الفصل السابع

منهج العلم

المزيد من الرؤى

«لا يمكن إثبات صحة ما أقول بأي عدد من التجارب، ولكن تجربة واحدة كفيلة بأن تثبت خطأه.»

ألبرت أينشتاين

والآن وبعد عرض وتوضيح أهم خمس أفكار في العلوم، يمكن استخدام هذه الأفكار كأمثلة نستقي من خلالها المزيد من الرؤى حول كيفية تقييم تلك الأفكار العلمية وغيرها. سنعيد النظر في طبيعة كل من الملاحظات والفرضيات والتنبؤات والتجارب، كما سنعيد أيضًا بحث طبيعة العمليات العقلية المستخدمة للانتقال من مرحلة إلى المرحلة التي تليها.

الملاحظة مقابل التجربة

الملاحظة والتجربة هما «الحقيقتان» اللتان تقوم عليهما الفرضيات العلمية. وعلى الرغم من أن مرحلة الملاحظة تسبق مرحلة صياغة الفرضية وأن مرحلة الإخضاع للتجربة تأتي بعد مرحلة التنبؤ، فإن الأمر يختلف عندما تكون هناك حاجة إلى تعديل فرضية ما، إذ إن التجارب عندئذٍ سيُتعامل معها على أنها ملاحظات تؤدي بدورها إلى الفرضية المعدلة.

fig68

يتطلب كل من الملاحظة والتجربة قياسات صحيحة ومحددة للواقع المادي الملموس. تلك القياسات ينبغي أن يكون من السهل أن يعيدها أي شخص يجري التجربة ممن يحظون بالقدر المناسب من التدريب. على سبيل المثال، احتاج إثبات صحة الفرضيات المتعلقة بتكوين الأرض ونشأة الكون إلى القياس الدقيق لكثافة صخور سطح الكرة الأرضية ولكثافة الإشعاع الخلفي المخترق للكون.

من الملاحظة إلى الفرضية

يتطلب الانتقال من مرحلة الملاحظة إلى مرحلة صياغة الفرضية تمثيلًا للحقيقة المادية والتعبير عنها باستخدام رموز مثل الأحرف أو الأرقام أو الكلمات كما هو موضح بالشكل (٧-١). على سبيل المثال: إن كلمة «كوكب» المشار إليها في الفرضية السديمية ليست «كوكبًا» في حد ذاتها، وإنما تمثل لكوكب ما، وبالمثل نجد في المعادلات الرياضية أن الحرف ط يرمز إلى «الطاقة».
fig69

عبر الرسام السريالي البلجيكي رينيه ماجريت عن ذلك في لوحته الفنية الشهيرة التي حملت عنوان «هذا ليس غليونًا». الغرض من هذه اللوحة الفنية هو أن يعي الناس أنه لا ينبغي الخلط بين الصورة أو النموذج وبين أصل الشيء الذي تمثله هذه الصورة. بعبارة أخرى أراد ماجريت أن يقول لنا إن الأصل والصورة ليسا شيئًا واحدًا (تعد لوحة ماجريت نوعًا من الكاريكاتير التحليلي، وقد أضاف إليها عالم الفيزياء تشارلي وين سطرًا جديدًا … على أي حال لن نخوض في هذا ولنترك من الآن فصاعدًا مهمة الرسومات الكاريكاتيرية لسيدني هاريس!)

fig70
شكل ٧-١: من مرحلة الملاحظة إلى مرحلة صياغة الفرضية.

يستخدم مصطلح «التجريد» ليشير إلى استخدام الرموز — مثل كلمة إلكترون — محل العناصر المادية. وأحد أمثلة هذا التجريد هو تحويل عالم الفيزياء نيلز بور واقعًا ماديًّا ملاحظًا وهو الضوء المنبعث من الذرات المثارة، إلى مفهوم وهو أن الإلكترونات توجد في مستويات طاقة منفصلة وواضحة.

يتطلب تشكيل الفرضية غالبًا وضع صيغة «عامة» تصف مجموعة من الحقائق «المحددة». هذا النوع من الاستدلال الذي ينتقل بنا من الحقائق المؤكدة إلى التعميم غير المؤكد يسمى الاستدلال الاستقرائي. والاستدلال الاستقرائي بمعناه الأوسع المستخدم في صياغة الفرضية ينطلق من مجموعة من الملاحظات يعتبرها مقدمات منطقية لتأييد هذه الفرضية، لا لضمان صحتها. على سبيل المثال لنفترض أنك رأيت ٤٠٠ سيارة في يوم ما وكانت جميعها تسير على أربع عجلات. يمكنك أن تستنتج أن كل السيارات لها أربع عجلات لكن دون أن تجزم بذلك. إذ إن المرء يستنتج ما تشير إليه الملاحظات ضمنًا. غير أن هذا النوع من الاستدلال يمكن أن يكون مضللًا؛ إذ توجد بالفعل سيارات ذات ثلاث عجلات.

