اشتراكيتي … (من واقع كتاباتي المنشورة في الثلاثينيات والأربعينيات)
في طريق التحرر
لا أمل في إصلاح العالم إلا إذا عولج شقاء الملايين في كل أمة من الأمم. من أجل ذلك لم يستطع حتى الزعماء المروضون (الدكتاتوريون) أنفسهم أن يعتمدوا على كلمة «الوطنية» وحدها في التأثير على الجموع، فقرنوها بكلمة «الاشتراكية».
•••
لا ريب إذن في أن الاشتراكية هي جوهر لا بد أن يدخل في تركيب كل نظام سياسي حديث. وكما استطاعت الدكتاتورية اختراع «الوطنية الاشتراكية»، فما أيسر على الديمقراطيات إنشاء «الديمقراطية الاشتراكية»!
ما أسميه هنا «الديمقراطية الاشتراكية» إنْ هو إلا هذه النظُم الاشتراكية التي قامت اليوم داخل إطار الديمقراطية (إنجلترا وفرنسا)، كما ظهرت من قبلُ بعضُ مظاهر تلك النظم داخل إطار الوطنية الدكتاتورية (ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية).
نحن اليوم إذن أمام حرب «الوطنية الاشتراكية» و«الديمقراطية الاشتراكية».
•••
الديمقراطية الاشتراكية هي من غير شكٍّ صياغة مقبولة لجوهرَين متلائمَين. لكن «الديمقراطية» شيء و«الدولية» شيء آخر. إن جوهر «الاشتراكية» السليم لا يمكن أن يقترن إلا بفكرة «الدولية».
لو كانت كل ثمرات العالم الجديد بعد إبادة الدكتاتوريات هي تعميم «الديمقراطيات الاشتراكية»، لكان هذا جميلًا. لكنه ليس كل ما يصبو إليه التقدم الإنساني. ذلك أن «الديمقراطية الاشتراكية» ليست هي أيضًا أكثر من «نظام داخلي» لكل دولة من الدول، وأن كل دولة «ديمقراطية اشتراكية» (المقصود بها هنا وفي ذلك الوقت ١٩٤١م دول مثل فرنسا وإنجلترا) تستطيع أن تنشئ لنفسها مطامع استعمارية وسياسة قومية تقوم على السيادة الخارجية. وبهذا تستأنف الحروب الاقتصادية والدموية بين الدول «الديمقراطية الاشتراكية» بعضها ضد بعض.
كانت فكرتي منذ أعوامٍ أن «الاشتراكية» ينبغي أن تأتي من الخارج إلى الداخل … أي أن تسود بين الدول قبل أن تُقرَّ بين الأفراد.
الاشتراكية بين الدول في الإنتاج والتوزيع والقانون والنظام. إذا تم ذلك فقد تم كل شيء تبعًا لذلك.
لست شيوعيًّا، ولكن
فلأترك هذا الحديث العام، ولأعرض ما أراه صالحًا لبلادي … ولا تعنيني الآن الأسماء ولا الصفات ولا التعاريف … ولا أفكر الآن وأنا أتكلم برأسمالية أو اشتراكية أو شيوعية … إنما أنا أبسط ما أتمناه لأهل بلدي من إصلاح دون تقيد بمبدأ أو بمذهب … فليس أخطر على أمة ناشئة من أن تلبسها مذهب أمة أخرى دون نظر إلى طبيعتها وحاجتها وحجمها وذوقها وروحها.
أريد أن تتحقق في بلادي ثلاثة أشياء:
- الأول: أن يكون كل ولد يولد، وكل مواطن يوجد، ملكًا لنفسه وملكًا للوطن في آنٍ … كما أن الخلية في الجسم ملك لنفسها وملك للجسم … فالوطن مسئول عن الصحة الجسمانية والذهنية لكل مولود وموجود. فالتطبيب بالمجان والتعليم بالمجان … إن لم يتحقق هذا فلا قيمة لوجود الوطن … كما لا قيمة لوجود الجسم إذا تخلى عن مصائر الخلايا … كذلك ما يملكه الفرد في أرض الوطن هو ملك للفرد وملك للوطن في آنٍ … لأن قطعة الأرض قطعة من لحم الوطن، فلا يجوز للفرد أن يسيء استغلالها أو أن يعجز بإهماله أو جهله عن استخراج كنوزها وتعطيل نفعها … فعلى الوطن أن يقسم أرضه أو لحمه إلى مناطق تعاونية … يجرى فيها البذر والزرع والحرث والسماد والحصاد والدراس بآلات حديثة وخبرة علمية؛ لتنتج أكثر ما يمكن من محصول هو ثروة للوطن وثروة للفرد في آنٍ.
