قيامة شهرزاد

المشهد الأول

شهرزاد تنهض من رقادها
هذه زهور الرصاص تتفتح في أرواحنا،

وهذا زجاج زمننا يتحطم.

(ينفتح المسرح عن مكان فيه آثار تدمير وخراب، وفي وسطه سرير تنام عليه شهرزاد بكامل حلَّتها وأناقتها، قرب السرير منضدة صغيرة يقف عليها قنديل شمع كبير نسبيًّا.

الظلام يعمُّ المكان وتنطلق صفارات الإنذار وأصوات القنابل والصواريخ والطائرات ويتخلل الظلام أضواء كاشفة حادة متقطعة ثم تنخفض تدريجيًّا الأصوات ويُضاء المكان تدريجيًّا، فيما تتململ شهرزاد في نومها وتقوم ببطء، أولًا، ثم تقوم بسرعة مذهولة وسط كل هذا وتنهض فتوقد قنديلها فيما تكون هناك أصداء أصوات الانفجارات والطائرات ثم عزف شجيٍّ على العود. هامسٌ وبطيء.)

شهرزاد :
مَن أيقظني هذي الساعة؟ مَن؟
لا أعرف كم من الوقت مضى؟
لقد رويت آخر حكاية ونمت ليلة أمس، تأخرت في السهر حتى نمت بعمق.
كم من الوقت مضى؟ وما هذه الأصوات؟
ما هذا القرعُ المتصل للطبول؟ أهي طبولٌ أم ماذا؟
ثم أين أهل القصر؟
أين الحاجب؟ (تصفق بيديها.)
أيها الحاجب … أيها الحاجب …
لا أحد … حسنًا، أين شهريار؟
شهريار … شهريار …
أين ذهبوا؟ لا شك أن الوقت ما زال مبكرًا سأعود للنوم.
(تحاول النوم لكنها لا تستطيع فتقوم فزعةً.)
شهريار … شهريار …
لا أقوى على فهم هذا … نمتُ، هل نمتُ ولم أُكمل الحكاية الأخيرة؟ نمت الآن، سيذبحني شهريار، لا … يا شهريار … لا … لا تذبحني أرجوك.
أوَّاه … ذهبتَ لتجلب سيفًا، أين ذهبت؟
هذه طبول الموت … نعم أسمع طبولَ الموت.
شهريار … سأروي لك ما تبقى، ولكن لا تقتلني.
لقد تعبت من سهر الليالي … ولكن حسنًا … حسنًا.
شهريار … شهريار.
أرجوك أن لا تفعلها. لقد قصصت عليكَ ألف ليلةٍ ولم أتعب وها أنا قد استيقظتُ لأروي لك الليلة الأولى بعد الألف،
بل سأقصُّ عليك المزيد … سأقصُّ ألف ليلةٍ جديدةٍ إن شئت.
آه … يا شهريار … أين ذهبت؟
(تتنصت وتسمع قرعَ طبولٍ آتيًا من بعيد.)
هذه طبول الموت … نعم أسمعُ طبول الموت.
شهريار … اسمعني أرجوك!
حسنًا عُد … عُد وافعل ما تشاء … افعل كل ما يحلو لكَ.
اقتلنا … اقتلنا كلَّنا أو … أو استبدلنا. استبدلنا جميعًا.
واجلب شعبًا لكَ من أماكن أخرى.
لا تتركني لهذه الليلة الموحشة.
لا تتركني لهذا القرع المتصل … لهذا الغبار … الدوي.
عُدْ … وليعد ما يذكرِّني بقصري ودجلتي وسريري،
ولأجل أن تصدق سأمضي برواية الحكاية القادمة فاسمعني.
بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأي الوحيد،
بلغني أيها الملك الشديد ذو الرأي العنيد،
بلغني أيها الملك الرشيد
ذو الرأي التليد والحرس العتيد،
بلغني أن جيشك الحديد …
عفوًا … عفوك يا مولاي
لا أجد! … لا أجد الكلمات التي تناسبك، عفوك، عفوك.
لقد كنتَ في قصورك ولم نعرف ماذا كنت تفعل هناك،
وكنت أنا في طرف شرشفك مثل قشَّةٍ،
ألم تسمع كل هذا الدوي؟
ألم تستيقظ بعد؟
ولماذا هذا الليل الطويل؟
نتوسل بالشمس أن تظهر ولكنها لا تفعل.
ننحرُ لها القرابين والأبناء والأموال والسنين لكنا لا تظهر …
ما الذي بوسعنا أن نفعله؟
ما الذي بوسعكَ أن تفعله معنا؟
(تخرج خارج القصر وتُذهل من مشاهدة ضحايا القصف ثم تذهب وتتجول بين جثث القتلى والجرحى.)
مَن قتل هؤلاء الناس؟
كيف سقط كل هذا الجمع من النساء والأطفال؟!
الدخانُ يملأ المدينة … الرماد يحيطُ بيوتها.
هذه زهور الرصاص تتفتح في أرواحنا،
وهذا زجاج زمننا يتحطم.
كرةٌ من غبار على هامةِ الطفل؛
كرةٌ على كل معنًى عرفناه
كيف نلمُّ هوانا من الشوارع؟!
كيف نشيل ذكرياتنا؟!
(تبدأ زينة شهرزاد بالسقوط تدريجيًّا فيسقط الإكليل ثم الوشاح ثم العباءة، وتأخذ شمعدانها وتركض في أركان المسرح نادبةً.)
تكاد السماء تسقط على الأرض،
تكاد العيون تنمحي.
قمرنا يتحطم وبيوتنا تخلو من الرجال.
لماذا كل هذا العذاب؟ لماذا؟
لقد تركتُ الناسَ في دعةٍ وهدوءٍ،
ورفَّت عليهم حمامات وردٍ وطار بهم زمن عجيب.
فلماذا يموتون الآن أيها الملك؟
لماذا ينامون تحت ظلٍّ كثيفٍ من الدم والخوف والجوع؟
وأنتِ يا زينتي كيف تكونين معي وأنا هنا؟
(تنزع ما تبقى من زينتها — القلائد والخواتم والأساور — وترميها، ثم تأتزر وتأخذ شكل امرأة عراقية بملابس سوداء، وتبدأ بقطع ملابسها الأولى وتضميد الجرحى والمصابين ونقلهم على سريرها.)
مَن مزق أجساد الناس؟
مَن خضَّب أحلامهم بالدم؟
مَن فتح عيون الموت عليهم … مَن؟

