزيئات الحمض النووي خلال عملية الانقسام الميتوزي. ويطلق عليها اسم «أخطاء النسخ العشوائية». وتحدث الطفرة نتيجة اتحاد الوحدات الثانوية التي يتألف منها جزيء الحمض النووي بترتيب مغاير للترتيب الأصلي، ويحدث ذلك بالصدفة البحتة أو على أساس عشوائي. تحدث هذه الطفرات باستمرار وبشكل طبيعي في أضيق الحدود. وهناك طفرات أخرى تحدث بسبب: بعض الأمراض الفيروسية التي تهاجم المادة الوراثية وتغيرها، والتعرض لجزيئات عالية الطاقة (مثل الأشعة الكونية) تخترق الوحدات المعقدة التركيب محدثة تغيرات فيها، وبعض الأدوية (مثل الثاليدوميد) تتداخل مع الحمض النووي ويغير وظائفه الطبيعية، والتعرض للأشعة العالية الطاقة (مثل أشعة إكس وأشعة جاما) التي تضعف الروابط بين ذرات الجزيئات ومن ثم تغير تركيبها. تملك الكائنات الحية التي تتكاثر جنسيًّا آليات إضافية لإنتاج كائنات متنوعة. أثناء الانقسام الميوزي، قد تتبادل الكروموسومات الأجزاء، مما يؤدي إلى ظهور ترتيبات جديدة داخل مجموعات الكروموسوم.
الطفرات العشوائية + الانتخاب الطبيعي = تطور بيولوجي
- (١)
هل يُنتج فعلًا الكائن الناتج عن الطفرة جيلًا جديدًا يحمل جزيئات حمض نووي فريدة؟
- (٢)
وهل سيطول بقاء هذه الذرية حتى تستطيع الإنجاب؟
يمكن الإجابة عن كل هذه التساؤلات في صورة فرضية.
الفرضية
يمكن تفسير التنوع الحالي لأشكال الحياة عن طريق عملية مكونة من خطوتين: الخطوة الأولى هي الطفرة العشوائية، حيث تحدث الطفرات عشوائيًّا مما يُتيح تَكَوُّن أعداد كبيرة متنوعة من الكائنات الحية. أما الخطوة الثانية فهي الانتخاب الطبيعي حيث إن البقاء للكائنات التي تستطيع الإنجاب، بل والناجحة تكاثريًّا بالفعل، وبهذا تنقل تلك المادة الوراثية للجيل التالي.
حدوث الطفرات العشوائية مسألة حتمية لأنها ظاهرة طبيعية. وكذلك الانتخاب الطبيعي مسألة حتمية؛ لأن أية جماعة طبيعية من الكائنات الحية تنجب عددًا من الأفراد يفوق العدد الذي يمكن أن تدعمه الموارد الطبيعية المحدودة. والكائنات الحية التي جعلتها خصائصها (التنوعات الجينية) أقدر من غيرها على التنافس على هذه الموارد المحدودة هي التي تتمكن من البقاء والتكاثر. وعلى سبيل المثال، تؤدي التغيرات الجيولوجية الطبيعية مثل تحركات الأنهار الجليدية إلى حدوث تغيرات مناخية تتسبب بدورها في انقراض أنواع كاملة إذا كانت جماعات تلك الأنواع تفتقر إلى أفراد ذوي خصائص متنوعة تستطيع التكاثر في ظل الظروف المتغيرة. هكذا، تصبح بعض التباينات التي تنشأ عشوائيًّا في كل جيل سائدة.
التطور البيولوجي تحت الاختبار
- التنبؤ الأول: تتسبب الطفرات العشوائية التي تحدث داخل مستعمرة بكتيرية طبيعية في حدوث تنوعات في
البكتيريا تصبح على أثرها مقاومة لعقار البنسيلين. في محيط خالٍ من البنسيلين لا يكون
لهذه البكتيريا المقاومة للبنسيلين أفضلية عن أي نوع آخر من البكتيريا؛ ومن ثم فإنها
لا
تشكل إلا جزءًا ضئيلًا من المستعمرة. إذا حقنت المستعمرة بالبنسيلين، تبقى البكتيريا
الناتجة عن حدوث الطفرة والمقاومة للبنسيلين حية بينما تهلك البكتيريا الأخرى. وبذلك
يقوم البنسيلين بدور عامل الانتخاب أي إنه هو الذي يحدد أي البكتيريا تبقى حية وأيها
يموت. ونتيجة لذلك تتطور مستعمرة بكتيرية مقاومة للبنسيلين.
- التجربة الأولى: توالدت المستعمرات البكتيرية المقاومة للبنسيلين بعد حقنه في المستعمرة وذلك عن طريق التجارب المعملية.
- التنبؤ الثاني: رغم أن معظم أنواع البعوض تموت عند تعرضها لمادة «دي دي تي»، فإن بعض الأنواع المتطفرة تصبح مقاومة لهذه المادة. وإذا وُجد عدد كافٍ من هذا البعوض المتطفر في مجموعة معينة فستسود مجموعة جديدة من البعوض المحصن من مادة «دي دي تي» بعد إبادة المجموعة الأصلية بهذه المادة.
- التجربة الثانية: أصبحت الآن مجموعات البعوض في عدة أماكن بالعالم مقاومة لمادة «دي دي تي».
وبغض النظر عن تلك السلاسل من التنبؤات والتجارب وغيرها من السلاسل المؤيدة للفرضية؛ يبقى السؤال حول هذه الفرضية بأكملها وهو: هل هذه هي الطريقة التي حدثت بها الظاهرة فعلًا؟ لا يستطيع النهج العلمي الإجابة عن هذا السؤال؛ لأن ما حدث قد وقع دون أن يشهده أحد. لكن مع ذلك يستطيع العلم أن يضع فرضيات لكيفية حدوث الظاهرة ويقبل أبسطها، وهو ما ينتج عنه تنبؤات يدعمها دليل تجريبي. هذه هي قواعد اللعبة العلمية.
تحديث نظرية التوالد التلقائي
مجلدات الأفكار
(٢٧) نظرية القفل والمفتاح في الإنزيمات
(٢٨) الترابط البيولوجي الجيولوجي
(٢٩) ترتيب تطور الحياة
(٣٠) الفيروسات: كائنات حية أم ميتة؟
(٣١) مشروع الجينوم البشري
(٣٢) معرفة قد تكون خطيرة
(٣٣) الهندسة الوراثية: هل هي صندوق بندورة؟
(٣٤) الاستنساخ: نسخ طبق الأصل
(٣٥) الحياة خارج كوكب الأرض