- الثاني: أن تمتد يد الضرائب التصاعدية بقوة إلى رقاص ساعة العيش، فلا يتطرف من نهاية الثراء إلى نهاية الفقر … ليهدأ في الوضع المقبول الذي يقارب ويجانس بين أبناء الوطن … وأن يكون لحكومة الوطن رقابة دقيقة على شركات المرافق العامة، كالمياه والنور والمواصلات … إلخ؛ حتى لا يكون لها غير ربح زهيد لا يبهظ أفقر الناس … فإذا تولت الحكومة إدارتها مبالغة في الحرص على مصالح الكافة، كان ذلك أفضل وأتم. يضاف إلى ذلك واجب آخر على حكومة الوطن: توفير السكن الصالح وتدبير العمل للعاطل وفرض الحد الأدنى للأجر الذي يصون للأجير كرامته الآدمية، ويكفل له كمواطن كيانَه الداعم لكيان الوطن.
-
الثالث: العلاقة بين رأس المال والعمل …
وهو جوهر الخلاف بين المذهبين
المتصادمَين: أحدهما يقول إن رأس
المال يستغل العمل ويربح كل كدِّه
ويجرع جميع عَرقه … والثاني يقول إن
رأس المال هو الذي يجازف؛ فله وحده
ثمرة جسارته. والحقيقة التي أراها في
طريق التبلور عندنا الآن: هي ألَّا
نطالب الآن بالقضاء التام على
الرأسمالية ولا أن نتركها تمرح وحدها
في ثمرة الاستغلال … ولكن نجعل في
رأيي الآن للعمل شعارًا يواجه به رأس
المال: «استغلني وأشركني في
الربح».
هذا تخطيط عملي بسيط فيما أراه الآن في هذا الأمر … لست أحفل الآن بما يمكن أن يسمى بين المذاهب، حسبي أنه اتجاه أراه الآن نافعًا ميسور التنفيذ، آمُل أن يرى ضوء الشمس في بلادنا ذات يوم.
•••
البرنامج أولًا
… إن كل النهضات التي قامت بها الحكومات الحديثة في بلادها، خصوصًا بعد الحرب (العالمية الأولى) قد تمت وفق منهج مرسوم وتحدد لتنفيذها زمن معلوم، فقالوا: هذا «نظام خمسي» وهذا «نظام عشري»؛ تبعًا لعدد السنوات التي قرر الأخصائيون أنها لازمة لظهور المشروعات. فأين نحن من هذا؟ أتستطيع مثلًا أن تقول لي هل وُضع نظام ثابت لمحو الأمية من البلاد في ظرف سنوات معلومة؛ حتى نرتب على هذا الحدث نتائج اجتماعية واقتصادية وسياسية نواجه بها هذه النهضة القادمة؟ أيمكنك أن تقول لي هل هنالك مشروعات اقتصادية درسها الخبراء وقرورا لها زمنًا تتم فيه، وتخرج للبلاد في نهايته وسيلة جديدة من وسائل الإنتاج تزيد الثروة الأهلية الزيادةَ التي تتعامل مع نمو عدد السكان وتسد الحاجات المنتظرة والمطالب المستقبلة؟ وهل في مقدورك أن تقول لي هل درس الباحثون سياسة ثابتة للتعليم الجامعي وخطة واضحة لتوجيه الثقافة العامة في نهضتنا؟ وإلى أي مدًى ننحو نحو الحضارات القائمة أو أننا سنبقى حيارى في حدائق المعرفة لا ندري ماذا نأخذ وماذا ندع؟! فأنت ترى أنه لم يوضع شيء بعد — حتى على الورق — لتحديد العمل والزمن الذي يقتضيه التنفيذ لمختلف فروع نهضتنا، بل إنه لم يُنظَر إلى الآن حتى فيما يجب البدء به حالًا من هذه المرافق المختلفة تبعًا لحاجة البلاد؛ حتى لا يضيع علينا الوقت.