المشهد الثاني

البتول
لكنَّا هنا متنا.

وماتت شمعةٌ فينا وما عاد الصباح.

(تمسك شهرزاد إبريق الماء وتسقيهم وهي تبكي وتردد كلامها.)

تخالني عمياء أيها الملك السعيد؟
تخالني غانيةً لاهيةً عن ما تفعله بنا؟
لقد عرفتكَ عن كثب،
ودخلتُ في عروقك عن كثب.
أنتَ تتبجح علينا بحبِّ بغداد وحبِّ أهلها،
لكنكَ تكرههم في أعماقك وتضمر لهم الشرَّ.

(وبينما هي تضمد الجراح وتتفقد الناس الجرحى والقتلى تعثر على امرأة حيَّة جريحة بينهم فتسقيها الماء وتضمد جروحها، فتستفيق هذه المرأة شيئًا فشيئًا، وتأخذها الدهشة فيما هي فيه وما حولها وتنظر في وجه شهرزاد وكأنها تعرفها (اسمها البتول).)

البتول :
مَن أنتِ؟
وأين أنا؟
وما الذي جرى؟
وكم مضى على رقادي هنا؟
شهرزاد : اطمئني … أنتِ الآن في أمان، وأنا ابنة بلادكِ أسهر على ما تطلبين … ما اسمك؟
البتول :
اسمي؟ آه … نسيته.
لكنه يذكِّر بشيء جميل … آه … آه.
البتول : ما اسمكِ أنتِ؟
شهرزاد : أنا شهرزاد.
البتول : وأنا البتول.

