المشهد الأول
(نقطة الحرس على حدود بغداد،
جنودٌ يقفون على جانبي الحاجز الذي يدخل منه
العابرون أو يخرجون، يرى السور الكبير غير بعيد،
عليه أبراج الحراسة والمراقبة، وهو يفصل ضواحي
بغداد عن الصحراء، أطفال، ونساء يزُرن أزواجهن،
يتجولون بين الحواجز والأبراج ويتحدثون مع الحراس،
تسمع ضحكات ونداءات يقطعها هتافُ أحد الجنود.)
حارس
:
انتبهوا يا حراس! شبحٌ يأتي من بعيد.
حارسٌ آخر
:
بل شبح يجري، أكاد أسمع لهاث أنفاسه.
الحارس الأول
:
وأكاد أرى أطماره وهلاهيله.
الحارس الثاني
:
وحذاءه أيضًا؟
الحارس الأول
:
تخبرني عيني أن القادم حافٍ
وجريح.
أعجف مهزولٌ، تتقاذفه
الريح.
فرع من شجرة صبار جفت فيها
الروح.
الحارس الثاني
:
رائع! كنا نُسميك عين النسر، هل لك الآن
عين شاعر؟ وماذا أيضًا؟
الحارس الأول
:
تحقَّق أنت بنفسك، ها هو على بعد خطوتين.
الحارس الثاني
:
قف يا رجل! توقف!
(بشر يتوقف ويستجمع
أنفاسه، يدور حوله الحراس وبعض الأطفال
ويتفرسون فيه كأنه جرادة.)
الحارس الأول
:
من أين؟
بشر
:
من الجحيم يا ولدي.
الحارس الثاني
:
شيطانٌ أنت؟ وإلى أين؟
بشر
:
إلى الجحيم يا ولدي.
الحارس الأول
:
قبحك الله! إن كان الزبانية قد سمحوا لك
بالخروج فنحن لن نتركك.
بشر
:
دعني يرعاك الله.
الحارس الثاني
:
ندعك من غير سؤالٍ وجواب؟ من أنت؟ ماذا
تريد؟ ما مقصدك، وما عملك؟
بشر
:
ولماذا تسأل يا ولدي؟ دع للخالق أمر
الخلق، دعني يا ولدي.
الحارس الأول
:
ندعك تخرج؟ كأن الأبواب بلا حُجَّاب،
والأسوار بلا حراس، قل من أنت!
بشر
:
يا ولدي يرعاك الله، ماذا تنتفع باسمي؟
ماذا يملك عبدٌ للعبد؟ دعني … دعني أخرج.
الحارس الثاني
:
أخرج، أخرج … أليس عندك غير هذا؟ تكلم …
اسمك؟
بشر
:
باسمك يا رب العرش بدأت، عليك توكلت …
اسمي بِشر.
الحارس الثاني
:
لا يكفي هذا، اسم أبيك وجدك؟ … كنيتك؟ إذا
كانت لك كنية.
بشر
:
بِشر، أبو النصر الحارث، بشر الحافي، اسمٌ
أطلقه الناس عليَّ.
الحارس الأول
:
الحافي … حقًّا … رجلك سوداءُ ومقروحة،
أسفل قدمك أسود!
بشر
:
وذنوبي ملأت قلبي سوادًا فوق سواد؛
ولهذا أخرج يا ولدي كي أتطهر وأتوب إليه.
الحارس الثاني
:
لن ندعك حتى تُسأل وتجيب … من أنت؟
بشر
:
اسمي أخبرتُك به، أما حالي فالله تعالى
أعلم به.
الحارس الأول
:
لا شأن لي بحالك … عملك … ما عملك؟
بشر
:
عملي؟ حاشا لله! هل تبصر عيني أو تسمع
أذني إلا بمشيئته — جل علاه؟
الحارس الأول
:
يبدو أنك شيخٌ ثرثار!
بشر
:
سامحك الله، مع أن الناس دعَوني بِشر
الصامت!
الحارس الثاني
:
صمتك مثل كلامك لا يُفهم، قل يا شيخ، هل
أنت فقير من أهل الله؟
بشر
:
مسكين يَطرق بابه.
إن شاءت رحمته قربني منه
وإن شاء جفاني.