فساد الدولاب
حتى على فرض فراغنا من رسم الخطط ووضع البرامج، فالباقي بعد ذلك كثير، بل إن مجرد السير الآن في طريق العمل عسير؛ إذ بمن نعمل؟ إن الأيدي العاملة قد لحقها الفساد، فهي مثل تروس الساعة المختلة تدور في غير حدود، فيد الوزير أحيانًا تمتد إلى الأنظمة والأوضاع تقلبها رأسًا على عقب دون أن تُصغي إلى كلام أصحاب الاختصاصات من المرءوسين، وإن الموظف، مهما يكبر ومهما ينبغ، لا يعدو أن يكون تابعًا يتلقى أمر رئيسه ويؤمن على رغباته وإن علم أن فيها الضرر لمصلحة البلاد. وهكذا أُهدرت الشجاعة الأدبية وجبُنت النفوس عن تحمل المسئولية. بل إنه لَيحدثُ أكثر من ذلك. فإن المسألة الفنية لَتُعرض أحيانًا على لجان من الأخصائيين يبحثونها في شهور، فيأتي وزير يضرب بنتيجة البحث الطويل عرض الحائط ويؤشر بقلمه الأحمر مناقضًا ما جاءت به اللجنة، كأنما هو يتحدى تلك العقول ليُظهر أن رأيه «المرتجل» لساعته خير وأحكم من آراء المختصين بعد درس شهور. ولكن الأدهى والأمَر أنه يجد في أكثر الأحيان من بين موظفي وزارته ومن بين هؤلاء الأخصائيين أنفسهم من يقول «آمين آمين»، فهل بمثل هذا الدولاب الحكومي نستطيع أن نسير في تنفيذ خطة أو برنامج؟ فإلى أن يعلم الوزير كيف يحترم رأي موظفيه المختصين، وإلى أن يفهم هؤلاء الموظفون كيف يحترمون آراءهم، وإلى أن توزع الأعباء والمسئوليات بين الوزير ومعاونيه، ويحل النظام محل الفوضى في علاقة الرئيس بالمرءوس، فلن تكون الأداء الحكومية صالحة بعدُ للسير الجدي في تنفيذ مشروع من المشروعات.
الأحزاب والشعب
إن المفروض في ممثلي الشعب أن يتقدموا إلى المقاعد النيابية ببرامج ثابتة واضحة، محدد فيها بالدقة، الخطط ووسائل التنفيذ لمطالب طبقات الشعب المختلفة التي يمثلونها … ولكن الذي يحدث اليوم هو غير ذلك، فإن كل مشروع حيوي يهم الشعب، إنما يصدر عن جهات أخرى غير ممثلي الشعب! … ولم نعُدْ ندري فيمَ يمثل هؤلاء الممثلون الأمة؟!
إن الشعب اليوم قد تغير في نظري، وإن عقليته قد تكونت، وأصبحت له رغبات حيوية تمس صميم غذائه اليومي وحياته المادية … إنه يطالب اليوم بأن يعيش، لا معنويًّا فقط، كما كنا ننادي بالأمس، ولكن ماديًّا أيضًا، عن طريق اللقمة المتوافرة للملايين من المحرومين … على أنه ينبغي لنا مع ذلك أن نتساءل: إلى متى نظل في مصر، ونحن نملك فيها نظامًا ديمقراطيًّا، نعتقد أن إصلاح شئون الطبقة الفقيرة … معناه التصدق والإحسان؟ وإلى متى، ونحن لدينا برلمان، لا نجد فيه ممثلين لملايين الطبقات الفقيرة، يدافعون عما تراه هذه الطبقات منهضًا لها مصلحًا لحالها؟! ما معنى الديمقراطية إذا لم تكن هي تمكين طبقات الشعب كلها على اختلاف مراتبها ومطالبها من الدفاع عن نفسها بنفسها تحت قباب المجالس النيابية؟ … ما من برلمان في أي بلد ديمقراطي في العالم يعرف هذا الوضع الذي نحن عليه؛ لأنه ما من أحزاب في العالم تكونت هذا التكوين الشخصي المرتجل كأحزابنا المصرية ذات الصبغة الشخصية الواحدة المتشابهة! في البلاد الأخرى أحزاب ذات مبادئ مقررة، كلٌّ منها يدافع عن حقوق طبقة من طبقات الأمة، على نحو يكفل التوازن بين المصالح، بينما أحزابنا، على تعدُّدها وكثرتها، لا تمثِّل في حقيقة الأمر غير طبقة واحدة: هي طبقة الملاك … هي التي نسمع صوتها في البرلمان. وهي التي اتخذت لنفسها صفة القوامة على الطبقات الأخرى. وهي التي تستطيع أن تمنع وتحرم الطبقات الأخرى حتى من حق الاعتراف بنقاباتها التي تنظم شئونها وتدافع عن حقوقها!