(تبدأ البتول بالترانيم وبالترتيل والغناء العميق):

من أين أحكي
كي تكون حكايتي عبرًا؟
من أين أبدأ
أستعيد حضورهم؟
من أينَ الشمال؟ لكي نهبَّ مداخنًا.
من أين الجنوب؟ لكي نزنِّر خصرنا بالماء.
من أين؟
كي تمضي الحكاية في اشتعال حكاية أخرى.
من أين عيني؟
كي أسدَّ شقوقنا في الأفق.
ولكي أقصَّ دموعنا وخرابنا.
من أين جمرة مائنا؟
أسقي بها النهرين.
أسقي وردةً في الروح.
من أين منجمنا؟
أمدُّ يدي إليه
لأرى بقية ما تناثر من جهات.
من أينَ؟
لكنَّا هنا متنا،
وماتت شمعةٌ فينا،
وما عاد الصباح
يتلو علينا شمسهُ،
وأضاعنا المعنى وغنينا طريق التيه دمًا مباحًا،
وتسخَّمت وتلطَّمت أقدامنا.
وروت سنين الموت ما حصد السلاح.
شهرزاد : احكي لي ماذا جرى أيتها البتول.

(تذهب إليها وتقودها إلى ما يشبه الأرجوحة وتطلب منها الكلام.)

البتول : انفتح علينا جهنم الحروب، ففقدتُ ولدي في الحرب الأولى وضاع زوجي مفقودًا فيها … وعشتُ وحيدةً مع ذكرياتي لا أرى غيرها … حتى تعرضنا لهذا القصف ولم أعد أعرف شيئًا.
شهرزاد : وهل هناك أخبارٌ عن زوجكِ؟
البتول : نعم سمعت أنه قد يعود هذه الأيام من الأسْر.
شهرزاد : سننتظره معًا.
البتول : يا إلهي هذه ليست بغداد … سُحنات أهلها ليست كما هي.
شهرزاد :
وأنا مثلك مستغربةٌ؛
ثمة مجنون يصرخُ فيها،
ومدججون تغيبهم أفكارٌ غريبةٌ.
البتول :
متى تتعطرين يا بغداد؟
متى تملئين الدنيا غناءً؟
شهرزاد : حتى عندما كنتُ مع شهريار كان السيفُ مشهرًا في خاصرة الأغاني.
البتول :
لماذا لا تطلبين من شهريار أن يوقف هذه الحروب؟
لماذا لا تجعلينه ينسى الموت والقتل.
شهرزاد :
أين هو شهريار حتى أتكلم معه؟
أفقت اليوم وبحثتُ عنه في القصر فلم أجده،
وبحثتُ عنه في الشوارع والبيوت ولم أجده.
البتول : وأين ذهب؟
شهرزاد : لا أعرف.
البتول : يمكننا أن نبحث عنه أنا وأنت … لكي نوصل له رسالتنا لا بد من ذلك.
شهرزاد : نعم … تعالي نبحث.

المشهد الثالث

كرسي الملك
كيف تركتَ الناس يتساقطون في الشوارع ودفنت نفسك، خوفًا، على عرشك هذا.
(شهرزاد مع البتول تبحثان في أرجاء المكان عن ما يشير إلى وجود شهريار، عن آثاره أو أغراضه، وبعد عناء البحث تذهبان إلى مصطبة بشكل حرف L وتنامان عليها بحيث يكون رأس كلٍّ منهما في زاوية الحرف قريبين.)
شهرزاد : لا أحد يعرف أين اختفى؟
البتول : ربما اختبأ في أحد الملاجئ من القصف!
شهرزاد : وربما هرب!
البتول : أقداحنا سقطت من مشاجبها وتحطمت وحقولنا ذبلت قاماتنا ملأت الأفق دمًا وعويلًا وهو في وكره لا يعرف ماذا جرى لنا.
شهرزاد : لماذا يسقط كل هذا المطر الأسود؟ لماذا يشطف الناس الدمَ من شوارعهم ليل نهار؟ لماذا يجوعون؟ لماذا ينثرون رماد أيامهم في متاهات الزمن؟ لماذا يتساقطُ سربُ الطيور فوق المياه؟ لماذا يتشقق تاريخ أحلامنا وهوانا؟
لماذا يطوفون في ليل أحلامهم كالأشباح؟

أسئلة كثيرة لا أحد يجيبني عليها.