ولهذا أبكي يا ولدي طول
العمر.
أبكي في الليل وتحت الشمس وفي
الفجر.
أبكي في حال الوصل وحال
الهجر.
دعني بالله أواصل دمعي
وبكائي.
دعني … دعني … (يبكي).
الحارس الثاني
:
اسمع يا شيخ، لن ندعك حتى نعرف منك
السر.
الحارس الأول
:
وإذا نحن تركناك، فهل تتركك الدولة، هل
يتركك أولو الأمر؟
بشر
:
لا يعرف سِرِّي إلا الله ودمعي يشهد … دعني
أخرج يا ولدي.
الحارس الثاني
:
ستخرج يا شيخ، بشرط … أن تحكي السر.
الحارس الأول
:
سر خروجك من بغداد … أسرار حياتك فيها …
قل يا شيخ.
الحارس الثاني
:
ابدأ يا شيخ.
بشر
:
هل عندك جرعة ماء للعطشان؟
الحارس الثاني
(يقدم له
الماء)
:
ولدينا زاد للجوعان.
بشر
(يشرب)
:
حمدًا لله … في جوف جرابي كسرة خبز
تكفيني.
الحارس الثاني
:
ولدينا في هذا الكوخ فراش لتنام.
بشر
:
شكرًا يا ولدي … أطماري البالية تقيني.
الحارس الأول
:
هيا يا شيخ!
الحارس الثاني
:
احكِ السر!
بشر
:
لن يكفي يوم أو ليلة.
الحارس الثاني
:
ولمَ العجلة؟ أسبوعًا أسبوعين.
بشر
:
لن أحتاج لهذا.
الحارس الأول
:
ماذا تحتاج؟
بشر
:
تحتاج القصة من يرويها، من يشهدها
ويشارك فيها.
الحارس الثاني
:
نحن شهودك، وجنود الحرس جنودك … وإذا
احتجت لأحد …
الحارس الأول
:
شيخٌ أو شاب أو طفل.
بشر
:
وامرأة واحدة …
الحارس الثاني
:
ها هي زوجتي، جاءت تزورني اليوم … يا
فاطمة تعالَي … (تظهر امرأة من خلف السور).
فاطمة
:
من؟ ماذا تطلب؟
الحارس الثاني
:
هذا الشيخ …
فاطمة
(تتأمل بشرًا
وتتذكر)
:
من؟ أنت؟
الحارس الثاني
:
أتعرفينه؟
فاطمة
:
ومن لا يعرف بِشر الحافي؟!
الحارسان معًا
:
الحافي؟
فاطمة
:
أشهر رجل في بغداد.
بشر
:
الشهرة خطأ وخطيئة … والزاهد من يزهد
فيها.
فاطمة
:
يا أتقى رجل يمشي فوق بساط الأرض.
الحارس الثاني
:
حافي القدمين.
فاطمة
(تسكته)
:
ليتك كنت ظفرًا في أصبع قدمه … (تتبرك
به فيصدها في رفق).
الحارس الأول
:
فلنبدأ يا شيخ.
الحارس الثاني
:
هيا هيا … الصمت … الصمت (يشير للنساء
والأطفال وبقية الحراس، فيتنادون ويلتفون
حول الشيخ … يمسح وجهه وشعر رأسه ولحيته
البيضاء بكفيه ويتمتم لحظات، ثم يقول
…)
بشر
:
أحد الزهاد،
سكني في بغداد،
نُسكي لله ومحياي،
وللفقراء فؤاد (يغيب في
تأملاته).
هذا هو بشر الحافي.
الحارس الثاني
:
لمَ سمَّوك الحافي؟
الحارس الأول
:
لا تقاطعه.
الحارس الثاني
:
أليست هذه هي البداية؟
الحارس الأول
:
هو حرٌّ يبدأ بالبداية أو النهاية.
بشر
:
كنت مثلك يا ولدي؛ ألهو لهو الشباب
وأضحك ضحك الغافل، يزورني رفقاء الكأس كل
ليلةٍ، فنحيا في جنة الشرب واللعب، والأنس
والطرب، ثم لا يلبث الفجر أن يطل بوجهه
فنعرف أنها جنة الشياطين، وأن الوِلْدان
والقِيان غير مخلَّدين، وأغترف من المال الذي
تركه أبي، وتزدهر الجنة كل ليلةٍ لتندثر
مع كل صباح، حتى دقَّ بابي ذات ليلة عابرُ
سبيل (يُسمع دق على الباب، بشر ينادي
ويشير إلى المرأة التي تنهض واقفة، ويشجعها
حتى تؤدي الدور).
