المشهد الرابع
بشر
:
مضيت إلى السوق كقطٍّ عجوز يخرج من نفقٍ
مظلم، ناجيتُ ملائكة العرش أن ترسل لي
شعاعًا، أو ريشة تحملني فوق ظلام العالم
وحوله، وفتحت عيني، ماذا أرى؟ كل شيء
كأنني أراه بعينَي آدم أول مرة، كل شيء
يرمقني في دهشةٍ ويسأل: من أنت؟ وماذا
تريد؟ أعرف أسماء الشجر والطير والحيوان،
وما يدب على الأرض أو يرفرف في السماء،
لكني لست بآدم، ما علمت جميع الأسماء،
أهؤلاء هم البشر؟ يرمقني الطفل الضامر
كجرادة: هل جئت ومعك الخضرة؟ تسألني عين
عجوز تبحث في كوم قمامة: هل تعرف معنى
الجوع إلى كسرة خبز؟ تلعنني نظرات
الشحاذين والمجذومين والعُرج والعميان
والمشوَّهين، مسنودين إلى جدارٍ أو مزدحمين
على باب، أو قابعين في الأركان كالحجارة
الخرساء، أو ممددين في الشمس كالخنافس
المرتعشة، ينظر إليَّ الجميع، ينظرون، لا
يتوقع أحدٌ مني شيئًا، قد يفزع إليَّ عابر
سبيل فيقبل ثوبي أو يلثم كفي، لكن العيون
ترى أطماري وتشفق على حالي، وتنتظر أن يُقعي
جسدي بجانبها ويتمدد في الظل، لم أجد
الوقت لكي أسأل نفسي، لم تكد عيني ترتد
إلى قلبي لتنظر وتتطهر. فوجئت وفوجئَتْ معي
الكتل الصماء البكماء العمياء بزلزالٍ يرجُّ
أرض الشارع وينحدر من بعيدٍ كنذير الشؤم،
فتحت عينيَّ، فتحتهما على الركب الزاحف
بالخراب، وانجلت سحابة الغبار عن ركب سباع
جائعة أو ثيران مندفعة، يتوسطها الثور
الأكبر مزهوًّا كالصاعقة بقلب الليل، مع
أنَّا في عز الظهر، والشمس اللاهبة تكوي
الأعين وتشوي الوجوه والظهور، ارتعد
العجَزة والأطفال، نهض العرج والمشلولون
كأنهم يهرعون إلى بركة المسيح، زحف الصغار
والكبار وتزاحموا من جوف القمقم، والمارد
يصرخ ويصيح: إليَّ إليَّ يا غِربان! أقبل يا
ظمآن ويا جوعان! أعطوهم يا حراس أعطوهم،
من مالي والمال حرام! ها ها ها! المال
حرام في جيب القتلة والأعيان، وتجار السوء
الأوغاد، والمال حلال في جيب كريم وجواد،
يأخذه من أصنامٍ بخلاء، وينفقه حبًّا في
الله على الجوعى والفقراء، ينثره فوق كلاب
الأرض المنبوذين التعساء. هيا هيا يا حراس! أعطوهم أعطوهم أعطوهم، صاح رجل: أسد
فاتِك، من عانده هالِك. وهتفت امرأة: ينزل
من بطن الجبل لينثر ذهبًا، أو ينشر خوفًا
في الناس ورعبًا، الأسد الفاتك … الأسد
الفاتك … وامتدت الأيدي المعروقة تسُد عين
الشمس، وتصايحت الجموع كأسراب الغربان
العطشى للأمطار، بورك في سيدنا … بورك فيك
وفي مالك يا قارون … قاطعهم بصوته الأجش
كصوت العاصفة يدوِّي وسط الأنقاض: بل قولوا
يا سيد بغداد … فأنا سيد بغداد. قالوا في
صوتٍ واحد: سيد بغداد! سيد بغداد! تهبط من
رأس الجبل إلينا بالماء وبالزاد. صاح
فارتجت الأركان، وانتفض الهواء وارتعشت
الظلال والأضواء: ويل للسفلة والأوغاد!