لماذا لا أسمع شاهدًا من هذا العصر؟

(يظهر صوت رجالي وهو يغني القصيدة الآتية: شاي العصر.)

البتول : حتى حناجرنا تمزقت من البكاء … أو من الهتاف (تضحك).
شهرزاد : كان لا بد من الوقوف بوجهه … كان يريد أن يفترسكم جميعًا.
البتول (تنهض وتذهب نحو الجدران) : لا تتكلمي هكذا حتى الجدران لها آذان تسمع … أرجوكِ أن تكُفي.
شهرزاد : لن أكفَّ … لقد وقفتُ بوجهه عندما أغويته بالحكايات وجعلت سيفه في غمده … والآن لا بد من مكاشفته، لا بد أن أصرخ بوجه شهريار.
البتول (تتحسس الجدران التي تقف عندها بعفوية وتعثر بالصدفة على حلقةٍ تحت غطاء فتصرخ) : ما هذا؟ ما هذا يا شهرزاد؟ تعالي هنا وانظري هذه الحلقة المتدلية هنا.
شهرزاد (تهبُّ نحوها وتحاول تدبر الأمر) : لا بد أنه يختبئ خلف هذه … لا بد أن نعثر عليه.
البتول : يمكننا أن نجر هذه الحلقة بحبلٍ لنعرف ماذا يختبئ وراءها … سأجلب ذلك الحبل.

(تجلبان حبلًا وتربطان به الحلقة وتجرَّانها بصعوبةٍ ثم يظهر شيئًا فشيئًا ما يشبه الصندوق، وتجرَّانه فيتوسط المكان. وتنظران إلى الفتحة التي تركها وراءه فلا تجدان نفقًا أو شيئًا وتتقدمان نحو الصندوق.)

شهرزاد : إذن لا شيء بعد هذا الصندوق … قد يحملُ هو لنا المفاجأة.
البتول : لا تفتحيه يا شهرزاد … لا تفتحيه أرجوك.
شهرزاد :
لماذا؟
اسمعي أيتها البتول … لا بد لهذا اللغز أن ينكشف، وأعرف ما الذي يجري وما الذي جرى.
البتول : ألا تخافي من المفاجأة؟
شهرزاد :
وهل هناك مفاجأة أكبر مما جرى للبلاد؟
قد يحل ما موجود هنا لغز الذي جرى.

(تنزعان عن الصندوق ما أحاطه من الأغطية ثم تفتحان الألواح الخمسة بآلة فيتبقى لوح القاعدة وإذا به يخرج عن كرسيٍّ فخم هو عرش الملك شهريار ولكنه عرش معاصر حديث يجلس عليه القادة مغطًّى بقماش وتتدلى من تحت قدمان، فتفزعان وتتراجعان إلى الوراء خوفًا ودهشة.)

البتول : هذا هو اللغز
شهرزاد : نعم، الكرسي … العرش.
البتول : وقد يكون هذا هو شهريار!
شهرزاد :
بل هو بعينه.
إذن فقد اختبأت في كرسيِّك يا شهريار.
تخاف عليه! تخافُ على نفسك!
البتول : رفقًا بنا مولاتي.
شهرزاد :
بل أنا أُشفق عليه.
كيف تركتَ الناس يتساقطون في الشوارع ودفنت نفسك، خوفًا، على عرشك هذا؟!
كم من الناس ماتوا كيلا تموت أنت!
كم من الأطفال احترقوا ليبقى عرشك أخضر!
البتول (خائفةً) : مولاتي
شهرزاد :
منذ ألف سنةٍ وأنت تسمع حكايات عذابنا ولا يتحرك لك جفن،
هل لا بد من العروش لكي تزدهر الدنيا؟
سأزيحُ عنك غطاءَك لأكشف حقيقتك.
البتول : لا … لا يا مولاتي أرجوكِ.
شهرزاد :
بل لا بد من هذا.
(تزيح شهرزاد غطاء العرش وتدريجيًّا فتظهر دميةُ رجلٍ تجلس عليه وهي بلا ملامح وتمسك صولجانًا فخمًا.)
آه. يا إلهي … ما هذا؟
لقد أوجعتنا حقًّا
أنت دميةٌ بلا شك
لقد هربت إذن وتركتَ دميتكَ على عرشك.
البتول :
أعانكِ الله يا بلادي
أعانكِ الله
(يظهر صوت العود ثم صوت المغني وهو يغني ويرتل هذه الترتيلة):
اليومَ لا حكيٌ … ولا قصٌّ
ولا كلام مباح.
اليوم لا شمس ولا فجر ولا يقوم الصباح.
اليوم طعن الكبود
على الذي تبدَّى،
على غياب الشهود.
اليوم يا بغداد
فرت بكِ الجيادْ.
اليوم يا بغداد
نبكي دمًا رمادْ.
نبكي … وما مَن يسمعُ الأنين.
ما مَن ينظرُ الحداد
اليوم يا بغداد.
نبكي على الإخوان والأولاد.

