بيان من الكتَّاب والأدباء
نحن، الكتاب والأدباء الموقعَّين على هذا البيان، قد رأينا من واجبنا أن نعاون الدولة فيما تقوم به الآن هيئاتها الرسمية من تقصِّي الحقائق في حالة الاضطراب التي بدت بوادرها الآن في بعض الأحداث الجارية، يدفعنا إلى ذلك إيمانُنا بوطنية رئيس الدولة، واعتقادًا منا أن في استطاعته الإمساك بالزمام للسير بالبلاد في طريق محفوف بالمخاطر، تهبُّ عليه الزوابع اليوم من كل جانب، ويحتاج إلى الحكمة وسداد الرأي؛ لتجنيب الوطن ويلات الشَّطط، وتوجيهه إلى حيث يجد نفسه ويؤكد شخصيته ويسترد قوته. ولما كان من خصائص الكتَّاب والأدباء، بحكم رسالتهم في الأمة، أن يكتشفوا باطنها ويستشفُّوا ضميرها، في حين أن مهنة الصحافة هي تحرِّي أخبارها، ومهمة الهيئات الرسمية هي تقصِّي حقائقها من واقع حوادث معينة قد تكون مجرد بثور خارجية لمرض دفين، ودخان ظاهري لنيران تتأجج تحت رماد … لذلك كان علينا، نحن الكتاب والأدباء، أن نكمل الصورة ونقدم المعونة بإبراز ما استتر واستخفى مما يعتمل الآن ويضطرم في باطن الأمة وضميرها. وليس ذلك فقط لمجرد استكمال عمل تقوم به الهيئات الأخرى، ولكنه أيضًا للخشية من أن يُهمَل أمر هذا الغليان الذي يفور في نفوس الناس، فيجد طريقه في أي لحظة إلى الانفجار وتقع الكوارث. وذلك أنه مما لا شك فيه لدينا أن البلد يغلي في الباطن على نحو لم يعُدْ يخفى على أحد. وقد لا يعرف كل الناس تعليلًا لما يشعرون به من قلق واضطراب وغليان داخلي، وقد يُبدي البسطاء من الناس والأبرياء من الشباب تعليلات مختلفة، يسوقونها بغير تفكير أو تمحيص، ويرددونها في أحاديثهم ويضعونها في منشوراتهم، وهذه التعليلات أو المطالب أو الاحتجاجات قد تبدو في أغلبها سطحية أو غير ناضجة أو مدروسة، ولكن تبقى الحقيقة التي لا شك فيها وراء كل هذا، وهي شعورهم جميعًا بأنهم قلقون لشيءٍ ما، وأنهم ما عادوا يحتملون ما هم فيه من إحساس بالضياع. والآن ما هو منشأ هذا الإحساس العام بالقلق والاضطراب والضياع في نفوس الناس؟ لعل السبب الأهم في ذلك هو عدم وضوح الطريق أمامهم. فالصيحة المرتفعة في كل حين بكلمة المعركة، وأن الطريق هو المعركة، كان من الممكن أن يكون هو الجواب على أسئلتهم والطريق الواضح أمام أعينهم. وهذا لا شك ما أرادت الدولة أن تقدمه كجواب أو مصباح لوضوح الرؤية في طريق المستقبل المعتم. ولكن مع الأسف تمضي الأيام وتصبح كلمة المعركة مجرد كلمة غامضة لا حدود لها ولا أبعاد لمعناها ولا تحليل لعناصرها. مجرد كلمة تَلوكها الأفواه، مستهلَكة؛ لكثرة مضغها، ويصبح الناس ويمسون وهذه الكلمة تُردَّد على جميع النغمات في الأناشيد والأغاني والخطب والشعارات، حتى فقدت قوتها وفاعليتها، بل وصدقها، وصارت اللقمة الممضوغة في الفم غصة، لا هم يستطيعون ابتلاعها ولا هم يجرءون على لفظها. وأصبحوا في حيرة من شأنهم، وأصبح طريق المستقبل أمامهم مرة أخرى مسدودًا، وهم في ضياع … ولما كان الشباب هو الجزء الحساس في الأمة، وهو الذي يعنيه المستقبل أكثر من غيره، فهو لا يرى أمامه إلا الغد الكئيب. فهو يجتهد في دراسته ليحصل على شهادته النهائية، فإذا هي شهادة القذف به في رمال الجبهة لينسى ما تعلمه، ولا يجد عدوًّا يقاتله. وهذا أيضًا بالنسبة إليه هو الضياع … أما بقية المواطنين فهم يعيشون في حياة صعبة سيئة الخدمات العامة. وكل نقص أو إهمال أو توقف أو عبث يختفي خلف صوت المعركة، وفي انتظار المعركة، وتمحُّكًا بالمعركة. وإذا بالأمر في نظرهم ينقلب إلى مهزلة وإلى سخط وإلى قرف عام.
هذا بعض ما استقر في الضمائر هذه الأيام. ولا بد من حل سريع لهذا الوضع. ولا يمكن أن يكون هناك حل إلا في الصدق. والصدق وحده؛ لأن الصدق هو الذي ينهي الحيرة ويقنع الناس ويهدئ النفوس؛ لأن الغليان في باطن الإناء يهدأ إذا كشف الغطاء … الشعب يريد أن يقتنع بشيء لأنه غير مقتنع … ولا بد لراحة باله واقتناعه من عرض حقائق الموقف أمامه واضحة من كل جوانبها، وعليه هو أن يقدَّر وأن يعرف ويختار طريقه. وهذا يقتضي النظر في تغيير بعض الإجراءات التي تسير عليها الدولة اليوم، ومنها حرية الرأي والفكر وحرية المناقشة والعرض؛ لإلقاء الضوء على كل شيء في هذا الضباب حتى تتضح الرؤية. وليكن ذلك داخل المؤسسات، إذا كانت السرية لظروفنا الحاضرة تقضي بذلك. على ألا يكون للدولة رأي مسبَّق تضغط به على أهل الرأي وتجعلهم مجرد أبواق لترديده وترويجه، بل أن تكون الدولة آخر من يُبدي الرأي بعد أن تستمع وهي جادة صادقة إلى رأي مصر الحر أولًا، لا أن تصوغ هي الرأي وتضع الشعار وتلقي به إلى الناس وتفرضه عليهم فرضًا … آن للدولة في هذه الظروف العصبية أن تتخفف هي من كل العبء والمسئولية وتضعها على كاهل الأمة … إن في ذلك مصلحتها وصيانةً لها أمام التاريخ.