أين السفلة والأوغاد؟
وتلفتُّ أبحث عن العَسَس ليلقموا هذا الكافر حجرًا أو يضعوا في يده وساقه قيدًا، لكنهم يختفون عندما تشتد الحاجة إليهم، ورأيت التجار على جانبي السوق يهرعون وأيديهم ترتعش بما حملت؛ نُقلٌ وحبوب وفاكهة وتمر وزيتون، تُحف من أقمشة وستائر وحرير وسجاد، والكل ينحني أمام الصنم المنتفخ بظهر السوق ويلقي بهداياه على الأعتاب، والصنم يضحك ويرتج كبحرٍ هائج؛ المراكب تهتز على سطحه وتنتظر أوامره، والفقراء المشلولون المجذومون يلتفون حوله كالسمك الجائع حول سفينة حوت. وأنا أقف هناك بعيدًا وقفة طفل مذهول. وفجأة ينفذ الثور من الدائرة المحكمة وهو يصيح: أمسكوها! لا تدعوها تفلت منكم! يُرتَجُ على الآخرين، يُسرع بعض حراسه إليه: من يا سيد بغداد؟ من؟ ويتحشرج زئيره: الكافرة، الناكرة النعمة، لا تدعوها تفلت منكم يا أوغاد! وتنقض الأيدي على امرأةٍ كانت تمر من جانب الطريق وتقف بباب دكان، ممتلئة، بيضاء الوجه في ثوبٍ أسود فضفاض، وتلمع سكين امتشقها الثور وهو يندفع نحوها، والحراس يقدمونها إليه كما تقدم الذبيحة للجزار. الكافرة الخائنة العهد! تتحداني هي والوغد. وتذهل الوجوه الملتفة حوله ولا تجسر على فتح أفواهها! تصرخ المرأة وتستغيث: ويلاه! ويلاه! من ينقذني من هذا الوحش! من ينقذني من هذا الوحش!
لم أنَم الليل بطوله.
حاولت أردد آيات الله.
قمت لأتهجد.
رحت أدق على باب الرحمة
واللطف.
أغلق في وجهي الباب
بعنف.
حتى بحر دموعي جف.
يا ربي! لمَ يجفوني نورك!
هل خاصمني ملكوتك؟
وسمعت الصوت يقول: قم يا بشر؟
قم يا بشر!
افتح عينيك على العالم وانظر ما
فعل الناس.
أغمضتَ العين طويلًا فاذهب
للناس.
يا رب! أنا ما أغمضت العين
طويلًا إلا لأشاهد نورك.
نوري في كل مكان!
شمسي تسطع في الكون الظاهر
والكون الباطن.
فوق الروضة والأكفان.
الدنيا جرحٌ مفتوح يا بشر
الحافي.
قم داوِ الجرح وطهره، فدواؤك
شافي.
سبحت بحمد الله بكيت
وبكيت.
صحت بصمت الجدران
وبالأشباح:
أين المصباح المصباح؟
هتف الصوت ففتَّح جرحًا بعد
جراح:
فتِّش عنه بقلبك واجل زجاج
المصباح.
قم يا بشر وأسرج نورك من زيت
الصبر.
يا ربي منك الخير ومنك الشر.
منك سواد الليل ومنك الفجر.
أفَلَت يا ربي شمسُ العُمر.
والشمعة تخفق واهنة في قبر
الصدر.
هل تصمد في ليل العالم لرياح
الشر؟
وأنا العاجز يا ربي، وظلام ذنوبي
كالبحر؟
جاء الصوت:
يا كَوْنًا أصغر في الكون
الأكبر.
يا قطرة ماء تسع البحر
وأكثر.
قم يا بشر وأبشر!
لبستُ الأطمار، فتحت
الباب.
وضعت القدم على أرض الشارع
وهتفت:
يا رب!