المشهد الرابع

سحر الصولجان
أسئلةٌ تحفرُ حاضرنا وتدميه.
البتول :
كئوسنا سقطت من مشاجبها وتحطمت.
حقولنا ذبلت.
قاماتنا تملأ الأفق دمًا وعويلًا.
شهرزاد :
لماذا يسقط كلُّ هذا المطر الأسود؟
لماذا يشطف الناسَ الدم من شوارعهم ليل نهار؟
لماذا يجوعون؟
لماذا ينثرون رماد أيامهم في متاهات الزمن؟
لماذا يتساقط سرب الطيور فوق المياه؟
لماذا يتشقق تاريخ أحلامنا وهوانا؟
لماذا يطوفون في ليلهم كالأشباح؟
البتول :
أسئلةٌ كثيرة لا أحد يجيبنا عليها.
أسئلةٌ تحفرُ حاضرنا وتدميه.
شهرزاد :
سيوفٌ قطَّعت جسد بغداد،
وعفاريت سكرت في حقولها.
سقط الناس كالثمار قبل نضوجها،
والشيوخ ندبت شبابها، والعجائز بكينَ على أحفادهن،
وطالت ساعة الخلاص.
ما هذه الغبرة؟ ما هذا العجاج؟
ما لبغداد غاطسة في الحديد وفي الزرد؟
البتول : مولاتي … تأملي هذا العرش … وهذه الدمية … وهذا الصولجان ألا تشبه قبرًا؟
شهرزاد :
نعم … تشبه القبر،
وبغداد اليوم كلها مقبرة كبيرة.
البتول : ماذا لو أنزلنا هذه الدمية إلى هنا وعرفنا ما بها؟
شهرزاد : سنفعل.

(تصعدان إلى الكرسي وتحملان الدمية وتنزلان بها إلى خشبة المسرح وتضعانها على المصطبة وتضحكان طويلًا … وحين تحركان أطرافه ورأسه يزداد ضحكهنَّ.)

البتول : شرُّ البلية ما يضحك يا مولاتي.
شهرزاد : كم يحتمل هذا العالم السخرية رغم قسوته وعذابه!
البتول :
ماذا دهى الناس تخافُ من هذه الدمية؟
كيف مرَّت علينا هذه الأفلام،
وسهرنا لأجلها طويلًا؟
شهرزاد : اصعدي أيتها البتول إلى هذا العرش.
البتول (باستغراب) : كلا … كلا يا مولاتي. أخاف منه ويصعب الصعود إليه.
شهرزاد : لا عليكِ … اصعدي فقط، وسأقول لك ماذا ستفعلين.

(تصعد البتول بخوف وتردد وتقف عنده فتشير لها شهرزاد بأن تجلس عليه … فتحاول أن تفعل ذلك وهي خائفة. ثم تجلس عليه ببطء فتنتابها مشاعر غريبة، وتضحك شهرزاد وتشير لها أن تمسك الصولجان فتمسكه برهبةٍ وخوف، وحين تقبضُ عليه بقوة تشعر بسحر يسري في جسدها فتبدو كما لو أنها تنتفخ وينتابها شعور بالعظمة والزهو وتتصرف كما لو أنها ملكةٌ مستبدةٌ … وكما لو أنها شيطانة الموت يجري هذا المشهد الصامت ببطء وبتقنية البانتومايم.)