ويحضرني هنا مثَل أحب أن أذكره: فقد وجدت في حانوت حلاقة ذات مرة حلاقَين أحدهما يعمل إلى جانب الآخر ويتقاضيان أجرَين متساويَين، الأول مصري والثاني يوناني، فعلمت شيئًا عجيبًا: فقد قال لي العامل المصري إنه وهو في بلاده لا يستطيع أن يعلِّم أبناءه بالمجان، ولا أن يستشفي بالمجان، وإنه لا يجد أحدًا ولا هيئة تعينه على تكاليف العيش … بينما زميله اليوناني يعلِّم أولاده كلهم بالمجان، في المدارس اليونانية، ويستشفي هو وعائلته بالمجان في المستشفيات اليونانية؛ لأن هناك هيئات ونقابات يونانية تُعنى أتمَّ العناية بمساعدة العمال والأُجراء اليونانيين! … وقد روى لي هذا العامل المصري أيضًا أنه ذهب بابنته الصغيرة يومًا إلى مدرستنا الأولية، فوجد عاملًا مصريًّا آخر قد عجز عن دفع مصروفات ابنته، على ضآلتها (عشرة قروش شهريًّا)، فاضطر إلى العودة بها إلى البيت، مما حزَّ في نفس زميله فأخرج أَجْره اليومي من جيبه ودفعه من أجله … لا شك في أن أكثر الناس يوافقونني على أن هذا الوضع للأشياء يجب أن يتغير.
الفكر والشعب
سألتني مجلة سياسية عن دور الكتَّاب الاجتماعيين في حركة الإصلاح الاجتماعي، فأجبت بقولي: «نعم، الكتاب والمفكرون هم قادة الإصلاح، وهم واضعو أسسه وخططه في كل زمان ومكان … ولئن كانت حركة الإصلاح الاجتماعي في مصر قد تأخرت حتى اليوم، فذلك سببه تقصير الكتَّاب والأدباء … إني أتَّهم بملء فمي الأدبَ المصري بهذا الجُرم. إن الأدب في مصر لم يكن إلى عهود قريبة غيرَ حلية عاطلة في معاصم الأدباء … لقد كان هؤلاء الكتَّاب يعيشون لا فقط على هامش المجتمع، بل على هامش حياة الآخرين من أصحاب الجاه أو الثراء. لم يكن الأدب في مصر إذنْ أداةَ تسجيل وتوجيه لشئون المجتمع، ولم تكن أقلام الكتاب أبواقًا توقظ النائمين، ولكنها كانت معازف ينعس على أنغامها المترفون. وإذا كان هؤلاء هم كتاب أمة، وهذا هو أدبها، فلا عجب إذا ظلت حال المجتمع المصري على ما نراه اليوم … على أن الأمر بالضرورة قد تغير الآن (١٩٤١م) وأنك تستطيع أن تقول إن الأدب في مصر يتجه في الطريق الصحيح، وإن كثيرًا من الكتَّاب المعاصرين نشروا كتبًا وأفكارًا تتصل بصميم المجتمع، وإن آراءهم تُسمع وتُحترم وتؤثر أحيانًا في اتجاهات الحياة العامة.»