نور ظلمة كوني الأصغر من شمس
الكون الأكبر!
وأضئ مصباحي الأصغر من نور
المصباح الأكبر!
نور المصباح الأكبر.
وتلفتُّ أبحث عن العَسَس ليلقموا هذا الكافر حجرًا أو يضعوا في يده وساقه قيدًا، لكنهم يختفون عندما تشتد الحاجة إليهم، ورأيت التجار على جانبي السوق يهرعون وأيديهم ترتعش بما حملت؛ نُقلٌ وحبوب وفاكهة وتمر وزيتون، تُحف من أقمشة وستائر وحرير وسجاد، والكل ينحني أمام الصنم المنتفخ بظهر السوق ويلقي بهداياه على الأعتاب، والصنم يضحك ويرتج كبحرٍ هائج؛ المراكب تهتز على سطحه وتنتظر أوامره، والفقراء المشلولون المجذومون يلتفون حوله كالسمك الجائع حول سفينة حوت. وأنا أقف هناك بعيدًا وقفة طفل مذهول. وفجأة ينفذ الثور من الدائرة المحكمة وهو يصيح: أمسكوها! لا تدعوها تفلت منكم! يُرتَجُ على الآخرين، يُسرع بعض حراسه إليه: من يا سيد بغداد؟ من؟ ويتحشرج زئيره: الكافرة، الناكرة النعمة، لا تدعوها تفلت منكم يا أوغاد! وتنقض الأيدي على امرأةٍ كانت تمر من جانب الطريق وتقف بباب دكان، ممتلئة، بيضاء الوجه في ثوبٍ أسود فضفاض، وتلمع سكين امتشقها الثور وهو يندفع نحوها، والحراس يقدمونها إليه كما تقدم الذبيحة للجزار. الكافرة الخائنة العهد! تتحداني هي والوغد. وتذهل الوجوه الملتفة حوله ولا تجسر على فتح أفواهها! تصرخ المرأة وتستغيث: ويلاه! ويلاه! من ينقذني من هذا الوحش! من ينقذني من هذا الوحش!
الثور
:
لن ينقذك أمير، لن ينقذك وزير، الكل
أمامي يركع ويخاف.
المرأة
:
الركوع لله وحده، وأنا لا أخاف سواه.
الثور
(يلوح بسكينه)
:
ولا من هذه؟
المرأة
:
هو أقوى منك وأكبر … وسيأتي من يثأر منك.
الثور
:
تعنين الوغد؟ أفسدتِه عليَّ.
المرأة
:
بل هداه الله.
الثور
:
هل يعقل هذا يا إخوان؟ ابن أمير القتلة
والسفاحين … ابني يصبح جروًا؟
المرأة
:
أصبح شيخًا، أكرمه الله، وواعظ مسجد.
الثور
:
شيخٌ وواعظ؟ يا خجلي منك وعاري
منه! …
يا خجلي منك وعاري منه! … أين
الجرو؟
المرأة
:
لن أتكلم.
الثور
:
يتوضأ من زمزم؟ أم حجر الكعبة يلثم؟
المرأة
:
لن أتكلم.
الثور
:
السكين ستبقر بطنك حتى تندم!
المرأة
:
ويلاه! ويلاه!
الثور
:
أذبحك كما تُذبح شاة!
المرأة
:
يا مسلمين! يا مسلمين!
الثور
:
وتمزق أصل لسانك، قولي أين.
المرأة
:
لن أتكلم! لن أتكلم!
بشر
:
واندفعتُ بين الصفوف حتى وصلتُ إلى يد
الرجل، نظرت إليه ودعوت ربي، مسحت كتفه
وهمست في أذنه: إن كنت لا ترى الله فهو
يراك، إن كنت لا ترى الله فهو يراك … وقع
الرجل كما يقع الجبل على الأرض، سقطت من
يد السكين، تلوَّت كالعقرب لحظاتٍ ثم سكنت،
ساد الصمت، كبر صوت، هتفت المرأة:
المرأة
:
بشر؟ بشر الحافي!