بشر
(ينادي)
:
يا جارية.
المرأة
:
نعم يا سيدي.
بشر
:
انظري من الباب.
المرأة
:
في هذه الساعة؟
بشر
(صائحًا)
:
قلت افتحي.
المرأة
:
ومن عساه يكون؟ شرطي، أو سكير، أو شحاذ، أو
مجنون.
(تشير إشارة من يفتح الباب.)
بشر
:
في اللمحة تأتي الصلحة، كان على الباب
رجل لم أرَ منه إلا طرف طماره، ولم أسمع
شيئًا مما قاله للجارية، ناديت عيلها:
أنت، من ذلك الطارق؟ قالت الجارية: ألم
أقل لك يا سيدي؟ مجنون أو سكير. سألتها:
وماذا قال لك؟ قالت: سألني: هل صاحب هذه
الدار حُرٌّ أم عبد؟ نهرتُه وصِحت في وجهه: بل
حر من صُلب حر … رد عليها الرجل: صدقتِ، لو
كان عبدًا لاستعمل أدب العبودية وترك
اللهو. رميت الكأس من يدي، شققت طريقي وسط
الندامى والقِيان والسقاة، وأخذت أعدو وراءه
حافي القدمين حتى أدركته، قلت له: يا رجل
… أعد الكلام. أعاده عليَّ. مستني الصاعقة
فانتفضت، أمسكت طرف طماره وبكيت، مرغت
وجهي على الأرض وصِحت: بل عبدٌ يا ربي! عبد!
عبد! وتراءى لي في رقدتي على التراب شبح
أمير من أهل طريقتنا كنت قد سمعت حكايته،
تقدم مني ورَبَت على كتفي وأشار إلى السماء:
يا بشر! هذا هو الطريق، امضِ عليه كما
مضيت. رفعتُ رأسي إليه وقلت: هل أقدر وحدي
يا إبراهيم؟ قال: كنت مثلك يا بِشر، لكن
الله أعان. سألته: وماذا فعلت؟ قال: أولى
بك أن تسأل ماذا فعل الله! ألهمني أن أترك
قصري وأهلي وخدمي ودُنياي، وهِمت على وجهي
في مُدن الناس، حتى ناداني الصوت فلبيت،
وجريت إلى الصحراء، ولُذتُ بكهفي وتعبدت.
الحارس الأول
:
وهِمتَ على وجهك مثله يا بِشر؟
بشر
:
نعم يا ولدي، هِمت على وجهي حافيَ
القدمين، رحت أبكي العمر الذي ضيعت، أبكي
حين يخطر لي عدم رضاه عني، وأبكي حين يشرح
لي صدري، وطلبت العلم بكل مكان؛ قدمت
الشام، وجُزت جبل لُبنان، ثم استقر بي المقام
في بغداد.
وملأت جرابي بعلوم الوقت.
وهداني الله، فقُلت: زكاتي أن أهدي
غيري
أن أَعلَم وأُعلِّم غيري ما علمت.
وجلست بصحن المسجد أقرأ وأُحَدِّث.
مرت سنوات وأنا أعظ وأهدي الناس إلى
الحق.
واجتمع الناس عليَّ.
وتحلَّق حولي الصبية والشُّبان وأصحاب
اللحية والشعر الأشيب كالثلج.
حتى فتحت عيوني يومًا فوجدت الناس تُردد
اسمي، ففزِعت وخفت.
هل أنا حقًّا بشر الزاهد، أم كذاب يشري
الدنيا بالدين؟
هل تاب الله عليَّ وغفر الذنب؟
إن كان الله حباني نِعمًا لا يحصيها
العدُّ
فلماذا يمنحني الشهرة والصيت الذائع
والمجد؟
وأفقت لنفسي فإذا بالمنحة محنةٌ.
يا ربي!
إني وجهت إليك الوجه كما وجهت
القلب.