شهرزاد (باستغراب) : ماذا جرى أيتها البتول؟ ماذا جرى؟
البتول (ترفع الصولجان نحو شهرزاد وتأمرها بالانحناء والخضوع وتخاطبها بصوت فخم) : اركعي على ركبتيك وأظهري أمارات الطاعة.
شهرزاد : ماذا؟
البتول (وقد سرى سحر الصولجان فيها) : افعلي ما آمركِ به.
شهرزاد : لا شك أنك قد جننتِ.
البتول (تصرخ بقوة) : اركعي لي.
شهرزاد (تركع وهي غير مصدقة) : مولاتي.
البتول (تقف وبيدها الصولجان) : كلُّكم تحت أوامري … كلُّكم.

(بعد صمت طويل تتسلل إلى الكرسي وتنتزع بعد صراع مع البتول الصولجانَ من يدها … وتفك عنها السحر، وترمي الصولجان، فتعود البتول تدريجيًّا إلى حالتها، وتقودها شهرزاد إلى الأسفل برفق وينطلق صوت المغني وهو يرتل):

كم كنتُ أخشى أن تضيق معابري،
وأرى رمادًا في عيون البحر،
وأرى ملائكة تعرِّش في اختلاط الطين!
كم كنتُ أخشى أن يخيطَ أيامي الجنون!
وكم ضاعَ الطريق،
لأرى طريقًا لا يدل،
وعازفين ممزقين،
وأرى كمنجات تؤلف مسلخًا.
كم كنتُ أخشى أن أرى قمري يموت.
فأستعيد مدائح
لأعيد تاجًا كاذبًا،
وكم لمعت عيوني
وأنا أرى رتلًا من العشَّاق تشعله بروق!
ثم ينتفضون في أصدافهم
خوفًا وينهمرون كالأمطار تحت دثارهم،
يحكون بعض عزائهم في التاج،
بعض عزائهم في الوهم؛
كي تلد الجهاتُ قفى الجهات،
وأنا أجرُّ قبورهم
وأعيد دفن دموعهم بين الرفاتْ.

المشهد الخامس

عاد ومات
سأضع على جروحكَ وردًا.

(صوت غارة جديدة وأصوات انفجارات ومدافع وصفَّارات إنذار، شهرزاد والبتول تختبئان خوفًا من القصف، وحين يهدأ القصف تظهران بحذر أمام منظر القتلى في الشوارع وتبدآن بإسعاف المصابين بالماء والضماد والتفقد.)

شهرزاد (وهي تقطع جزءًا من ثيابها) :
المزيد … المزيد من القماش لأُضمِّد الجروح!
المزيد من المطر لأنظِّف أوساخ الحرب!
المزيد من الرياح لأبدِّد دخان الحروب
أين أناس حكاياتي يلمُّون الشظايا والحطام؟
أين علاء الدين والسندباد وقمر الزمان وورد الزمان؟
أين الحسن البصري؟ وأين عجيب وغريب؟
تعالوا ولمُّوا أمشاط البنات الميتات؟
تعالوا ولمُّوا دمى الأطفال الملطَّخة بدمائهم.
تعالوا ولمُّوا دفاترهم وأقلامهم …
تعالوا ولمُّوا حكايات العجائز …
تعالوا ولمُّوا الخرز والأواني والسماء التي سقطت هنا وهناك.

(تمشي هي والبتول بين الضحايا، وتنتبه البتول إلى جثةٍ معينةٍ وتهبُّ نحوها.)

البتول :
من هذا؟ جثة من هذه؟ (تقلبها.)
يا إلهي … يا إلهي (تصرخ)!
نعم … هو!
شهرزاد : من هو؟
البتول :
هذا زوجي … آه!
لقد عاد إليَّ اليوم كما قالوا لي، ولكنه تمزَّق تحت هذا القصف.
شهرزاد (تهبُّ نحوها وتحتضنها) : اهدئي … اهدئي.
البتول :
هو أهلي وروحي …
نسل خضرتي وشمس حياتي.
لم يبقَ لي أحد سواه.
هو الذي لم يعد يستحم بدجلة.
هو الذي مزَّقوه.
شهرزاد : تعالي نضمد جراحه … ربما يكون حيًّا.