وهنا ذكَّرتني تلك المجلة السياسية بأني كنت أول من اقترح منذ عامين (١٩۳۸م) إنشاء وزارة للشئون الاجتماعية في حديث لي نقدت فيه النظام البرلماني، كان له ضجة وعوقبتُ بسببه وكِدت أُطرد من الحكومة أو أُحال إلى مجلس تأديب، ولكن المسئولين تراجعوا واكتفوا بخصم خمسة عشر يومًا من مرتبي. ولكن وزارة الشئون الاجتماعية التي اقترحتها أُنشئت فعلًا في عام ١٩٣٩م … وكان في مجرد وجود هذا الهيكل الرسمي المخصص للمسألة الاجتماعية أقوى دعاية لهذا المسألة في أنحاء البلاد، مما جعل الشعب كله يهتم بالمسألة الاجتماعية بعضَ اهتمامه بالسياسة، وأصبحت تُثار في البرلمان قضايا الفلاح والعامل وحقهما في حياة إنسانية معقولة، وحصة الفقير وحقه في معونة الغني. وأصبحنا نسمع كبار الأمة يتحدثون عن ضرورة الرقي بمستوى حياة الشعب. وكثرت المحاضرات في كل مكان، وتكونت جمعيات الإصلاح، وارتفعت أصوات الرحمة من القلوب وكلمات العدالة والإنصاف من الأفواه كلها، مجمِعة على أنه ينبغي وضع حد لما نراه من استئثار مئات من أهل هذه البلاد بالخيرات وترك الملايين في جوع وعُري كالسائمات. ولكني أقول، باعتباري كاتبًا، إن الأمر لم يعُدْ في حاجة إلى توجيه، فإن حال الشعب الآن لا يختلف فيه اثنان، وإن قادة الرأي ورجال الأمة ومفكريها يعرفون علل الشعب أتم معرفة ويوضحونها ويصفون لها العلاج، وفي كل يوم يزداد عدد هؤلاء المفكرين والدعاة، وتتسع دائرة المصغين إلى رسالتهم، إلى أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه المسألة الاجتماعية هي المسألة الأولى في الدولة، لها صحافتها ولها ساستها، وعلى أساسها تتقدم الأحزاب إلى الحكم، ويكون النجاح أو الإخفاق في تحقيق برامجها هو الذي يُبقي الوزارات أو يسقطها … فها أنت ذا ترى ما أرمي إليه: إن المسألة الاجتماعية عندنا هي في طور «الهواية»، ولن تدخل في طور «العمل الجدي» إلا إذا طالب بها الشعب نفسه … فإلى أن تصبح إذن المسألة الاجتماعية في مصر ذات تأثير مباشر في أداة الحكم، كالمسألة السياسية سواءً بسواء، فليس لنا أن نقول إن في مصر مسألة اجتماعية على الإطلاق.
في أسوان
«… كان إسماعيل صدقي باشا (أحد قادة الاقتصاد على المنهج الرأسمالي) من نُزلاء كتراكت، فضمَّتنا الشرفة، ودار بيننا الحديث في جمال النيل وجلاله … ثم في كنوزه الاقتصادية أيضًا، بل كنوز تلك المنطقة من أرض مصر، فقال صدقي: «إن الحديد الذي يمكن استخراجه من هنا، كما جاء في بعض التقارير، يكفي حاجتَنا مئاتِ الأعوام، وهو من أجود أنواع الحديد، وربما استطعنا أن نصدِّر الحديد كما نصدِّر القطن. أما البترول الأبيض الكامن في ماء النيل، وأعني به القوة التي يمكن استخراجها من كهربة خزان أسوان وأثرها في خلق مصر صناعةً وحضارة، فلا خلاف فيه بين أحد اليوم.» فقلت له: «إذن ما الذي يقعدنا عن الانتفاع بهذه الكنوز؟» قال: «الأغراض السياسية.» قلت: «داخليًّا وخارجيًّا، هذا صحيح. وإذا استطعنا التغلب على التيارات الخارجية والضغط الأجنبي، فهنالك آفتنا الداخلية الكبرى: السياسة للسياسة، أو على الأصح «السياسة للحكم».» إن العقلية المصرية (بفعل الظلم الطويل) لم تتغير منذ أجيال، سواء في الحكام أو المحكومين. فالهدف الرئيسي للحكم هو السيطرة. ولعل الاحتفاظ التقليدي بوزارة الداخلية، أي البوليس والإدارة والضبط والربط في يد رئيس الحكومة، هو مظهر ورمز لهذه الفكرة. (كان رئيس الوزارة في ذلك العهد هو دائمًا في نفس الوقت وزيرًا للداخلية) لذلك يمكن في رأيي تلخيص شعور الفرد العادي (لاعتياده الظلم) في هذه العبارة: «من لا يستطيع أن يحبسني ليس له عندي اعتبار» … فضحك صدقي باشا وقال: «هذا بالضبط هو الواقع.» فقلت: «ومتى إذن نستطيع أن نرى الفرد العادي في بلادنا يقول: «من لا يستطيع أن يحسن حالتي ليس له عندي اعتبار»؟» أظن أنه لو حدث هذا لتغير الوضع في الحال ولم تصبح لنا السياسة للحكم أو السياسة للسياسة، بل السياسة للاقتصاد.»