وإليك مثالًا على استخدام الاستدلال الاستقرائي في الكيمياء: تظهر بعض الخصائص الكيميائية المحددة في جميع ذرات الكلور التي وضعها علماء الكيمياء تحت الاختبار، فهي تتفاعل مع الصوديوم مكونة الملح، كما أنها تميل إلى الاتحاد في مجموعات من زوجين لتكوين مادة غازية … إلخ. استنادًا على هذه البيانات افترض علماء الكيمياء أن جميع ذرات الكلور في جميع أرجاء الكون لها هذه الخصائص نفسها. فهل يعد ذلك افتراضًا مضمونًا؟ الإجابة هي بالطبع لا، فعلماء الكيمياء لم يختبروا سوى جزء ضئيل جدًّا من ذرات الكلور الموجودة على سطح الكرة الأرضية، ومع هذا — ويا للعجب — نجدهم يريدون تعميم هذه الملاحظة على الكون كله!

إليك مثالًا آخر على الاستدلال الاستقرائي مستمدًّا من واقع الحياة اليومية: أعتقد أنك كثيرًا ما قمت بعبور الطريق عند نقطة التقاطع توجد بها إشارة المرور، وفي كل المرات التي عبرت فيها الطريق من تلك النقطة لاحظت توقف جميع السيارات عندما يتحول ضوء الإشارة إلى الأحمر. وذات يوم، قررت أن تقدم على مجازفة استقرائية فتنبأت أنه لن تكسر أي سيارة إشارة المرور قط، ثم تقدمت بكل شجاعة لتعبر الطريق. ترجح الاحتمالات أنك ستكون على صواب وسيحدث ما توقعته، ولكن احذر فالعواقب قد تكون مهلكة!

fig71

تمثيل الواقع

عادة ما يعبر عن الفرضيات في صورة كلمات وأرقام ورموز تستخدم كلها لتعبر عن عناصر مادية واقعية. على سبيل المثال يمكن أن نعبر عن فرضية الانفجار العظيم بالكلمات كالآتي: «منذ ما يقرب من ١٥ مليار عام، تركزت كل المادة وصور الطاقة الموجودة بالكون في كتلة واحدة يُشار إليها باسم الكرة النارية الأولية، وتكونت هذه الكرة من … إلخ.»

ويمكن أن تأخذ الفرضيات شكل العلاقات الكمية كما في المثال الآتي الذي يتناول الإشعاع المنبعث من الذرات المثارة: ثمة خاصية للإشعاع تسمى «التردد»، والتردد هو عدد الموجات الضوئية الكاملة التي تمر بنقطة ما خلال ثانية واحدة. وتنص فرضية نيلز بور على أنه عندما يقفز إلكترون ذرة مثارة إلى مستويات الطاقة الأقل، فإن تردد الضوء المنبعث يرتبط بمدى الاختلاف في مستويات الطاقة، إذ كلما اتسعت فجوة الطاقة بين المستويات التي يقفز بينها الإلكترون زاد تردد الضوء المنبعث.

شاع هذا النوع من العلاقات في العلوم إلى حد أنه طورت لغة مختزلة للتعبير عنها، هذه اللغة هي الرياضيات. والصيغة المختزلة لما شرحناه في الفقرة السابقة هي:

حيث = فرق الطاقة (تشير إلى «مقدار التغير في» بينما تشير إلى الطاقة)؛ = ثابت التناسب (الرقم الذي يربط فرق الطاقة والتردد بعلاقة أو معادلة دقيقة)؛ = تردد الإشعاع المنبعث.

تعتبر الرياضيات نوعًا من اللغات بل إنها تكاد تكون لغة عالمية. ولأن اللغات ضرورية لتبادل الآراء حول الفرضيات، فإن الرياضيات مفيدة للغاية للعلم. لكن الرياضيات هي في الأساس لغة تعبر عن العلاقات بين الرموز، و«ليست» في حد ذاتها علمًا؛ لأن العلم يبدأ وينتهي بالحقائق المادية والواقعية. أما الرياضيات فبوسعها أن تكتشف العلاقات المحتملة بين المجردات دون أن تعبأ بما إذا كان لتلك المجردات نظائر في العالم الواقعي أم لا.