(تذهبان نحوه وتقلبانه وتسقيانه ماءً وتلفَّان الأضمدة على جراحه في محاولة لإنقاذه.)

البتول :
ماذا يمكن أن نفعل له؟
وقع قلبي …
وقع قلبي هنا وهناك.
في المكان الذي أعطاني فيه المطر والزرع.
من حبيبتكَ؟ أنا حبيبتكَ.
من أمكَ؟ أنا أمكَ.
من أختكَ؟ أنا أختك.
قُم يا حبيبي … قُم.
قُم يا روح الماء … وروحي.
شهرزاد :
قلبه طافحٌ بالدموع.
وقلبُ البلاد يسيل دمًا.
البتول :
أيتها الأشجار ابكي من أجله.
أيتها الأنهار ابكي.
حين قادوه إلى الحرب صرخَ الشمس وقال لها:
ضعي أجنحة فوق أكتافي
لكي أبتعد عن ظلامها،
ودعيني أقبِّل بشفتيَّ الأطفال قبل أن يموتوا.
شهرزاد : دعينا نسقي جسده علَّه يقوم.
البتول :
لا ينفعُ. لا ينفع
ماذا أفعلُ لكَ؟
من سيحرث حقلي؟
من سيبذر بذوري؟
من سيسبح في نهري؟
من سيرعى الزرع؟ من سيحصده؟
شهرزاد : تعالي أيتها البتول … خذي هذا الخيط وهذه الإبرة وسآخذ الخيط والإبرة معكِ، وتعالي نخيط جسد زوجكِ المقطَّع … تعالي نعيد لحمَ أجزائه.
البتول : نعم … نعم أخيطُ جسده. أخيطه معك.

(تبدأ شهرزاد والبتول بخياطة جسد الزوج القتيل بتمهل وحركات تدل على الندب والرثاء والنواح … ودموعهن تتساقط.)

البتول :
أخيطه بدمعي … أخيطه بشمعي …
أخيطه بالحنة …
أخيطه بماء الورد … أخيطه بالحنطة …
أخيطه بالمطر …
لا … لا … يصعب أن أفعل، سيؤلمكَ. ستؤلمك الدموع.
سأضع على جروحكَ وردًا.
سأضع قطعًا من السماء … وأخيط.
شهرزاد :
جئتك من عصرٍ بعيدٍ … ورأيتكَ هافتًا.
قتلوك … قتلوكَ أعوان الموت.
جئنا نمسح غباركَ … جئنا نُذهِّبُ صايتك … جئنا نداوي.
البتول (وكأنها تعزِّم وترقي جسده) : البردُ والحالوب … والشوك والخرنوب … ينتظرُ الأولاد، سيذهبون مرةً أخرى إلى الحروب.
شهرزاد : جئنا نذكِّركَ بأخواتك الحلوات تركتهنَّ وراءكَ ومضيت الآن يمرغن قاماتهم (قاماتهن) بالطين.
البتول : هل تذكر حين نثرتَ الماء علينا؟ ضاعَ الماء وضعتَ. قُم يا حبيبي. حضَّرت لك أحلى الكئوس، حضرتُ لك أشهى الطعام.
شهرزاد : راح موفِّر الطعام … راح ساقي الأرض … راح … راح الذي بإطلالته تتفتح القلوب.
البتول : كم خطنا أجسادنا! كم خطنا أكفان أولادنا! كم خطنا الأحزان … كم خطنا القلوب! كم!

(وبينما تستمران بخياطة جسده وسط نواحٍ وبكاء تنطلق أغنية المغني وتراتيله):

راح الذي ردناه للشدَّة.
راح العزيز الغالي.
راح الذي شتلاته وردة.
راح الحبيب العالي.
لا … لن يعود.
لم يبقَ غير الليل
وبه يطوف الناسُ كالأشباح،
ودَّع بعضهم بعضًا،
وخاطوا الرأس علَّ جروحهم تُشفى،
وخاطوا الحلقَ علَّ كلامهم يشفى،
وخاطوها لكي يبقوا،
خاطوها لكي يفنوا،
خاطوها،
وخاطوها،
وما زالوا …
(ختام)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