المشهد الثاني
بشر
:
نعم يا أولادي، كان هناك أمامي، أراه
كما أراكم، طويلًا ونحيلًا كنخلةٍ خضراء،
عليه ثوب أخضر، حول رأسه عمامة خضراء، من
وجهه وجبينه تشع الخضرة وتلف المكان في
سحابةٍ خضراء، كان التعب يخترق لحمي وعظمي
كأنه منشار نجَّار، وكنت قد جمعت في جرابي
من كِسَر الهم والعجز ما تنوء بحمله عشرة
جِمال، لم أدرك في البداية إلا أنه غريب
اقتحم بيتي دون إذني، انتظرت حتى أتم
صلاته وسلم، قلت له.
بشر
:
كيف تدخل داري والمفتاح في جيبي؟
(يقوم أحد الحراس بعد أن يشير إليه بشر ليمثل الدور، بشر يُلقِّنه الكلمات في البداية حتى يندمج في التمثيل.)
الحارس
:
ألا تعلم أني لا أحتاج لأبوابٍ ولا
نوافذ؟
بشر
:
لكنك أفزعتني فوق فزعي!
الحارس
:
ولماذا تفزع يا شيخ؟ أنا أخوك الخضر.
بشر
:
الخضر؟ في بغداد؟
الحارس
:
بل في دارك وتراه أمامك.
بشر
(جاثيًا على
ركبتيه)
:
مولاي! يا من يخضَرُّ الصخر إذا
لمسته قدمك.
يا قائد ذي القرنين إلى نبع
الخلد!
احملني معك إلى الصخرة؛ كي أتطهر
روحًا ويدَين.
باركني يا مولاي! أغثني! كفكف
دمع العين!
الخضر
:
فليسترها الله عليك.
بشر
:
يا من تعرف سر الغيب
المستور،
وتقرأ لوح المقدور.
يا هادي السفن التائهة بعرض
البحر.
اهدِ سفينة بغداد إلى الخير
الخضر
:
اجلس يا بشر، أعلم أنك شيخ الزهاد
ببغداد.
بشر
:
ومنك تعلمنا الزهد، لكن الناس …
الخضر
:
الناس؟ ماذا يضنيك؟ تكلم.
بشر
:
الناس تخون وتغدر.
تعصي الله، وتسدر في الغي
وتفجُر.
عادت يأجوج ومأجوج.
الخضر
:
فأقِم السد! يا بشر الحافي أقم السد!
بشر
:
اشتد السيل، فهل يملك فرد مغلول
اليد.
أن يقف وحيدًا في وجه
المد؟
ليتك كنت معي يا شيخ الزهد.
الخضر
:
كان الزهد معك … فماذا فعلت؟
بشر
:
لأنه كان معي لم أفعل شيئًا.
الخضر
:
أنا بالزهد عرفت، وتطهرت، وخلدت
إلى يوم يقوم الناس من اللحد.
فلماذا لم تفعل شيئًا؟
بشر
:
لأني عارٍ لا أملك غير
الزهد.
رحت أجوب الطرقات وأمشي في
الأسواق.
وعيون الموتى الأحياء تُحدِّق فيَّ
وتلعنُني.
مسكينٌ أنت، وماذا تملك للمسكين
سوى العطف؟
هل عندك ثوب للعريان، طعام
للجوعان، وستر للبردان؟
أبِيَدِك القوة لتردَّ سياط الطاغية
وتنزع سيف الطغيان؟
وترى الأطفال تموت على
أيدينا.
لا لبنَ لديك ولا خُبز نراه
بيديك.
وبماذا تُحسِن يا عُريان، وأنت
جديرٌ بالإحسان؟
ليتك كنت معي يا خضر لتستر خجلي
من ضعفي، من قلة شأني.
ليتك جربت هوان العاجز حتى تشعر
بهواني!
الخضر
:
الزاهد يغنيه الزهد عن الناس، أنت غني
يا بشر وأغنى مما تتصور.
بشر
:
ولهذا سخِر مني الجيران.
الخضر
:
ألم يُغنِك الصمت عن كلامهم؟
بشر
:
ولم يمنعهم من الكلام.
الخضر
:
اهدِ خطاهم لله، فيقوى الأضعف
ويلين الأقوى لدعاء الله.
قم يا بشر وخذ بيدهم
للإيمان.
وارفع أعلام الحق على رأس
الظالم والمظلوم.
فوق القصر وفوق الكوخ، بقلب
الحاكم والمحكوم.
قم يا بشر ولا تيأس من رحمة ربك.
بشر
:
أتراني أصنع شيئًا؟
الخضر
:
تصنع إنسانًا من أنقاض حطام.
بشر
:
وبماذا أبدأ؟
الخضر
:
تبدأ بالنفس، تطهرها.
بشر
:
النبع بعيد يا شيخي … لوَّثه سم الثعبان.
الخضر
:
النبع الأطهر في صدرك. فتطهَّر منه ولا
تشرك.
بشر
:
حاشا لله … وهل أقدر؟
الخضر
:
الزهد جهاد يا ولدي.
بشر
:
جاهدت النفس فلم أقدر.
الخضر
:
يا بشرُ اصبِر.
أخرج من نفسك، واترك
بيتك.
اعط كنوزك للفقراء وأطعمهم من
خبز الحكمة،
واروِ الظامئ من ماء
الرحمة.
انظر يا بشر … هناك هناك في
جامع مهجور.
بشر
:
أين يا شيخ؟
الخضر
:
على بعد أربعين فرسخًا … مريض يحتضر ولن
تخطئه عينك أو قلبك … أطعمه وخذه على صدرك
… القرية تنتظر وتصبر … وسيصحو جارك في
الفجر وينظر.
بشر
:
جاري؟ والقرية؟ والجامع المهجور … أية
أسرار تعلنها؟
الخضر
:
قم يا بشر وأبشر … قم يا بشر وأبشر.
(يمد يده إليه، يتحرك بشر نحو الباب، يتبعه الخضر ويودعه.)
المرأة
:
وقمت يا بشر؟
حارس
:
وذهبت إليه؟
الجميع
:
زدنا يا بشر … زدنا يا بشر.