ولتوضيح الفرق بين الرياضيات والعلوم، يروي لنا عالم الفيزياء تشين نينج يانج القصة التالية:

ذات مرة كان هناك رجل يسير بأحد الشوارع حاملًا حقيبة بها بعض الملابس، فإذا به يجد لافتة على نافذة إحدى المحلات تقول: «غسيل ملابس: ٥٠ سنتًا للحقيبة». دخل الرجل المحل وسأل عن المدة التي سيستغرقها تنظيف الملابس التي بحوزته، إلا أن البائع فاجأه عندما قال: «معذرة، ولكننا لا نقوم بتنظيف الملابس.» وهنا اعترض الرجل وأشار إلى اللافتة الموجودة على نافذة المحل. أدرك البائع حينئذٍ قصد الرجل وأوضح له الأمر قائلًا: «أجل فهمت. ولكننا لا نغسل الملابس. نحن نخط اللافتات!»

بالنسبة إلى النظام الرياضي لا توجد حاجة إلى الاهتمام بالعالم الواقعي (بالرغم من أنه غالبًا يهتم بهذا العالم).

الفرضيات مقابل القوانين مقابل النظريات مقابل النماذج

يشير مصطلح «فرضية» ضمنًا إلى عدم كفاية الدليل لما هو أكثر من صيغة غير مثبتة. وربما يمكن — بعد تجميع كمية هائلة من البيانات — تلخيص هذه المعلومات على نحو أكثر إيجازًا. نتيجة هذا التلخيص هي «قانون» وهو عبارة عن صيغة لفظية أو رياضية تصف علاقة بين ظواهر (مثال: القانون الدوري للعناصر أو المعادلة ).
تقدم النظرية في بعض الأحيان تفسيرًا للأسباب الأساسية وراء نظاميات قانون ما، (على سبيل المثال يمكن تفسير العلاقة في ضوء النظرية التي تقول بأن هناك مستويات طاقة منفصلة للإلكترونات في الذرات).

كما يمكن أن تتطور النظرية بذاتها؛ أي تكون تفسيرًا مستمدًّا مباشرة من الملاحظات. وهذا هو ما حدث في حالة نظرية التطور. وهكذا يمكن أن تكون النظريات عبارة عن مبادئ توحيدية تفسر مجموعة من الحقائق أو القوانين المبنية على تلك الحقائق. وتأخذ النظريات في بعض الأحيان شكل النماذج، وهي عبارة عن تمثيل للواقع وضِع لتفسير الظواهر، مثل نموذج ميكانيكا الكم للذرة.

من الافتراض إلى التنبؤ

تقدم الرياضيات للعلم خدمة جليلة للغاية؛ إذ إنها تعد وسيلة لوضع التنبؤات المبنية على الفرضيات. لنتأمل مجددًا مثال مستويات الطاقة في الذرة. إذا كان القانون الذي سيوضع موضع الاختبار هو ، فربما تتساءل عن قيمة تردد الضوء المستنتجة إذا علم أن فرق الطاقة يساوي ٦ وحدات طاقة وقيمة هي وحدتا طاقة/وحدة تردد. لا يتطلب هذا الأمر خبرة كبيرة بالرياضيات لحساب أن قيمة المستنتجة في هذه الحالة تساوي ٣ وحدات تردد (٦ وحدات طاقة = وحدتَي طاقة/وحدة تردد × ٣ وحدات تردد). وبالرغم من أن هذا المثال مبسط تبسيطًا مبالغًا فيه فإنه يوضح نقطتين هامتين:
  • (١)
    يتطلب الانتقال من مرحلة الفرضية إلى مرحلة التنبؤ انتقالًا من العام إلى الخاص. وإذا نظرنا إلى المثال السابق نرى التحول من الرمز ذي المدلول العام إلى حالة خاصة له تتضمن ٦ وحدات طاقة، والتحول من الرمز ذي المدلول العام إلى حالة خاصة له تتضمن ٣ وحدات تردد.
  • (٢)

    يمكن معالجة وإعادة ترتيب الفرضيات التي يُعَبَّر عنها رياضيًّا وذلك لإجراء التنبؤات. وفي المثال السابق ذكره حُسبت قيمة التردد المتوقعة للضوء المشع، ولكن الفرضية تشتمل على التردد مضروبًا في قيمة أخرى. وكان لا بد من حل المعادلة للتوصل إلى قيمة التردد وحده.

غالبًا ما تصبح الفرضيات العلمية معقدة للغاية عند التعبير عنها رياضيًّا حيث تتطلب معادلات وعمليات عديدة ومطولة بل قد تتطلب أحيانًا الاستعانة بالحاسوب. تتناول الرياضيات دراسة الطريقة التي تُصاغ وتُعدَّل بها العلاقات الرمزية. أحد أهم إسهامات الرياضيات هو أن التلاعب بصياغة العلاقات الرياضية أتاح ترقية التنبؤ إلى درجة ثبوت الفرضية.