الشهرة هي حب الدنيا، وأنا غيرك ما
أحببت.
ولزمت الدار طويلًا وبكيت.
حتى احمرَّ الجفن، ودميت أشفار العين،
بكيت.
صمت وصليت، وصليت وصمت.
ودفنت الكتبَ، فما حدثت ولا علمت.
الحارس الأول
:
وتلاميذك يا شيخ؟
بشر
:
طرقوا بابي فسكتُّ.
الحارس الثاني
:
والعلماء؟ ألم يسأل أحدٌ منهم عنك؟
بشر
:
هم أيضًا طرقوا بابي فأجاب الصمت، أخذوا
يهتفون من وراء الباب:
يا بشر! يا بشر! يا أوحد وقتك علمًا
وجلالًا! يا من فُقت أهل عصرك بالزهد
والورع! الناس تأس عنك وتدعوك لتَتَبرَّك بك،
لا تحرمهم منك! لا تحرمهم منك!
فتحت الباب وأنا أصرخ:
يئست! يئست! يئست!
يا معشر العلماء يا مِلح البلد!
ما يصلح الملح إذا الملحُ فسد؟!
أجيبوني: ومن يصلح العلماء إذا فسدوا؟
صار العلم إلى قومٍ يأكلون به، ويطلبون به
الرياسة والقرب من الأمراء، وكيف أعبأ بكم
أو أبشُّ في وجوهكم وأنتم تتحاسدون على
الدنيا، وتجرحون أقرانكم عند الرؤساء؟
أتخافون أن يميلوا إلى غيركم بسُحتهم
وحطامهم؟ وَيْحكم يا علماء السوء! أنتم ورثة
الأنبياء، ورَّثوكم العلم فحملتموه ولم
تعملوا به، ألم تعلموا أن كل حرفٍ منه يدل
صاحبَه على الهرب من الدنيا؟ حسبي أقوام
موتى يحيا القلب بذكرهم، عمِلوا ولم
يقولوا، أما أنتم فتقولون ولا تعملون؛
ولهذا يقسو القلب برؤيتكم، لا لن أفتح لكم
بابًا، لن أطأ لكم مسجدًا، لن أؤمكم في
صلاة، إنما أعمل لآخرتي لا لدنياي؛ ولهذا
لن أبرح داري، لن أبرح داري.
المرأة
:
يا شيخ! ومن يطعمك إذا جُعت؟
الحارس الأول
:
من يسقيك إذا أنت ظمئت؟
بشر
:
يطعمني من يطعم أفراخ الطير وأمم النمل،
لم تكن المعضلة أن أجوع وأعطش.
المرأة
:
قد تمرض وتُحَم؟
بشر
:
كانت معضلتي أن أفهم معنى العمل بما
أعلم، أن أجيب على سؤالٍ يمضني ويجرعني
مرارته ألهذا الجوع خُلقت؟ أبهذا العطش
أمرت؟ إنها تشهد بقدرة الله عليَّ، فبماذا
تشهد قدرتي التي وهبني الله؟
الحارس الأول
:
لا أفهمك يا شيخ.
بشر
:
ولا أنا فهمتُ نفسي يا بُني، رحت أسألها
وأنا لا أكف عن البكاء ماذا أصنع بعلمي؟
ولماذا ألوم علماء زماني وأنا لا أعمل
شيئًا؟ هل يكفي أن أعلَم وأزهد، أم لا بد
أن أزهد وأعمل؟ وماذا أعمل؟ ماذا أعمل؟
المرأة
(تمسح دموعها)
:
أبكيتني يا شيخ، وماذا فعلت؟
بشر
:
أنا أيضًا بكيت يا امرأة، بكيت ولم أفعل
شيئًا، إلا أن أتوقف عن كل فعل، حتى كان
يومٌ خرجت فيه إلى الطريق وتجولت في السوق،
ورجعت لبيتي وأنا لا أحبس طوفان الدمع،
وفتحت الباب فإذا به يقف أمامي، لا لا! بل
كان يصلي، وانتظرت حتى سلَّم.
الحارس الأول
:
من يا بشر؟
بشر
:
من علمني ما كنتُ نسيت.
الحارس الأول
:
من يا شيخ؟
بشر
:
الخَضِر.
الجميع
:
سيدنا الخضر؟