«… قال لي بعض مهندسي الخزان (خزان أسوان) إن وزير روسيا المفوض (يظهر أنه لم يكن لروسيا وقتذاك (١٩٤٥م) ممثل في درجة سفير) عندما جاء أسوان التف حوله بعض شباب الموظفين يسألونه عن البلشفية، فقال لهم وهو ينظر إلى تلك المساقط المائية الجبارة: «لا تهتموا هكذا بالسياسة، التفتوا إلى اقتصاديات بلادكم.».»
•••
منشآت العمال
هل ارتفاع الأجور يكفي وحده لرفع مستوى المعيشة بين طبقة العمال؟ لا أظن … والدليل أن أجر العامل اليوم قد ارتفع في مصر عما كان عليه من قبل، ولكن مستوى معيشته لم يرتفع بهذه النسبة … لم تزَل أسرة العامل وسكنها وطعامها على الحال القديم … والحل لهذه المشكلة هو أن تنشأ مصلحة أو وزارة باسم «منشآت العمال»، تقوم باستقطاع جزء من أجر كل عامل، وتجعل حصيلته في صندوق خاص، تغذيه الحكومة وأصحاب العمل بمبلغ كافٍ، ويوجه هذا المال إلى إنشاء المشروعات التي ترفع مستوى العمال مباشرة، كبناء المساكن الصحية والحوانيت التعاونية والأحياء والنوادي العمالية … إلخ إلخ.
خزان آخر
… إن مصر قد تحولت في السنوات العشرين الماضية تحولًا اقتصاديًّا ملحوظًا، كان من نتيجته إثراء طبقة من الناس إثراءً سريعًا أدى إلى نشر مُثُل عُليا جديدة في المجتمع … أو على الأصح مُثُل ليست عُليا … لأنها بذرت في النفوس بذور المادية والوصولية والاستهتار … ولكن هذا الأمر ليس بوقف على مصر وحدها … كل بلاد العالم حدث فيها مثل ذلك، يوم تمت فيها هذه التحولات الاقتصادية، مع هذا الفارق: وهو أن تلك البلاد الأخرى كان فيها مُثُل عُليا حقيقية قوية، قبل أن تغزوها المثل الدخيلة غير العليا، فلم يستطع هذا الغزو أن ينال كثيرًا من التقاليد المغروسة في العلم والخلق والفكر والفن … أما مصر فلم تكن قد تهيأت بعدُ لمِثْل هذا الغزو المادي … العلاج الآن هو أن نبادر بإقامة خزان آخر إلى جوار خزان أسوان … خزان للمثل العليا.