يشار إلى ذلك المنطق الذي تستمد فيه الحقائق المحددة من الحقائق العامة باسم الاستدلال الاستنباطي ويُعتبر جزءًا مُدْمَجًا في التلاعب بالصيغ الرياضية. وإليك هذا المثال البسيط: بالنسبة إلى كل أصابع اليد ( ) والأيدي ( ) فإن عدد الأصابع ٥ أمثال عدد الأيدي. يمكن التعبير عن هذه المعادلة رمزيًّا كالآتي:
إذا كان هناك يدان، (مثال محدد).
ولنضرب الآن مثالًا آخر ولكن باستخدام الكلمات هذه المرة وليس الرموز:
  • يحدث داخل جميع النجوم المشعة اندماج نووي (علاقة عامة).

  • تعتبر الشمس نجمًا مشعًّا (مثال محدد).

  • ولذلك نستطيع أن نقول إن هناك اندماجًا نوويًّا يحدث داخل الشمس (نتيجة محددة).

يسلم الاستدلال الاستنباطي بصحة الصيغة العامة المبدئية. من ثم، إذا كانت الصيغة العامة خاطئة، فسوف تؤدي إلى استنتاج خاطئ:
  • جميع ثمرات البرتقال لونها أرجواني.

  • توجد ثمرة برتقال في ثلاجتك.

  • إذن لون برتقالتك سيكون أرجوانيًّا!

يعد الاستدلال الاستنباطي ضرورة حتمية للانتقال من الفرضية إلى التنبؤ. وذلك لأنه يضمن أن ينقل التنبؤ بدقة صحة الفرضية أو خطأها إلى مرحلة الاختبار النهائي ألا وهي التجربة. هذا التسلسل موضح في الشكل (٧-٢).
fig72
شكل ٧-٢: تحول الفرضية إلى تنبؤ.

الانتقال من التنبؤ إلى التجربة

تتكون الصيغة العامة للتنبؤ من كلمات أو أرقام، ولذا فهي صيغة رمزية شأنها شأن الفرضية. وهذه الكلمات أو الأرقام تُعَدُّ رموزًا «خاصة» بعكس الرموز «العامة» التي تشتمل عليها الفرضية. ونظرًا لاستخدام الاستدلال الاستنباطي في التوصل إلى التنبؤ، يعتبر هذا التنبؤ صحيحًا شأنه شأن الفرضية.

والانتقال من التنبؤ إلى التجربة الموضح بالشكل (٧-٣) يستلزم العودة من عالم الفرضيات والتنبؤات الرمزي إلى عالم الحقيقة المادية، وهي العملية التي تعرف باسم اللاتجريد. لا بد من تحديد المقادير المادية الحقيقية القابلة للقياس التي تشير إليها الرموز. على سبيل المثال إذا استنتج أن تساوي ٣ وحدات تردد فلا بد أن يكون معنى التردد مفهومًا لدى مجري التجربة ولا بد أيضًا من ابتكار طريقة ما لقياس ذلك التردد. يتطلب الأمر مقدارًا كبيرًا من الموهبة لاستنباط ما يعنيه واضعو النظريات وفهم كيف يمكن للمجربين أن يُجروا قياساتهم على نحو دقيق وكامل وموثوق.
fig73
شكل ٧-٣: الانتقال من التنبؤ إلى التجربة.
fig74

تعديل الفرضية (إعادة الخطوات مرة أخرى)

إذا لم تؤيد التجربة التنبؤ، يكون من الواجب حينئذٍ تعديل الفرضية. وتعديل الفرضيات التي لم يؤيدها الدليل الذي حُصِل عليه من التجربة يتطلب اتخاذ قرار مهم وحاسم. هل نعدل فقط الفرضية القديمة تعديلًا طفيفًا لكي تتماشى مع النتائج الجديدة التي حصلنا عليها من التجربة، أم أن الوقت قد حان لصياغة فرضية جديدة تمامًا؟

وحتى لو أيدت التجربة التنبؤ، لا يعني ذلك أن الأمر انتهى عند هذا الحد. لأن التنبؤ والتجربة يعتبران في نهاية الأمر مجرد حالات خاصة في حين أن الفرضية عامة. ولهذا تعتبر كل تجربة ناجحة مجرد تأييد جزئي للفرضية. ولو افترضنا أن عالِمًا ما قام باكتشاف فرضية مطلقة الصحة، فلا سبيل إلى معرفة أنه فعل.

«كل» اعتقاد علمي هو غير يقيني بطبيعته، و«كل» رأي علمي يقف على حافة الخطأ، كما أنه عرضة للمراجعة والتنقيح المستمرَّين. ولذلك يُعَدُّ التعصبُ لنظرية ما أمرًا خطيرًا. إذ لا بد أن يتأهب العلماء للمفاجآت وأن يتقبلوها بصدر رحب.

حقًّا إن العلم هو بحث لا ينتهي عن الإجابات والتفسيرات كما يوضح الشكل (٧-٤).
fig75
شكل ٧-٤: إعادة تصوير النهج العلمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