بشر
:
افسح الحاضرون مكانًا، هللوا وكبروا،
اخترقتُ الصفوف ومضيت لحال سبيلي.
المرأة
:
وقع الثور على الأرض وساد الصمت،
والسكين بجانبه فاجأها الموت، أخذ جسده
الضخم يتلوَّى وينتفض، حرك رأسه التي ثقلت
عليه كالحجر وتطلع للحاضرين، تحشرج صوته
قبل أن يقولك صاعقةٌ هذا؟ برق أم رعد؟
رجل
(من الحاضرين)
:
بل شيخ من أحباب الله.
الثور
:
بشر الحافي؟
رجل
:
شيخ الزهاد ببغداد.
الثور
:
لا أحد سواه، وقعت هيبته فوقي فوقعت.
المرأة
:
هل صدقت؟ هل صدقت؟
الثور
:
يا امرأة السوء … شمتِّ؟
المرأة
:
أرسله الله ليثأر منك.
الثور
:
سامحه الله … ادعيه إليَّ.
رجل
:
بشر! يا بشر!
رجلٌ آخر
:
ذهب كما جاء.
رجلٌ ثالث
:
ملح ذاب ببحر الله.
المرأة
:
تقلصت شفتاه وتلوت يداه ورجلاه، مد
رقبته وفتح فمه فلم تخرج منه إلا حشرجة
محتضر. صاح الحراس.
حارس
:
سيدنا، سيد بغداد!
حارس
:
راعي الغربان السوداء.
شحاذ
:
وراعي الفقراء.
حارس
:
أين طبيب الحي؟
المرأة
(تنظر إليه وتنحني
فوقه)
:
لن ينفع فيه دواء.
حارس
:
أنتِ قتلتِه! أنت قتلته!
المرأة
(ساخرة)
:
اترك تلك السكين.
حارسٌ آخر
:
اتركوها! اتركوها! سأقطع اليد التي تمتد
إليها.
المرأة
:
وأقبل الحارس عليه يحمله، نظر إليه
فوجده يبكي، نادى على رفاقه فحملوه معه …
سألوه إلى أين؟ فقلت: الأسد يعود إلى
الحفرة … والزوج الغائب.
حارس
:
البيت الدافئ والحجرة.
بشر
(ينهض ويكمل
دوره)
:
كنت قد دخلت داري وأسرجت مصباحي، لم أكد
أتهيأ للصلاة حتى دق الباب، قلت صلاتي
أولى ورفعت يدي، دق الباب ونادى الصوت.
المرأة
:
يا بشر! افتح يا بشر!
بشر
:
فتحت الباب فوجدتها أمامي، شدت يدي
وبللتها بدموعها.
المرأة
:
زوجي يا بشر!
بشر
:
هذا الثور الهائج.
المرأة
:
شيخ القتلة يبكي كرضيعٍ جائع.
بشر
:
هذا الجبار الظالم.
المرأة
:
هو زوجي يا بشر.
بشر
:
اذهبي يا امرأة.
المرأة
:
بل تحضر معي.
بشر
:
ستر الله عليك … قلت: اذهبي.
المرأة
:
وتضن ببركتك عليه؟
بشر
:
أُبارك ثورًا … ذئبًا … أسدًا يفتك بالأنفس؟
المرأة
:
لا تتركه يموت وفي نفسه حاجة.
بشر
:
وما حاجته؟
المرأة
:
أن تلمس وجهه، تمسح بيمينك دمعه، تقبل
توبته.
بشر
:
إن صحَّت يقبلها الله.
المرأة
:
لن يقبلها إلا منك.
بشر
:
وعادت تبلل كفي وطرف ردائي بدموعها،
أغلقت الباب ورائي وذهبت معها، ولم أكد
أدخل من الباب وتقع عيناه عليَّ …