دواء الغلاء
… لا حديث للناس اليوم إلا عن الغلاء … هذا الداء المستعصي الذي تعبت الرءوس وكلَّت الهمم في البحث عن علاجه … ألا ترى له من دواء؟ … فلنبحث أولًا عن أصل هذا المرض، بعيدًا عن نظريات العلماء والخبراء … فمهما يكن من قوة الأسباب الاقتصادية أو غيرها مما يؤثر في السوق ويرفع الأسعار، فإن السبب الأكبر هو في أيدينا نحن، بل في بطوننا … فمواد الطعام من لحم وفاكهة وأرز لن ينخفض سعرها كثيرًا في أي يوم ما دمنا نريد أن نضعها على موائدنا في كل يوم. إن شراهة المنتج والبائع إنما تنبع من شراهة المشتري والمستهلك (مجتمع الاستهلاك) … وإليكم تجربة تثبت ذلك بالدليل … قوموا، معشرَ المستهلكين، بحملة واسعة النطاق واستخدموا فيها الصحف والإذاعة وكافة طرق النشر لتحديد الأصناف وتنظيم ألوان الطعام لكل قادر ولكل بيت، محذرين من أكل الفاكهة أكثر من مرتين في الأسبوع واللحم أكثر من ثلاث مرات والأرز أكثر من مرتين أو ثلاث، واحملوا حملةً شعواء على الإسراف والتبذير والترف في المأكل والملبس، وروِّجوا للقناعة والبساطة … افعلوا ذلك بكل وسيلة وأنتم ترون العجب: إن الكروش ستختفي وينقص الترهل ومرض السكر وضغط الدم، وتنقص الأسعار وتعمر الجيوب ويَطعَم الفقير والغني … لا فائدة من علاج الغلاء قبل أن نعالج بطوننا وترفنا … لا شيء يقتل البائع الطامع غير المشتري القانع.
•••
هذه بعض آراء واتجاهات متصلة بالروح الاشتراكية مما أمكن استخراجه على وجه السرعة من الكتابات المنشورة قبل ١٩٥٢م. وهي الكتابات المباشرة، الخارجة عن نطاق المؤلفات الفنية في الرواية والقصة والمسرحية. ذلك أن الكتابات المباشرة هي التي يُعتمد عليها في تحديد الموقف الاجتماعي للكاتب. أما العمل الفني فقد يختلط فيه موقف الكاتب بمواقف أشخاصِ روايته أو قصته أو مسرحيته. وهذا ما جعلني أستبعد هنا كل أعمالي الفنية، ولا أعتمد إلا على الكتابات المباشرة وحدها. حتى وإن كانت بعض الأعمال الفنية تعالج بالفعل بعض النواحي الاجتماعية، وكان لها من التأثير ما ظهرت نتائجه.
وبعدُ … فما هو الموقف الآن؟ وخاصة بالنسبة إلى شيخ مثلي في المرحلة الأخيرة من العمر؟ هل أسكن إلى الراحة، ولي الحق فيها، الآن؟ أو أبذل ما بقي لي من عمر وأنفاس في المشاركة بالجهد الضئيل أتوقع مجيئه من أحداث؟ … نعم إن بلادنا مقبلة على تغييرات اجتماعية لا بد منها للسير في طريق التطور الحتمي. وإن ما أخشاه هو أن تضيع فرصة التقدم الحقيقي مرةً أخرى في متاهات تغوص فيها الأقدام، وأن يفشل أصحاب النوايا الطيبة في غرس اشتراكية حقيقية، بعيدة عن الشعارات الكلامية، تنفع الشعب حقًّا وتحمي حقوق الملايين من الكادحين والمحرومين، وترتفع بمستوى اقتصاد شعبنا (كما نصحنا خروشوف) ومستوى ثقافته ورفاهيته … إلخ. إني أضع يدي في يدِ مَن يسير بنا في هذا الطريق … وتحت تصرفه أودع رصيدي الباقي من الطاقة القليلة والصحة الضعيفة … لقد حقق عبد الناصر شيئًا من الاشتراكية، وكان من الطبيعي والمنطقي أن أنوِّه بذلك وأضخِّمه. أنا بالذات؛ لأنه كان يعلن أنه قرَأني وتأثر بي إلى حدٍّ وصفتْه بعض الكتب الأجنبية بأنه تلميذ أفكاري. وكان من مصلحتي الشخصية إذن أن أستغل هذه الصفة وأضخمها بتضخيم منجزاته. ولكن مصلحة مصر المتجددة هي في ألا تقنع وتتجمد على هذه الاشتراكية الهزيلة، وأن تعلم أنه قد ضيعت عليها فرصة الاشتراكية الحقيقية حتى تهب مرةً أخرى تطالب بها.
والدوام دائمًا لمصر.